يتم التحميل...

بماذا تنعقد الإمامة عند أهل السنّة؟

الإمامة والخلافة

إن الامامة عند أهل السنة أشبه بسياسة وقتية زمنية، يقودها الحاكم العادي مع كفاءات ومؤهلات، تطابق شأنه. وعلى ذلك يرجع تعيين الإمام إلى نفس الأُمّة، لا إلى الله سبحانه ولا إلى رسوله، وهم قد اختلفوا فيما تنعقد به الإمامة على اقوال شتّى نأتي ببعضها...

عدد الزوار: 23

إن الامامة عند أهل السنة أشبه بسياسة وقتية زمنية، يقودها الحاكم العادي مع كفاءات ومؤهلات، تطابق شأنه. وعلى ذلك يرجع تعيين الإمام إلى نفس الأُمّة، لا إلى الله سبحانه ولا إلى رسوله، وهم قد اختلفوا فيما تنعقد به الإمامة على اقوال شتّى نأتي ببعضها:

1- قال الإسفرائيني: ( 344-406 هـ) في كتاب الجنايات: "وتنعقد الإمامة بالقهر والإستيلاء، ولو كان فاسقاً أو جاهلاً أو عجمياً"1.

2- قال الماوردي (م 450 هـ): "إختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم، على مذاهب شتّى. فقالت طائفة: لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل العقد والحلّ من كل بلد، ليكون الرضا به عامّاً، والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها، ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.

وقالت طائفة أخرى: أقلُّ ما تنعقد به منهم الإمامة، خمسة يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة، استدلالاً بأمرين: أحدهما: أنّ بَيْعة أبي بكر إنعقدت بخمسة إجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها، وهم عمر بن الخطاب، وأبو عُبّيدة بن الجراح، وأُسيد بن حضير، وبشر بن سعد، وسالم مولى أبي حُذيفة.

والثاني: أنّ عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة. وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الإثنين، ليكونوا حاكماً وشاهدَيْن، كما يصحّ عقد النكاح بِوَلي وشاهدين.

وقالت طائفة أُخرى: تنعقد بواحد، لأَنَّ العباس قال لعلي: امدُدْ يَدَكَ أُبايعك، فيقول النَّاس عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بايعَ ابن عمّه، فلا يختلف عليك اثنان. ولأنّه حُكْمٌ، وحكمُ واحد نافذٌ"2.

3- قال إمام الحرمين الجويني (م 478 هـ): "إعلموا أنّه لا يُشترط في عقد الإمامة الإجماع، بل تنعقد الإمامة، وإن لم تُجْمع الأُمّة على عَقْدها. والدليل عليه أَنَّ الإمامة لمّا عُقدت لأبي بكر، إبتدر لإمضاء أحكام المسلمين ولم يتأنّ لانتشار الأخبار إلى مَنْ نأى من الصحابة في الأقطار، ولم يُنكر عليه مُنْكِر. فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة لم يَثْبت عدد معدود، ولا حدٌّ محدود، فالوجه الحكم بأنّ الإمامة تنعقد بعقدِ واحد من أهل الحَلّ والعقد"3.

4- قال القُرْطُبي: (م 671 هـ): "فإنْ عَقَدها واحدٌ من أهل الحلّ والعقد، فذلك ثابت، ويلزم الغير فعله، خلافاً لبعض الناس، حيث قال: لا تنعقد إلاّ بجماعة من أهل الحلّ والعقد، ودليلنا: أنّ عُمَر عقد البيعة لأبي بكر، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك (ولعل القرطبي لم يقرأ مأساة السقيفة بين المهاجرين والأنصار، وإلاّ فالإعتراض والنزاع كان قائماً على قدم وساق ويكفي في ذلك مراجعة كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة، وتاريخ الطبري، وسيرة إبن هشام، وكتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري المتوفّى عام 280 هـ . وفيما يأتي من المباحث نشير إلى بعض تلك الوقائع). ولأنّه عَقْدٌ، فوجب أن لا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود"4.

5- وقال القاضي عضد الدين الإيجي (م 757 هـ): "المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة، وأنّها تثبت بالنّصّ من الرسول، ومن الإمام السابق، بالإجماع، وتثبت ببَيْعَة أهل الحلّ والعقد. لنا، ثبوت إمامة أبي بكر بالبَيْعة".

وقال: "وإذا ثبت حصول الإمام بالإختيار والبَيْعة، فاعلم أنّ ذلك لا يفتقر إلى الإجماع، اذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع، بل الواحد والإثنان من أهل الحلّ والعقد، كاف، لعِلْمِنا أنّ الصحابة، مع صلابتهم في الدين، اكتفوا بذلك، كعقد عمر لأبي بكر، وعَقْد عبد الرحمن بن عوف لعُثْمان، ولم يشترطوا اجتماع مَنْ في المدينة، فضلاً عن إجماعهم هذا، ولم ينكر عليه أحد، وعليه انطوت الأعصار إلى وقتنا هذا"5.

6- وعلى ذلك مضى شارح المواقف السيد شريف الجرجاني (م 816 هـ)6.

7- وقال التفتازاني (م 791 هـ): "وتنعقد الإمامة بطرق: أحدها: بيعة أهل الحلّ والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه النّاس الذين يتيسر حضورهم من غير اشتراط عدد، ولا اتّفاق مَنْ في سائر البلاد، بل لو تعلّق الحّلُّ والعَقْدُ بواحد مطاع كفت بيعته.

الثاني: إستخلاف الإمام وعهده، وجعله الأمر شورى بمنزلة الإستخلاف، إلاّ أنّ المستخلَف عليه غير متعين فيتشاورون، ويتفقون على أحدهم، وإذا خَلَع الإمام نَفْسَه كان كموته، فينتقل الأمر إلى ولي العهد.

الثالث: القَهْرُ والإستيلاء، فاذا مات الإمام وتصدّى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف، وقَهَرَ الناس بشوكته، انعقدت الخلافة له وكذا إذا كان فاسقاً أو جاهلاً على الأظهر"7.

يلاحظ على هذه الأقوال والنظريات
أولاً: إنّ موقف أصحاب هذه الأقوال في المسألة، موقفُ من اعتقد بصحة خلافة الخلفاء، فاستدلّ به على ما يرتئيه من الرأي، من انعقادها بواحد أو اثنين، أو اتّفاق من تيسّر حضوره، دون النائين من الصحابة، وغير ذلك.

وهذا النَّمَط من الإستدلال، إستدلال بالمُدّعى على نفس المُدّعى، وهو دور واضح. والعجب من هؤلاء الأعلام كيف سكتوا عن الإعتراضات الهائلة الّتي توجهت من نفس الصحابة من الأنصار والمهاجرين على خلافة الخلفاء، الذين تمّت بَيْعتهم، بِبَيْعة الخمسة في السقيفة، أو بَيْعة أبي بكر لعمر، أو بشورى السِّتَّة، فإنّ من كان مُلِمّاً بالتاريخ ومهتماً به، يرى كيف كانت عقيرة كثير من الصحابة مرتفعة بالإعتراض. حتى أنّ الزُبير وقف في السقيفة أمام المبايعين، وقد اخترط سيفه، وهو يقول: "لا أُغمده حتى يبايَعَ عليٌّ". فقال عمر: "عليكم الكلب"!. فأخذ سيفه من يده، وضرب به الحجر، وكُسِرَ8.

ويكفي في ذلك قول الطبري أنّه قام الحباب بن المنذر "وانتضى سيفه" وقال: "أَنا جُذَيْلُها المُحَكَكُ، وعُذَيْقُها المُرَجَّب، أنا أبو شبل، في عرينة الأسد، يعزى إليّ الأَسد، فحامله عمر، فضرب يده، فندر السيف، فأَخذه، ثم وثب على سعد (بن عبادة) ووثبوا على سعد وتتابع القوم على البيعة، وبايع سعد، وكانت فلتة كفلتات الجاهلية، قام أبو بكر دونها، وقال قائل حين أُوطيء سعد: قتلتم سعداً. فقال عمر: قتله الله، إنّه منافق. واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه9. (وفي رواية أخرى للطبري أنّ عمر قام على رأس سعد، وقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك. فأخذ سعد بلحية عمر، وقال: والله لو حصحصت منه شعرة ما رَجِعْتَ وفيك واضَحة، أما والله لو أنّ بي قوة ما أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيراً يُجْحِرك وأصحابك (أي يلزمهم دخول الجحر، وهو كناية عن شدّة التضييق)، أما والله، إذاً لألحقنّك بقوم كُنْتَ فيهم تابعاً غير متبوع، احملوني من هذا المكان". فحملوه، فأدخلوه في داره. وتُرك إياماً، ثم بعث إليه أن أَقْبل، فبايع، فقد بايع الناس، وبايَعَ قومُك. فقال: أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي وأُخَضِّب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما مَلِكَتْهُ يدي، وأُقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعل. وأَيْمُ الله، لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أُعرَضَ على ربّي، وأعلم ما حسابي". فكان سعد لا يصلّي بصلاتهم ولا يُجْمع معهم، ولا يفيض معهم إفاضتهم، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر10. وسعد بن عبادة سيد الخزرجيين).

هذه نبذة يسيرة من الأصوات المُدَوّية الّتي عارضت الخلافة والخليفة المنتخب، وكم لها من نظير في السقيفة والشورى وغيرهما ضربنا عنه صفحاً. أفيصح بعد ذلك قول القرطبي: "ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك"، وكأَن الحباب، وسعداً، وابنه قيس، وعامة الخزرجيين، وبني هاشم، والزبير، لم يكونوا من الصحابة؟!.

وثانياً: إنّ هذا الإختلاف الفاحش في كيفية عقد الإمامة، يعرب عن بطلان نفس الأصل لأنّه إذا كانت الإمامة مفوضة إلى الأُمّة، كان على النبي الأكرم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة، وأنّه هل تنعقد بواحد أو إثنين من الصحابة؟ أو تنعقد بأهل الحلّ والعقد منهم؟ أو بالصحابة الحضور عند رحلة النبي أو رحلة الإمام السابق؟ أو باتّفاق جميع المسلمين بأنفسهم، أو بممثليهم؟

وليس عقد الإمامة لرجل، أقلّ من عقد النكاح بين الزوجين الّذي اهتمّ القرآن والسنّة ببيانه وتحديده، كما اهتمت السنّة على الخصوص بشؤونه وأحكامه. والعجب أنّ عقد الإمامة الّذي تتوقف عليه حياة الأُمّة، لم يطرح في النصوص، لا كتاباً ولا سنّة "على زعم القوم" ولم تُبَيَّن حدوده ولا شرائطه، ولا سائر مسائله الّتي كان يواجهها المسلمون بعد وفاة النبي الأكرم مباشرة!!

وجملة القول، إنّ اختلافهم في شرائط الإمام وطرق تنصيبه، جعل الخلافة وبالاً على المسلمين، حتى أخذت لنفسها شكلاً يختلف كلّ الإختلاف عن الشكل الّذي ينبغي أن تكون عليه. فقد أصبحت الخلافة الإسلامية، إمبراطورية، وملكاً عضوضاً، يتناقلها رجال العَيْث والفساد، من يد فاسق، إلى آخر فاجر غارق في الهوى، إلى ثالث سفّاك متعصّب. وقد أعانهم في تسنم ذورة تلك العروش، مرتزقة من رجال متظاهرين باسم الدين، فبرروا أفعالهم، ووجّهوا أعمالهم توجيهاً ملائماً للظروف السائدة، وصحّحوا إتجاهاتهم السياسية الخاصة، فخلقوا في ذلك أحاديث وسنن مفتعلة على صاحب الرسالة، واصطنعوا لهذا وذاك فضائل، لتدعيم مراكزهم السياسية، ويكفيك النموذج التالي، لتقف على حقيقة تلك الأحاديث المفتراة.

رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهُدايَ، ولا يَسْتَنّون بسُنَّتي وسيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال الراوي: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضَرَبَ ظهرَك، وأَخَذَ مالَك، فاسمع وأَطع"11.


* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4،ص20-25


1- إحقاق الحق، للسيد التُّسْتَري، ج 2، ص 317.
2- الأحاكم السلطانية، ص 6-7، ط الحلبي بمصر.
3- الإرشاد، 424.
4- تفسير القرطبي، ج 1، ص 260.
5- المواقف، صفحة 399-400، ط عالم الكتب.
6- شرح المواقف، ج 8، ص 351-353.
7- الإمامة والسياسة ج 1، ص 11.
8- شرح المقاصد، ج 2، ص 272، ط اسطنبول.
9- تاريخ الطبري، حوادث عام 11، ج 2، ص 459.
10- المصدر نفسه.
11- صحيح مسلم، ج 6، باب الأمر بلزوم الجماعة، وباب حكم من فَرَّق أمر المسلمين، ص 20-24، وفي البابين نظائر كثيرة لهذا الحديث.

2009-07-23