يتم التحميل...

المثل الثامن عشر: الدنيا العابرة

الأمثال في القرآن

يقول الله تعالى في الآية 24 من سورة يونس: إنَّمَا مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيَا كَمَاء أنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهَ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأكُلُ والنَّاسُ وَالأنْعَامُ حتَّى إذَا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وازّيَّنتْ وظَنَّ أهْلُهَا أنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيْهَا أتَاهَا أمْرُنا لَيْلا أوْ نَهَارَاً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدَاً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ كَذَلك نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ

عدد الزوار: 30

يقول الله تعالى في الآية 24 من سورة يونس: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَالحديث في المثل عن الحياة الدنيا العابرة، والتذكير بها خوف أن يغتر الإنسان بظاهرها الخلاّب ويتعلّق بها، فإنَّ الإنسان قد يفقد كل شيء في وقت يتصوّر أنّ كل شيء قد تهيّأ وأُعد لصالحه. ويدعو الله في نهاية الآية الإنسان للتفكير لعلّه ينقذه ويجد لنفسه من خلاله مخرجاً.

﴿إنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَااستخدمت عبارة (الحياة الدنيا) ما يقرب السبعين مرة في القرآن، والدنيا قد تعني أحد المعنيين التاليين:

ألف - أن تعني القرب، ودنيا مؤنث (أدنى)، وذلك باعتبار أن الحياة الدنيا أقرب قياساً للحياة الآخرة التي هي بعيدة نسبياً.
باء - أن يراد منها السافلة أو التافهة، ومنها اطلاق (الدني) على الإنسان الساقط والسافل. وباعتبار أنَّ الحياة الدنيا حياة تافهة وتفقد القيمة الكافية فهي حياة دنيا عكس ما عليه الحياة الآخرة فإنَّها عليا وتمتاز بالقيمة المتفوّقة.

هذا، اضافة إلى أنَّه يستفاد من آيات قرآنية مثل الآية التالية: ﴿وإنّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَان. العنكبوت/ الآية 64. أنَّ الحياة هي الحياة الآخرة فحسب، أمّا الدنيا فهي لا تستحق من الحياة إلاّ الاسم، بل هي موت تدريجي! على كل حال، فإنَّ الحياة الدنيا إمّا أنّها حياة لا قيمة لها، أو أنّها ليست حياة بالكلية.

﴿كَمَاء أنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فاخْتَلَطَ بِهَ نَبَاتُ الأرْضِ أي مثل هذه الحياة العابرة كمثل الماء الذي ينزل من السماء بقطراته الشفافة والفاقدة للون، وباختلاطه بالأرض تنمو نباتات ومحاصيل متنوّعه.
المراد من الاختلاط في الآية هو تنوّع النباتات.

إنّ النباتات على ثلاثة أقسام:

1 - القسم الذي يشكل الأغذية للإنسان مثل الفواكه والخضروات والحبوب ﴿مِمَّا يَأكُلُ النَّاس.

2 - القسم الذي يشكل أغذية للحيوانات ﴿مِمّا يَأكُلَ الأنْعَام وهي قد تشترك - نوعاً ما - بين الحيوان والإنسان كالاشجار التي يستفيد الإنسان من ثمارها، والحيوان يستفيد من أوراقها وغصونها. وقد تكون خاصة بالحيوانات مثل العلف.

3- القسم الآخر هو النباتات والأشجار التي تزيّن الطبيعة مثل الأزهار والحشائش الاخرى ﴿حَتَّى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وازيَّنت وَظَنَّ أهلُهَا أنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيْها أي في الوقت الذي هطل فيه المطر وأثمرت الاشجار وحان الوقت لجني الثمار في هذا الوقت تحدث حادثة وتخلبط كل حسابات الإنسان وتحول دون جنيه ثمار ما زرع. وهذا أمر مؤلم لمن تعلّق بالدنيا.

﴿أتَيها أمْرُنَا لَيْلا أو نَهَارَاً نعم، في الوقت الذي يرى الإنسان أن الدنيا أقبلت عليه وكشفت عن وجهها الخلاب والخادع، ويجد أنَّ كل شيء حسب ما يرام، في هذا الوقت يصدر أمر الله بالعذاب ليلا أو نهاراً لتتدمر بذلك كل الآمال والزحمات، بحيث تبدو الدنيا لم تكن شيئاً مذكوراً. إنّ كلمة "أمْرُنَا" في الآية الشريفة تدعونا للدقة والتأمل الوافر من حيث إنّها تضمُّ موارد ومصاديق كثيرة وتشمل كل أنواع العذاب الذي يصدر من الله. نشير إلى بعض من تلك المصاديق.

1 - قد تؤمر مجموعة من الحيوانات تبدو كأنها ضعيفة مثل الجراد، فتؤمر الجراد لتهجم على مزرعة بشكل كتلة، لم تبقِ منها شيئاً إلاّ أكلته أو دمرته، كما يحصل ذلك بين الحين والآخر في بعض الدول.

2 - وقد يلقى هذا الأمر على عاتق السموم من الرياح، فيؤمر بتنفيذ مهمة العذاب الإلهي، وهو عندما يمرّ بشيء يسمّه ويجفّفه، بحيث إذا مرّ من مزرعة أبدلها إلى رماد يذهب مع الريح.

3 - وقد يتكفل بتنفيذ المهام الإلهية موجود هو أخطر من ريح السموم، مثل الصاعقةالتي تدمّر كل شيء تصطدم به مثل الجبال والاشجار والانعام والناس، أو مثل موجودات أخرى .

هناك نقطة مثيرة تضّمنتها عبارة ﴿لَيْلا أوْ نَهَارَاً وهي أنَّ الإنسان لا خيار له غير التسليم والخضوع للعذاب الإلهي. ولا يفرق في ذلك الليل والنهار ولا يتصّور أن الإنسان سوف يخضع للعذاب في الليل باعتباره مسلوب القدرة آنذاك، بل انَّ العذاب إذا نزل سيستسلم له الإنسان سواء كان نازلا في الليل أو في النهار.

﴿فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدَاً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بالأمْس أي عندما يصدر أمر بالعذاب تتهدم ممتلكات الإنسان وتدمّر مزارعه في آن، بحيث لا تبدو الأرض وكأنها كانت مزروعة قبل لحظات، بل تبدّل إلى كومة من الرماد.
﴿كَذَلك نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ أي أنَّ اهداف هذا المثل لا يدركها إلاّ الذين يتفكّرون فيه، ولا يدرك غور هذه الآيات الإلهية إلاّ بالتفكّر والتأمل الذي لا توجد عبادة أرفع مستوى منه.

ففي الآية الشريفة شُبِّه الإنسان وحياته الدنيا بالمطر، وبذلك يشير القرآن إلى قابليته وأهليته العالية، فاذا فُعّلت هذه الأهلية لأمطرت عليه ثماراً من قبيل الابتكار والخلاقية المتنوّعة، ولاستخدم كل طاقته في سبيل الحياة الأفضل، ولنشط في مختلف المجالات، ولاستهلك طاقات جمة في سبيل بلوغ الأهداف الخاصة. إلاّ أنَّ حادثة تحصل فجأة تخيّب كل آماله وتدمّر كل ما جناه في حياته حتى هذه اللحظة ليبدو وكأنه لم يفعل شيئاً لحياته أبداً ولم يكن قد فعل وتحمّل لأجل ضمان المستقبل.

إنَّ هذه الحوادث هي (الأمر الالهي)، وقد تتبلور في داخل جسم الإنسان ويسلّم لها الإنسان رغم ضعتها وصغرها. وعلى سبيل المثال قد تحصل جلطة في دم الإنسان تسري في الشرايين لتصل إلى القلب فتحدث سكتة فيه، أو تصل إلى الدماغ فتحصل سكتة فيه أيضاً قد تتسبب في شل جزء من جسمه إذا لم تمته.

والأبسط من ذلك هو أن يأمر الله تعالى خلية من خلايا جسم الإنسان لتتكاثر بشكل غير متعارف وبتصاعد هندسي كأن تصبح الخلية خليتين والخليتان أربع خلايا والأربع ثمانية والثمانية ستة عشر وهكذا إلى أن تتبدّل فجأة إلى غدة سرطانية تنتشر في جميع بدنة شيئاً فشيئاً لتجعل من الإنسان قعيد البيت ﴿فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ فيبدو وكأنه قد مات منذ سنوات وآماله قد اندثرت منذ ذلك الحين.

وقد يلقى الأمر الإلهي في عهدة حادثة خارجية مثل الزلزلة أو الطوفان أو الاعصار أو الشهاب السماوي او غير ذلك. هذا المثل وما شابهه من الحوادث التي شهدناها طوال عمرنا مرات عديدة بمثابة صافرة الانذار تحذرنا أن لا تغرّنا الحياة الدنيا ولا نتعلّق بها ولا نرتكب الجرائم لأجل بلوغ الأهداف الدنيوية الآنية. فمن المناسب أن نفكر بعمق في هذه الآية الشريفة وفي أمثالها، ونعدّها كالمصباح نستنير به الطريق. ﴿كَذَلك نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ فتفكّر أيها الإنسان بما سيحل بك بعد انقضاء عمرك واعمل بما يأمر به عقلك السليم1.


1-_ الأمثال في القرأن / مكارم الشيرازي_ المثل الثامن عشر .

2011-11-04