يتم التحميل...

المثل السادس عشر: العالم المنحرف

الأمثال في القرآن

يقول الله تعالى في الآيات 175 و 176 و 177 من سورة الأعراف في مثله السادس عشر: واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذي آتَيْنَاهُ آياتِنَا فانْسَلَخَ مِنْهَا فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ واتَّبَع هويَهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَث أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَلك مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنَا فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ

عدد الزوار: 66

يقول الله تعالى في الآيات 175 و 176 من سورة الأعراف في مثله السادس عشر: ﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذي آتَيْنَاهُ آياتِنَا فانْسَلَخَ مِنْهَا فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ واتَّبَع هويَهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَث أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَلك مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنَا فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ. الحديث في الآيات الثلاث عن العالم الذي كان في الطريق الصواب والصحيح وبلغ في هذا الطريق مقامات رفيعة، إلاّ أنّه تدريجياً انحرف وطُرد من الساحة الربانية، فيشبّه الله هذا العالم بالكلب ليعتبر الآخرين منه.

﴿واتْلُ عَلَيْهِم نَبَأ الَّذي آتَينَاهُ آياتِنَ
يطلب الله من الرسول أن يحكي للأصحاب قصة ذاك العالم.

المراد من الآيات هو أحكام التوراة ومواعظها، فإنَّ هذا العالم كان عالماً باحكام التوراة ومواعظها، كما كان عاملا بها. ويعتقد البعض أنَّ المراد من الآيات هو الاسم الأعظم، ولهذا كان بلعم بن باعورا مستجاب الدعوة وكان صاحب نفوذ وجاه رفيع في المجتمع.

﴿فانْسَلَخَ مِنْهَا فأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِيْنَ إنَّ مادة السلخ تعني نزع جلد الحيوان، ولذلك قيل لمن ينزع جلد الخروف سلاّخاً. إلاّ أنَّ كلمة (فاتبعه) لها معنيان:

ألف- تعني تبع ولحق، أي أنَّ الشيطان جعل العالم تبعاً له.
باء- أنّ الشيطان اتّبع هذا العالم، بعبارة اخرى: أنّه سبق الشيطان في الضلالة، وتجاوزه مهارة في هذا المجال. مثله مثل ذلك الشخص الذي كان يفعل عملا قبيحاً جداً بطريقة جديدة وكان يلعن الشيطان دائماً على فعله هذا، فظهر له الشيطان وقال: اللعن عليك لا عليَّ، لأني رغم مهارتي في الشيطنة ما كنت أعلم بهذه الطريقة، بل انت الذي علمتني إياها.

وعلى هذا، فالآية تعني أنّ بلعم بن باعورا خُلِّي من آيات الله، وانسلخت هذه الآيات عنه رغم أنَّه كان يحيط بها جميعاً، لكنها انسلخت واتّبع الشيطان، أو أنَّ الشيطان اتّبعه، وكانت عاقبته الشر والشقاء فكان في عداد الاشقياء والضالين.

﴿وَلَو شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلَى الأرْضِ واتّبَعَ هَوَاهُ أي أنا لو أردنا إجباره على البقاء على الحق لفعلنا لكنّا تركناه لنرى ما يفعل باختياره وإرادته، وذلك لأنَّ في الإسلام الاختيار لا الاجبار، ﴿إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًاً وإمَّا كَفُورَ الإنسان/3.فالله يستطيع أن يجعل جميع الاعمال من قبيل الحج والصوم والصلاة جزءاً من غرائز الإنسان، كما جعل الأكل والشرب، لكنّه لم يفعل ذلك، بل خلق الإنسان حراً ومختاراً ليكون هناك هداية وتكامل وتقدّم واختبار وثواب وعقاب و... ولكي لا تفقد هذه المفاهيم معانيها.

وفي النهاية يكون معنى الآية هو: أنّا تركنا بلعم بن باعورا إلى نفسه، إلاّ أنَّ هذا العالم المنحرف - الذي سبق وأن كان مبلغاً قوياً لموسى عليه السلام - تبع الهوى والهوس حباً للدنيا وحسداً من موسى عليه السلام وانجذاباً بوعود فرعون، وكان عاقبته الطرد من الساحة الربانية. وعلى هذا، فإنَّ شيئين كانا سبباً لسقوط بلعم بن باعورا هما:
أوّلا: حبّ الدنيا والميل إلى فرعون.
وثانياً: الهوى واتباع الشيطان.

﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِل عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، إنَّ الكلاب عادة ذات منفعة متعارفة يستفيد منها الإنسان ولذلك يصح اجراء معاملة عليها في الفقه الإسلامي، إلاّ أنَّ بعض الكلاب تكون مسعورة دائماً إثر ابتلائها بداء الكَلَب، وهو مرض يجعلها تلهث دائماً وتصيح، وتفرز سماً، وإذا عضت الإنسان يمكن أن تؤدي هذه العضة إلى موته أو ابتلاءه بالجنون. والكلاب تُعد حينئذ فاقدة للقيمة لا تُجرى معاملة عليها، لأنَّها تفقد الفائدة اضافة إلى ما فيها من مضايقة للآخرين. علائم هذا المرض في الكلاب هو أنَّها تفتح فمها وتحرك لسانها دائماً، وذلك لتخفِّف من الحرارة الداخلية التي تشعر بها، وحركة اللسان عندها بمثابة المروحة التي تدفع بالهواء لتبرّد الجسم. ومن علائمه أيضاً العطش الدائم... وعلى كل حال يكون هذا الكلب مهاجماً.

والقرآن بمثله الجميل هذا يشبِّه العالم المنحرف بالكلب الذي يفقد القيمة ويحمل أخطاراً كثيرة... فحب الدنيا والهوى والهوس يُحرف العالم ويفقده البصر والبصيرة بحيث يصبح لا يميز صديقه عن عدوّه.

﴿ذَلك مَثَلُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي أنَّ هذا مثل المجتمعات التي كذّبت بآيات الله فاقصص - أيها النبيّ - على الناس وبخاصة اليهود والنصارى هذه القصص ليعتبروا منها، ولكي يعلموا أنَّهم إذا كذّبوا بايات الله فإنَّ مصيرهم سيكون كمصير بلعم بن باعورا.1


1- الأمثال في القرأن /مكارم الشيرازي _ المثل السادس عشر.

2011-11-04