يتم التحميل...

نماذج من إحياء الموتى في الشرائع السابقة

الموت والبرزخ

أثبت الحكماء ان لليقين مراتب ودرجات، ولكل منها عندهم اسم خاص، ولتبيين هذه الدرجات نأتى بمثال: إذا سمع الإنسان اسم النار، ولم يرها، وقيل له إنّها موجود عنصرى لها هيئةٌ خاصةٌ، وأ ثر معيّن، في الأعضاء، وأذعن بذلك لكون المخبرين صادقين...

عدد الزوار: 15

أثبت الحكماء ان لليقين مراتب ودرجات، ولكل منها عندهم اسم خاص، ولتبيين هذه الدرجات نأتى بمثال:

إذا سمع الإنسان اسم النار، ولم يرها، وقيل له إنّها موجود عنصرى لها هيئةٌ خاصةٌ، وأ ثر معيّن، في الأعضاء، وأذعن بذلك لكون المخبرين صادقين، فهذه مرتبة من اليقين.

ثم إذا شاهدها من بعيد، ولكن لم تمسّ حرارتها بدنه، وإنّما رأى هيئتها، والتهابها، بأُم عينه، فهذه مرتبة من اليقين أقوى من السابقة. 

ولكن أين هذه المرتبة ممّا إذا شاهدها عن كثب ومسّته حرارتها، ففي هذه المرتبة يتكامل يقينه بها، ويبلغ الدرجة القصوى.

وإذا كان لليقين مراتب ودرجات، فلا لوم على الأنبياء والأولياء أن يطلبوا من الله سبحانه إحياء الموتى حتى يشاهدوه بأعينهم لإكمال مراتب يقينهم بالقيامة، وتبديل علم اليقين فيهم بعين اليقين، اقتباس من قوله سبحانه: ﴿كلاّ لَو تعلمُون عِلمَ اليَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجحيم * ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَينَ اليقين(التكاثر:5-7).

ومن هنا نرى أنّ الله سبحانه أحيا الموتى لإبراهيم الخليل، وعزير، وغيرهم كما سيأتي، والغاية كانت إكمال مراتب اليقين، أو إتمام الحجة على البعيدين عن هذه المعارف، كماهو الحال في إحياء عيسى الموتى لبني إسرائيل، وفيما يلي نورد هذه النماذج من القرآن الكريم.

1ـ إبراهيم وإحياء الموتى
ذكر المفسرون أنّ إبراهيم عليه السَّلام رأى جيفة تمزقها السباع، فيأكل منها سباع البر، وسباع الهواء ودواب البحر، فسأل الله سبحانه وقال: ياربّ قد علمت أنّك تجمعها في بطون السباع والطير ودواب البحر، فأرني كيف تحييها لأُعاين ذلك؟

يقول سبحانه: ﴿وإذقال إبراهيمُ ربِّ أرني كَيفَ تُحِي الموتى قالَ وَلَم تُؤمن قالَ بلى ولكن لِيَطمَئِنَّ قلبي، قال فخُذ أَربَعَةً من الطَّير فَصُرهُنّ إلَيكَ ثّم اجعَل على كلِّ جَبَل منهُنَّ جُزءاً ثَمَّ ادعُهُنَّ يأتينَكَ سَعياً واعلَم أنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم(البقرة:260).

وما ذكرنا من سبب النزول يكشف عن أنّه لم يكن غرض إبراهيم إحياء نفس فقط، وإلاّ لكفى فيه إحياء طير واحد بعد إماتته، وإنما كان الغرض مشاهدة إعادة أجزاء كلّ طير إليه بعد اختلاطها بأجزاء الطيور الأُخر. وهذا لا يتحقّق إلا بتعدد الطيور أوّلاً، واختلافها نوعاً، ثانياً، واختلاطها بعد ذبحها، ثالثاً، فلأجل ذلك ورد أنّه أخذ طيوراً مختلفة الأجناس، قيل إنّها: الطاووس، والديك، والحمام، والغراب، فقطّعها، وخلط ريشها بدمها، ثم فرّقهنّ على عشرة جبال، ثم أخذ بمناقيرهنّ، ودعاهنّ باسمه سبحانه، فأتته سعياً، فكانت تجتمع ويأتلف لحم كلّ واحد وعظمه إلى رأسه، حتى قامت أحياء بين يديه.

وبذلك كمل إيمانه، وتم إذعانه بأنّه سبحانه يمكن أن يعيد أجزاء بدن كل حيّ إليه، وأن اختلط بحي آخر، كما لو أكلت الإنسان الميتَ سباعُ البراري وجوارحُ الهواء، وحيتانُ البحار، فإنّ الاختلاط لايكون مانعاً عن الإحياء والإعادة، وهذا من شبهات المنكرين حيث كانوا يركزون على "ضلالة الأجزاء" في الأرض، واختلاط أجزاء الموتى بعضها ببعض، وقد قال سبحانه في هذالمجال: ﴿قَد عَلِمنَا ماتَنقُصُ الأرضُ مِنهُم وَعِندَنَاكِتَابٌ حفَيظٌ(ق:4).

والاستدلال بالآية يتوقف على الإمعان في أمرين
الأوّل: إنّ مقتضى البلا غة مطا بقة الجـواب للسؤال، ولمّا كان سؤاله عن مشاهدة إحياء الموتى "واقتضى الحال الإجابة عنه" فيجب أن يكون ما يأمر به سبحانه محققاً لاحياء الموتى، وهو لا يتحقّق إلاّ بأن يقوم إبراهيم بتقطيعهنّ وخلط أجزائهنّ، وتفريقهنّ على الجبال.

الثاني: الإمعان في قوله: (فَصُرْهُنَّ)، والمصدر الّذي اشتُقّ منه، وفيه احتمالات:

1ـ ما نقل عن ابن عباس من أنه قرأ"فَصَرَّهُنَّ" بتشديد الراء، من باب صرَّ، يَصُرُّ، من التصرية، وهي الجمع والضم1، وهذه القراءة غيرمعروفة، فهذا الاحتمال ساقط.

2ـ أن يكون مأخوذاً من الصّير، معتل العين، فيقال صار يصير صيراً،بمعنى انتهى إليه، مثل قوله:(إليه المصير). والأمر منه "صُر" ولعل مَن فَسَّره من أهل اللغة بمعنى المَيل أخذه من هذا.

3ـ أن يكون مأخوذاًمن "صري" معتل اللام،ذكره الفراء في معاني القرآن، فقال إنها إن كانت بمعنى القطع، تكون من "صَرَيت، تصري" واستشهد بقول الشاعر:

صَرَت نظرة لو صادف جوز دارع    غداً والعواصي من دم الجوف تنعر2.

فإن جعل من "صَير" يكون بمعنى "أمِلهُنَّ إليك" ويجب عند ذلك تقدير كلمة اقطعهن، لدلالة ظاهرة الكلام عليه، فيكون معنى الآية. أملهنّ إليك. فقطِّعهُنَّ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً، مثل قوله: ﴿اضرِب بعصاكَ البَحرَ فَانفَلَقَ(الشعراء:63)، أي فضرب فانفلق.

وإن جعل من"صري" تكون الكلمة متضمنة معنى الميل بقرينة تعدّيها بـ "إلى" فيكون المعنى: اقطعهنّ متمايلات إليك، كتمايل كل طير إلى صاحبه.

وعلى كل تقدير، فالآيه تدل على أنّ إبراهيم قطّعهنّ وخلط أجزاءهنّ، ثم فرقها على الجبال، ثم دعاهن، فأتَينه سعياً.

ومن غريب التفسير، ماذكره صاحب المنارفقال في معنى الآيه ماحاصله: خذ أربعة من الطّير فضمها إليك، وآنسها بك، حتى تستأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها، فإن الطيور من أشّد الحيوانات استعداداً لذلك، ثم اجعل كل واحد منها على جبل، ثم ادعها، فانها تسرع إليك من غير أن يمنعها تفرق أمكنتها وبعدها، كذلك أمرربك إذا أراد إحياء الموتى، يدعوهم لكلمة التكوين: "كونوا أحياء" فيكونون أحياء، كما كان شأنه في بدء الخلقه إذ قال للسموات والأرض: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين(فصلت:11) قال: والدليل على ذلك من الآية قوله تعالى:(فَصُرْهنَّ)، فإن معناه "أملهن" أي "أوجد ميلاً بها، وآنسها بك ويشهد به تعديته بإلى، فإنّ صار إذاتعدى بإلى كان بمعنى الإمالة"3.

يلاحظ عليه: إنّ ماذكره خلاف نصوص الآيه، فأنّ إبراهيم طلب من الله سبحانه أن يريه كيف يحيي الموتى أوّلاً، وأراد سبحانه بقرينة تخلل الفاء في قوله: (فخذ)، إجراء ذلك بيد إبراهيم ثانياً، ثم أمره سبحانه أن يجعل كل جزء منهنّ على جبل، لا كل واحد منهن عليه ثالثاً.

وهذه الوجوه تدعم صحة النظرية المعروفة في تفسير الآية. وأماتعدية (صرْهُنّ) بـ (إليك)، فقد عرفت الكلام فيه، وأنّه إن كان بمعنى الميل فالأمر بالتقطيع مقدّر، وإن كان بمعنى القطع، فالكلمة متضمنة لمعنى الميل.

على أنّه لوكان المراد ما اختاره من المعنى، لما احتاج إلى هذا التفصيل، بل يكفي في المقام إحالة إبراهيم إلى لاعبي الطيور، الذين يربون الطيور، حتى إذا استأنسوا بأصحابهنّ، يفرقونهنّ للطيران، ثم يد عونهنّ بالصفير والعلامات الخاصة، فيأتين سعياً.

ولعمرى،إنّ هذا التفسير يحطّ من عظمة القرآن، وجلالته، ويفتح الباب للملحدين في تأويل مادلّ عليه القرآن من معاجز وكرامات الأنبياء والرسل، ولقد أعرب الكاتب عن باعثه في آخركلامه بقوله: "وأمّا المتأخرون فهمّهم أن يكون في الكلام خصائص للأنبياء، من الخوارق الكونية، وإن كان المقام، مقام العلم والبيان والإخراج من الظلمات إلى النور، وهو أكبر الآيات، الخ"4.

وهذا يعرب عن أن المعاجز بنظره، تضاد العلم ولا تصلح للإخراج من الظلمات إلى النور، مع أنّه سبحانه أسماها بالبينات، وقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَات بَيِّنَات(الإسراء:101)5.

احياء عزير
يحكي الذكر الحكيم أنّ رجلاً صالحاً مرّ على قرية خربة، وقد سقطت سقوفها، فتساءل في نفسه، كيف يحيي الله أهلها بعدما ماتوا؟، ولم يقل ذلك إنكاراً ولا تعجّباً ولا ارتياباً، ولكنه أحبّ أن يريه الله إحياءها مشاهدة، مثل قول إبراهيم الّذي تقدم، فأماته الله مائة سنة ثم أحياه، فسمع نداءً من السماء: "كم لبثت؟" فقال: "لبثت يوماً أو بعض يوم" لأنّ الله أماته في أول النهار، وأحياه بعد مائة سنة في آخرالنهار، فقال: يوماً، ثم التفت فرأى بقية من الشمس، فقال: أو بعض يوم. فجاءه النداء بل لبثت مائة سنة، فانظر إلى طعامك وشرابك لم تغيّره السنون، وقيل كان زاده عصيراً، وتيناًوعنباً، وهذه الثلاثة أسرع الأشياء تغيّراً وفساداً فوجد العصير حلواً، والتين والعنب جنيان لم يتغيّرا، ثم أُمر بأن ينظر إلى حماره كيف تفرقت أجزاؤه وتبدّدت عظامه، فجعل الله سبحانه إحياءه آية للناس وحجة في البعث. ثم جمع الله عظام حماره وكساها لحماً وأحياه.

يقول سبحانه: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَام ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْم قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَام فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ(البقرة:259).

والإمعان في قوله سبحانه:(فأماته الله مائة عام)، يفيد أنه أماته سبحانه، ثم أحياه بعد تلك المدة.

كما أنّ الإمعان في قوله: (وانْظُر إلى العِظام). سواء أُريد منه عظام حماره أو غيره، يفيد أنّه سبحانه كساها لحماً ثم أحياه، فكان هناك إحياءٌ لميّتين.

وقد سلك صاحب المنار في تفسير الآية نفس المسلك السابق، فحملها على انّ المراد من الإماتة هنا السّبات، وهوالنوم المستغرق الذي سمّاه الله سبحانه: وفاة، واستعان في تقريبه بأنّه قد ثبت في هذا الزّمان أنّ من الناس من تحفظ حياته زمناً طويلاً يكون فيه فاقد الحس والشعور، فلبث الرجل الّذي ضرب على سمعه مائة سنة، غير محال في نظرالعقل6.

يلا حظ عليه: إنّ تفسيرالموت بالسّبات يحتاج إلى دليل، والظاهرمنه هوالإماتة الحقيقية.

وقياس المقام بأصحاب الكهف، قياس مع الفارق، حيث إنه سبحانه يصرّح هناك بالسّبات، ويقول: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا(الكهف:11) ويقول: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ(الكهف:18)، بخلاف المقام.

على أنه لا يتطّرق في العظام التّي أنشزها، ثم كساها لحماًوأحياها. فلا مصير لمفسّر كلام الله من الإذعان بالغيب، والقدرة المطلقة لله جلّ وعلا.و محاولة تفسيرالمعاجز بما ثبت في العلوم، نوع انسحاب في الصراع مع الماديين المنكرين لكلّ ما لايتّفق مع أصول العلم الحديث.

إحياء قوم من بنى إسرائيل
ذكر المفسرون أنّ قوماً من بني إسرائيل فروا من الطاعون أو من الجهاد، لمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم، فأماتهم الله جميعاً، وأمات دوابهم. ثمّ أحياهم لمصالح مذكورة في الآية التالية، قال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُون(البقرة:243).

والرؤية في الآية بمعنى العلم،أي "ألم تعلم" وذكر المفسّرون حول فرارهم من الموت، وكيفية إحيائهم، أُموراً، يرجع إليها في محلّها7.

والآية كماتثبت وقوع إحياء الموتى، بعد إمكانه، تثبت إمكان الرجعة إلى الدنيا، على ما يتبنّاه الشيعة الإمامية، كماهوالحال أيضاً في إحياء عزير.

ومما يثير العجب ماذكره صاحب المنار حيث قال: "الآية مسوقة سوق المثل، والمراد بهم قومٌ هجم عليهم أُولو القوة والقدرة من أعدائهم لاستذلالهم واستخدامهم وبسط السلطة عليهم، فلم يدافعوا عن استقلالهم، وخرجوا من ديارهم وهم ألوف، لهم كثرة وعزة، حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا موت الخزي والجهل، والخزي موتٌ والعلم وإباء الضيم حياة، فهؤلاء ماتوا بالخزي، وتمكّن الأعداءمنهم، وبقوا أمواتاً ثم أحياهم بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحق فيهم فقاموا بحقوق أنفسهم واستقلوا في ذلك "8.

يلاحظ عليه: أوّلاً: إنّ الظاهر أنّ الآية تبيّن قصةً واحدة، وهي فرار قوم من الموت، فأماتهم الله، ثم أحياهم، لا بيان قصتين. بمعنى تشبيه من لم يدافعوا عن عزتهم، وغلبوا، وبقوا كذلك حتى نفث في روعهم روح النهضة، فقاموا للدفاع، بقوم فروا من الموت الحقيقي، فأماتهم الله موتاً حقيقياً، ثم أحياهم، ولو كانت الآية جارية مجرى المثل لوجب أن يكون هناك مشبّه ومشبّه به، مع أنّ الآية لا تحتمل ذلك.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه عندما يريد التمثيل بمضمون آية يأتي بلفظ "مثل" ويقول ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً(البقرة:17)، و﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ(يونس:24)، و﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً(الجمعة:5).

وثانياً: لوكان المراد من الموت، مو ت الخزي، ومن الحياة، روح النهضة، للزم على الله سبحانه مدحهم وذكرهم بالخير، مع أنّه يذمّهم في ذيل الآية، فإن فيها:﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُون(النمل:73).

ثم إنّ صاحب المنار استعان في ردّ نظرية الجمهور، بقوله سبحانه:﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى(الدخان:56) فلا حياة في هذه الدنيا إلا حياة واحدة9

ولكن عزب عنه أنّ ماجاءفي الآية يدل على سنّة الله تعالى في عموم الناس، وهذا لا يخالف اقتضاء مصالح معيّنة، أن يذوق البعض النادر منهم حياتين.

إحياء قتيل بني إسرائيل
روى المفسرون أنّ رجلاً من بني إسرائيل قتل قريباً له غنياً، ليرثه وأخفى قتله له، ورغب اليهود في معرفة قاتله، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة، ويضربوا بعض القتيل ببعض البقرة، ليحيا ويخبر عن قاتله، وقد قاموا بذبح هذه البقرة بعد تساؤلات بينهم وبين موسى تكشف عن لجاجهم وعنا دهم. ثم ضربوا بعض القتيل بها، فقام حيّاً وأوداجه تشخب دماً، وقال: "قتلني فلان ابن عمي" ثم قبض. يقول سبحانه : ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ *.... * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون(البقرة:67ـ 73).

إنّه سبحانه وإن كان قادراً على إحيائه من دون ذبح البقرة، ولكنه أمرهم بذلك لأنّهم سألوا موسى أن يبيّن لهم حال القتيل وهم كانوا يعدّون القربان من أعظم القربات.

فأمرهم الله بتقديم هذه القربة تعليماً منه لكلّ من صعب عليه أمرمن الأُمور، أن يقدّم نوعاً من القرب قبل أن يسأل الله تعالى كشف ذلك عنه، ليكون أقرب إلى الإجابة، وإنما أمرهم بضرب بعض القتيل، ببعض البقرة، بعد أن جعل اختيار وقت الإحياء إليهم، ليعلموا أنّ الله سبحانه وتعالى قادرٌعلى إحياء الموتى في كل وقت من الأوقات، ومعنى قوله: (إضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى)، إنهم ضربوه فأُحيي، مثل قوله سبحانه: (اضرب بعصاك البحر فانفلق)، أي فضربه فانفلق، وقوله: (كذلك يحيي الله)، يرادمنه تفهيم قوم موسى بأنّهم إذا عاينوا إحياء الميت، فليعلموا أنّ الله قادرعلى إحياء الموتى للحساب والجزاء.

هذا ما ذهب إليه الجمهور في تفسير الآية، وهو المتبادرمنها، وقد اتخذ صاحب المنار في تفسيرالآية موقفه السلبي في باب المعاجز والكرامات، فقال بعد ماذكر نظرية جمهور المفسرين:"والظاهر مما قدمناه أنّ ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل، إذاوجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله، ليعرف الجاني من غيره، فمن غسل يده10. وفعل مارسم لذلك في الشريعة، برئ من الدم، ومن لم يفعل، تثبت عليه الجناية. ومعنى إحياء الموتى على هذا، حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس، أي يحييها بمثل هذه الأحكام. وهذا الإحياء على حد قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا(المائدة:32) وقوله:﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة(البقرة:179)"11.

يلاحظ عليه: أوّلاً: إنّ هذا التفسير لا ينطبق على قوله:(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها)، فإنّ معناه:اضربوا بعض النّفس المقتولة ببعض جسم البقرة، وأين هذا من غسل أيدي المتهمين في دم العجلة المقتولة، فهل غسل الأيدي في دمها عبارة عن ضرب المقتول ببعض البقرة؟!

وثانياً: إنّه سبحانه يقول: (كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته)، فالقصة تتضمن آية من آيات الله، ومعجزة من المعاجز، فهل في غسل الأيدي بدم العجلة ودرء التهمة عن المتهم،إراءة للآيات الإلهية.

وثالثاً: إنّ تفسير الآية بالاستناد إلى الإسرائيليات والمسيحيات، مسلك ضال في تفسير كتاب الله العزير، وليس اللجوء إليها إلا لأجل ما اتخذه صاحب المنار من موقف مسبق تجاه المعاجز وخوارق العادات، وإصراره على إرجاع عالم الغيب إلى الشهادة.

إحياء سبعين رجلاً من قوم موسى
ذكر المفسرون أنّ موسى عليه السَّلام اختار من قومه سبعين رجلاً حين خرج من الميقات ليكلمه الله سبحانه بحضرتهم، فيكونوا شهداء له عند بني إسرائيل لعدم وثوقهم بأنّ الله سبحانه يكلّمه، فلما حضروا الميقات، وسمعوا كلامه تعالى سألوا الرؤية، فأصابتهم الصاعقة فماتوا، ثم أحياهم الله تعالى12.. يقول سبحانه: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(البقرة:55ـ56).

ويقول سبحانه: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء(الأعراف:155).

والمتبادر من الآية هو إحياؤهم بعد الموت، والخطاب لليهود والمعاصرين للنبي باعتبار أسلافهم، ولا يفهم أي عربي صميم من جملة: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) سوى الإحياء بعد الإماتة.

وقد اتخذ صاحب المنار في تفسير الآية موقفه المعلوم من المعاجز، فذهب إلى أنّ المراد من البعث هو كثرة النّسل. أي إنّه بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة، وظنّ أنهم سينقرضون، بارك الله في نسلهم، ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحق الشكر على النعم التّي تمتع بها الأباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها13.

يلاحظ عليه: أوّلاً: إنّ الظاهرمن قول موسى: (لوشئت أهلكتهم من قبل)، أنّه سبحانه أجاب دعوته، وأحياهم حتى يدفع عنه عادية اعتراض القوم بأنّه ذهب بهم إلى الميعاد، فانّه ذهب بهم إلى الميعاد، فأهلكهم. وهذا لا يتم إلا إذا كان المراد هو إحياؤهم حقيقة.

وثانياً: إنّ الرجفة لم تأخذ إلا سبعين رجلاً من قومه، فليس في إهلاكهم مظنة انقراض نسلهم.

وعلى كل تقدير فالباعث لصاحب المنار على تفسيره، هو جنوحه إلى إنكار المغيبات، وتطبيق ماورد في الذكر الحكيم على العالم الحسّي التجريبي.

6ـ المسيح يحيي الموتى
إنّ الكتاب الحكيم يذكر في غيرمورد، إحياء المسيح للموتى. قال تعالى حاكياً عنه ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ(آل عمران:49).

وقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ... وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي(المائدة:110).

وقد تضافر في التاريخ والإنجيل والحديث، قيام المسيح بإحياء الموتى مرات عديدة، بحيث صار المسيح علماً وسمة لإحياء الموتى، وعلاج الأمراض المستعصية.

إيقاظ أصحاب الكهف
روى المفسرون أنّ فتيةً من قوم آمنوا بالله تعالى وكانوا يخفون إيمانهم خوفاً من ملكهم، الّذي كان يعبد الأصنام ويدعو إليها، ويقتل من خالفه، والفتية كانوا على دين المسيح، وكان كل واحد منهم يكتم إيمانه عن صاحبه. ثم اتفق أنّهم اجتمعوا وأظهروا أمرهم لبعضهم، ولجأوا إلى كهف فضرب سبحانه على آذانهم، فناموا في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين، ثم بعثهم. يقول سبحانه: ﴿إِذْ وَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَىِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا(الكهف:10ـ12).

والمراد من الضرب على الآذان هو إنامتهم، لا سلب حياتهم، كمايقول سبحانه:﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُود(الكهف:18).

فإنامة الله سبحانه هؤلاء الفتية هذه المدّة المديدة،ثم إيقاظهم، لا يقصر عن الإماتة والإحياء، والقادر عليه قادر على إحياء الموتى.

هذه النماذج المحسوسة من إحياء الموتى، إذا انضمت إلى البراهين الناصعة الدالة على إمكان إحياء الموتى، من طريق سعة قدرته سبحانه، توجب القطع بإمكان المعاد، وجمع العباد بعد موتهم، للحساب والجزاء.

*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4،ص206-219


1- الكشاف، ج 1،ص 296.
2- معاني القرآن :ج 1ص 174. الشعر: "صَرَت نَظَرة": أي قطعت نظرة، أي فعلت ذلك، والجوز وسط الشيء والعواصي جمع العاصيوهوالعِرق، ويقال نعرالعِرق: فار منه الدم.
3- لاحظ تفسير المنار، ج3، ص 55 ـ 58 : وذكر وجوهاً في دعم هذه النظرية التّي نقلها عن أبي مسلم، وقد استحسنها في آخر كلامه وقال: "ولله درّ أبي مسلم، ما أدقّ فهمه وأشدّ استقلاله فيه".
4- المصدرالسابق،ص58.
5- ولقد خرجنا في تفسير الآية عمّا اتبعناه من الإيجاز إيعازاً للباحث بما في المنار وأمثاله من الدعوات التّي لا تتفق مع مبادئ الإسلام، وسيلاحظ نظيره في الآية التالية.


6- المنار،ج 3،ص 50.
7- لاحظ مجمع البيان،ج1ص346ـ347.وغيره.
8- المنار،ج3،ص458ـ459.
9- المنار،ج 2،ص459.
10- لاحظ في كفية ذلك، العهد القديم سفرالتثنية: الأصحاح 21،ص211، ط دارالكتاب المقدس، وحاصله أنّهم يغسلون أيديهم في دم عجلة ويقولون: أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر.
11- لا حظ المنارج1، ص 345ـ350.
12- مجمع البيان، ج2،ص 484.
13- تفسير المنار،ج1،ص 322.
2009-07-27