يتم التحميل...

التّناسخ و أقسامه و براهين بُطلانه

الموت والبرزخ

التناسخ من النسخ بمعنى النقل، وبمعنى إزالة بشيء يتعقبه، كنسخ الشمس الظل، والشيب الشباب. فالنسخ يعرب عن خصوصيتينالنّقْل والتّحوّل. وسيوافيك أنّ كلتيهما مأخوذتان في التناسخ المصطلح، الّذي يعرب عن حالة نقل وتحوّل خاصة.

عدد الزوار: 17

التناسخ من النسخ بمعنى النقل1، وبمعنى إزالة بشيء يتعقبه، كنسخ الشمس الظل، والشيب الشباب2.

فالنسخ يعرب عن خصوصيتين: النّقْل والتّحوّل. وسيوافيك أنّ كلتيهما مأخوذتان في التناسخ المصطلح، الّذي يعرب عن حالة نقل وتحوّل خاصة.

ثم إن للانتقال أقساماً نشير إليها
أـ الانتقال من النشأة الدنيوية إلى النشأة الأُخروية الّذي نسمّيه بالمعاد.

ب ـ الانتقال من القوة إلى الفعل، كانتقال النفس في ظل الحركة الجوهرية إلى كمالها الممكن.

ج ـ انتقال النفس بالموت، من البدن المادي إلى بدن مثله في هذه النشأة وهذا النوع من الانتقال هوالتناسخ المصطلح الّذي ذهب إليه بعض الفلاسفة من البراهمة والهندوس وغيرهم.

وتبيين الحق يتوقف على بيان ما يتصور للتناسخ من الأقسام حتى يعلم أيُّ قسم منها يضاد المعاد ويخالفه، فنقول: إن للتناسخ المطروح من قبل أصحابه صوراً ثلاثة:

الصورة الأولى: التناسخ المطلق
وهوانتقال النفس من بدن إلى بدن آخر في هذه النشأة، فإذا مات البدن الثاني انتقلت إلى ثالث، وهكذا بلا توقف أبداً، والبدن المنتقل إليه قد يكون بدن إنسان وحيوان ونبات. وطريق الانتقال غالباً، هوالتعلّق بجنين الإنسان والحيوان، وبالخليّة النباتية. وقد نسب هذا القول إلى القدماء من الحكماء.

قال شارح حكمة الإشراق3: "إن شرذمة قليلة من القُدماء ذهبوا إلى امتناع تجرّد شيء من النفوس بعد المفارقة لأنها جسمانية، دائمة الانتقال في الحيوانات وغيرها من الأجسام، ويعرفون بالتناسخية، وهم أقلّ الحكماء تحصيلاً"4.

الصورة الثانية: التناسخ المحدود (النزولي)

وهوأن يختص الانتقال ببعض النفوس دون بعض آخر، وهذا كما هومحدود من حيث الأفراد، محدود كذلك من حيث الزمان. وذلك لأنّ الانتقال قد ينقطع، ولا ترجع النفس إلى النشأة الدنيوية، بل تلتحق بعالم النور والعقول.

ووجه المحدودية من حيث الأفراد، أن النفوس المفارقة للأبدان بعد الموت، على قسمين:

1ـ نفوس كاملة في مجالي العلم والعمل، فهذه لا حاجة لها للانتقال إلى أبدان أُخرى، لأنها وصلت إلى كمالها الممكن، فلا تحتاج إلى الرجوع ثانية الى هذه النشأة.

2ـ ونفوس ناقصة في كلا المجالين، فلا مناص لتكاملها من إرجاعها إلى هذه النشأة حتى تكتمل فيهما إلى أن تصير غنية عن الرجوع، فتلحق بعالم العقول.

وأما المحدودية من جانب الزمان، فوجهه أنّ الهدف من التناسخ ورجوع النفس الى البدن في هذه النشأة مجدداً، هوإكمالها في مجال العلم، وتهذيبها من الرذائل، وتجريدها من الكدورات. فاذا صارت منزهة عنها، فلا وجه لدوام هذا النقل والتحوّل، بل لا مناص من لحوقها بعد الاستكمال بعالم النور.

ويسمى التناسخ المحدود من حيث الأفراد والأزمنة بـ "التناسخ النزولي".

يقول صدر المتألهين شارحاً هذه العقيدة "إن أول منزل للنفس الصّيصية الانسانية"5، ويسمونها "باب الأبواب لحياة جميع الأبدان الحيوانية والنباتية" وهذا هورأي يوذاسف التناسخي، قائلا بأن الكاملين من السعداء تتصل نفوسهم بعد المفارقة بالعالم العقلي والملأ الأعلى، وتنال من السعادة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وأما غير الكاملين من السُعداء كالمتوسطين منهم والناقصين في الغاية والأشقياء على طبقاتهم، فتنتقل نفوسهم من هذا البدن إلى تدبير بدن آخر من النوع الإنساني لا إلى غيره. وبعضهم جوّز ذلك ولكن اشترط أنْ يكون إلى بدن حيواني. وبعضهم جوّز النقل من البدن الإنساني إلى البدن النباتي أيضاً، وبعضهم إلى الجامد أيضاً"6.

الصورة الثالثة: التناسخ الصعودي
وهناك قسم ثالث من التناسخ يسمى بالصعودي، يغاير التناسخ النزولي، وحاصله أنّ الحياة انما تفاض على المستعد فالمستعد، والنبات "بزعمهم" أشدّ استعداداً وأولى بقبول الفيض الجديد من الحيوان والإنسان، كما أنّ الإنسان يستدعي نفساً أشرف، وهي التّي جاوزت الدرجات النباتية والحيوانية.

وفي ضوء هذا، فالحياة تفاض على النبات أولاً، ثم تنتقل منه إلى الحيوان، ثم إلى الانسان، وهذا النوع من التناسخ أشبه بالقول بالحركة الجوهرية، وأنّ الأشياء في ظلّها تخرج من القوة إلى الفعل، ومن النقص إلى الكمال، وأنّ الموجود النباتي يتحول إلى الحيوان، ثم الإنسان، لكن الفرق بين القول بالتناسخ الصعودي والحركة الجوهرية، هوأنّ التكامل في القول بالتناسخ على وجه الانفصال دون الاتّصال، فالنفس النباتية تنتقل من النبات الى البدن الحيواني، ثم منه الى البدن الانساني، ولكن التحول في الحركة الجوهرية، على وجه الاتّصال، وانّ النطفة الإنسانية تتحول وتتكامل من مرتبة ناقصة الى مرتبة كاملة حتى يصدق عليها قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين(المؤمنون:14)7.

فظهر أنّ في التناسخ أقوالا ثلاثة
1ـ التناسخ المطلق: وهوما لا ينتهي النقل فيه ولا يتوقف ويعم الجميع.

2ـ التناسخ النزولي: وهوما لا يعم الجميع أولا، ويتوقف النقل فيه بعد التصفية وبلوغ مراتب الكمال، ثانياً.

3ـ التناسخ الصعودي: وهوما يحصل فيه انتقال النفس في جهة الصعود، من النبات الى الحيوان فالانسان. اذا تعرفت على المراد من هذه الأقسام، فإليك تحليلها، وبيان بطلانها:

العناية الالهية والتناسخ المطلق
إنّ التناسخ المطلق يعاند المعاد معاندة تامة، والقائل به ليس له التفوّه بعود الأرواح إلى الأبدان في النشأة الأخرى، لأنّ المفروض ان الروح تنتقل الى الأبد من بدن إلى بدن، بلا توقف، فلا مجال للنفس لكي تبعث في النشأة الأُخرى. ولعل أصحاب هذه النظرية لقلّة تدبّرهم حسبوا هذا النوع من الانتقال للنفس معاداً لها، فالمعاد عندهم هوانتقال النفس من بدن الى بدن في هذه النشأة دون أن تكون هناك نشأة اخرى.

ويردّها ان النفس عند هؤلاء لا تخلومن إحدى حالتين: إما أن تكون منطبعة في البدن، انطباع الأعراض في الجواهر، والصور الجوهرية في المادة، فهي ممتنعة الانتقال، اذ الانطباع ينافي الانتقال، والجمع بينهما جمع بين النقيضين، فانه يستلزم أن تكون النفس في حال الانفصال موجودة بلا موضوع، ومتحققة بلا محل.

وتكون مجرّدة تجرداً تاماً، ومع ذلك تكون دائمة الانتقال في الاجسام من غير لحوق بعالم النور وهوباطل أيضاً اذ العناية الالهية، تقتضي ايصال كل ذي كمال الى كماله، وكمال النفس العلمي يتحقق بصيرورتها عقلاً مستفادا، فيه صور جميع الموجودات، وكمال العقل العملي يتحقق بالتخلية عن رذائل الأخلاق، والتحلية بمكارمها. فلو كانت دائمة الإنتقال، كانت ممنوعة عن كمالها، أزلاًوأبداً، والعناية الأزلية تأبى ذلك9.

وبعبارة أُخرى: إنّ النفس الانسانية مستعدة لافاضة الكمالات عليها، فحبسها في الصياصي البدنية في هذه النشأة، وايقافها عن الصعود إلى النشأة الأُخرى، يخالف الحكمة الالهية المتعلقة بابلاغ كل ممكن الى غايته الممكنة.

الحركة الرجعية والتناسخ النزولي
والّذي يُبطل هذا النوع الثاني من التناسخ، استلزامه الحركة الرجعية للنفس من الأشد إلى الأنقص، ومن الأقوى إلى الأضعف بحسب الذات، وهوأمر محال وتوضيحه:

إن حقيقة التناسخ النزولي تتحقق بتعلق روح الإنسان بعد مفارقة البدن بالموت، بجنين إنسان وحيوان وخلية نباتية، والكل دونها في الكمال. فأصحاب هذا القول يتصورون أن النفوس المتوسطة تنتقل بعد فناء أبدانها إلى أجنة الإنسان والحيوان، وتعود إلى الدنيا لمتابعة مسيرة الاستكمال، والإرتقاء إلى درجة النفوس الكاملة.

ولكنه خيال باطل، لأن تعلق تلك النفوس بأجنة الإنسان والحيوان لا يخلومن صورتين:

الأُولى: أنْ تتعلق النفس بالجنين الإنساني والحيواني بما لها من الكمال المناسب لمقامه. وهذا غير ممكن عقلاً، لأن النفس ما دامت في البدن تزداد في فعليتها شيئاً فشيئاً حتى تصير أقوى وجوداً وأشد تحصُلاً. ومثل هذا لا يمكنه أن يتعلق بالموجود الأدنى منه، الّذي لا يتحمل ذلك الكمال وتلك الفعليّة، لعدم تحقق التعاضد والانسجام بينهما.

وبعبارة أُخرى: إنّ واقعية النفس التّي عاشت مع البدن أربعين سنة مثلا، واقعية تفتّح القوى وبلوغها مقام الفعلية. وأما واقعية النفس التّي تتعلق بالأجنة، فهي فقدان كلّ فعلية، وانتسابها الى جميع الكمالات بالقوة، فحسب. فالقول بتعلق تلك الفعلية بالجنين، جمع بين النقيضين. لأنهاعلى الفرض بما أنّها نفس إنسان مرّت عليه أربعون سنة، مستجمعة لجميع الكمالات بالفعل. وبما أنها تعلقت بالجنين، مستجمعة لها بالقوة فحسب. فتكون الكمالات في محل واحد وزمان واحد، بالفعل وبالقوة معاً، وهذا محال.

الثانية: أن تتعلق تلك النفوس بالأجنّة، لكن بعد تنزّلها عن فعليّاتها، وانسلاخها عن كمالاتها. وهذا النحومن التعلّق، وإن كان يوجد بين البدن والنفس تعاضداً وانسجاماً، لكن ذاك الانسلاخ إما ناشيء من ذات النفس ونابع من صميمها، وإما قد حصل بقهر من اللّه سبحانه. والأول لا يتصور، لأن الحركة الذاتية من الكمال إلى النقص غير معقولة، والثاني ينافي الحكمة الإلهية التّي تقتضى بلوغ كل ممكن إلى كماله الممكن10.

وبما أن القائلين بهذا النوع من التناسخ يخصّونه بالمتوسطين في الكمال والناقصين فيه، دون الكاملين في مجالي العلم والعمل، فهوعلى طرف النقيض من المعاد في الصنفين الأوّلين، دون الصنف الثالث الذين لهم الحشر والانتقال الى النشأة الأُخرى دون التناسخ.

نعم، المتوسطون والناقصون بعد انتهاء دورة التناسخ وزمنها ينتقلون إلى عالم النور فيكون لهم من الحشر ما للكاملين من أفراد الإنسان.

التناسخ الصعودي وانتقال النفس

ذكرنا أنّ اصحاب التناسخ الصعودي يقولون بأنّ تكامل النفس من بدء حدوثها يتوقف على ظهور الحياة في النبات لتكون نفساًنباتية إلى أن تنتقل إلى بدن الحيوان فتصير نفساً حيوانية، ثم نفساً إنسانية، وعندئذ يقع السؤال في حقيقة هذه النفس، فنقول:

إن النفس الموجودة في الحيوان مثلا، إما منطبعة انطباع النقوش في الحجر، والأعراض في موضوعاتها، والصور في محالّها، فيكون انتقالها مستحيلا على ما مرّ، أعني استلزامه أن تكون في آن الانتقال بلا موضوع ومحل.

وإمّا مجرّدة، لها من الخصوصيات ما للنفوس الحيوانية، فمن المعلوم أنّ النفس الحيوانية بما لها من الخصوصية يمتنع أن تتحول إلى النفس الإنسانية، فإنّ كمال النفس الأُولى عبارة عن القوة الشهوية وحسّ الانتقام، وهما يعدّان كمالا لنفوس الدواب والأنعام وأصلاً عظيماً للجسمانية والاخلاد إلى الأجساد. فلوتعلقت هذه النفس بهذه الخصوصية بالانسان، لوجب أن تنحط درجة إلى نوع نازل من الحيوان المناسب لهذه السجايا والغرائز. فاذا كان مقتضى الشهوة الغالبة والغضب الغالب، شقاء النفس ونزولها إلى مراتب الحيوانات الصامتة، التّي كمالها في كمال إحدى هاتين القوتين، فيمتنع أن يكون وجود هاتين القوتين وأفعالهما منشأ لارتفاع النفوس من درجتها البهيمية والسبعية إلى درجة الانسان الّذي كمال نفسه كسر هاتين القوتين. فتعلق النفس الحيوانية بما لها من الخصوصيات والغرائز بالانسان، لا يرفعه بل ينزله إلى درجة تناسب درجة الحيوانات11.

وعلى الجملة فالنفس الحيوانية متشخصة بغرائز خاصة هي التمايلات الشهوية والسبعية والاخلاد الى الأرض والمادة، فكيف يمكن أن تكون مثل هذه أساساً لتكامل الانسان وتعاليه، الّذي لا يتحقق له التكامل إلا بتحطيم هذه الغرائز وكسر ثورتها فإن هذا أشبه بجعل وجود الضد شرطاً لوجود ضد آخر.

نعم، هذا الاشكال انما يتصور في التكامل الصعودي المنفصل المراتب والدرجات دون متصلها كما في تكامل الانسان في رحم أمه من الجمادية الى النفس الانسانية، في ظل صور متوالية متتالية دون أن يقع بينها انفصال.

وعلى كل تقدير فهذا القسم من التناسخ باطل في نفسه، وان كان لا يصادم القول بالمعاد وحشر الانسان في النشأة الأُخرى، بخلاف القسمين السابقين، فان الاول منهما على طرف النقيض من المعاد مطلقاً والقسم الثاني على طرف النقيض منه في مورد غير الكاملين من النفوس الانسانية.

تحليل جامع للقول بالتناسخ

قد تعرفت على اقسام التناسخ والبراهين التّي تهدم أساس كل واحد منها، وهناك برهانان آخران على بطلان التناسخ على وجه الإطلاق، من دون أن تختصا بقسم دون قسم، واليك بيانهما:

الأول: اجتماع نفسين في بدن واحد

وهذا البرهان مبني على أمرين

أ ـ إنّ كل جسم نباتاً كان حيواناً أوانساناً، اذا بلغ من الكمال إلى درجة يصير فيها صالحاً لتعلّق النفس به، تتعلق به. وبعبارة أخرى: متى حصل في البدن مزاج صالح لقبول تعلق النفس المدبرة به، فبالضرورة تفاض عليه من الواهب من غير مهلة ولا تراخ، وذلك مقتضى الحكمة الإلهية التّي شاءت ابلاغ كل ممكن إلى كماله الممكن.

ب ـ ان القول بالتناسخ يستلزم تعلّق النفس المستنسخة المفارقة للبدن، ببدن نوع من الأنواع من نبات وحيوان وإنسان، بحيث يتقوّم ذلك البدن بالنفس المستنسخة المتعلقة به.

ولازم تسليم هذين الأمرين، تعلّق نفسين ببدن واحد: إحداهما النفس المفاضة على البدن لأجل صلاحيته للإفاضة، وثانيتهما النفس المستنسخة المتعلقة بعد المفارقة بمثل هذا البدن.

ومن المعلوم بطلانه وذلك لأن تشخص كل فرد من الأنواع بنفسه وروحه، وفرض نفسين وروحين مساوق لفرض ذاتين ووجودين لوجود واحد وذات واحدة.

أضف إلى ذلك: أنه ما من شخص إلا ويشعر بنفس وذات واحدة. قال التفتازاني: انّ كل نفس تعلم بالضرورة أن ليس معها في هذا البدن نفس أخرى تدبر أمره وأن ليس لها تدبير وتصرّف في بدن آخر، فالنفس مع البدن على التساوي، ليس لبدن واحد إلا نفس واحدة ولا تتعلق نفس واحدة إلا ببدن واحد12.

سؤال وجواب: أما السؤال فهوأنّ هذا انما يتم اذا كان هناك فصل زمني بين صلوح البدن لافاضة الحياة وتعلّق النفس المستنسخة. وأما اذا كان صلوحه وقابليته، مقارناً لتعلق النفس المستنسخة، فلا يلزم اجتماع نفسين في بدن واحد، لأنها تمنع عن أفاضة الحياة عليه، فلا تكون له نفسان ولا حياتان؟

والجواب: ان كون النفس المستنسخة مانعة من حدوث النفس الأخرى ليس بأولى من منع الأخرى من التعلّق بالبدن.

أضف الى ذلك أنّ استعداد المادة البدنية لقبول النفس من الواهب للصور، يجري مجرى استعداد الجدار لقبول نور الشمس مباشرة وانعكاساً اذا رفع الحجاب من أمامه. فإن كان عند ارتفاع الحجاب جسم ثقيل ينعكس فيه نور الشمس الواقع عليه إلى ذلك الجدار، أشرق عليه النوران الشمسيان المباشري والانعكاسي، ولا يمنع من وقوع الانعكاسي، وقوع النور المباشري عليه. ومثل ذلك ما نحن فيه، غير أن اجتماع النفسين ممتنع، ومانعية أحداهما عن طروء الأُخرى غير صحيحة. فينتج أنّ التناسخ المبتني على أحد الأمرين (اجتماع نفسين ومانعية إحداهما من طروء الأخرى) باطل13.

الثاني: عدم التناسخ بين النفس والبدن

قد ثبت في محله أنّ تركيب البدن والنفس، تركيب طبيعي اتحادي، لا تركيب انضمامي، فليس تركيبهما كتركيب السرير من الأخشاب والمسامير، ولا كتركيب العناصر الكيميائية وتأثير بعضها في بعض.

والنفس في أول حدوثها متسمة بالقوة، في كل ما لها من الأحوال، وكذا البدن، ولها في كل وقت شأن آخر من الشؤون الذاتية بازاء سن الطفولة والصبا والشباب والشيخوخة والهرم. وهما معاً يخرجان من القوة الى الفعل، ودرجات القوة والفعل في كل نفس معينة بازاء درجات القوة والفعل في بدنها الخاص بها ما دامت متعلقة به. فاذا صارت بالفعل في نوع من الأنواع استحال صيرورتها تارة اخرى في حد القوة المحضة، كما استحال صيرورة الحيوان بعد بلوغه تمام الخلقة، نطفة وعلقة.

فلو تعلقت نفس منسلخة ببدن آخر عند كونه جنيناً وغير ذلك يلزم كون أحدهما بالقوة والآخر بالفعل، وذلك ممتنع. لأن التركيب بينهما طبيعي اتحادي، والتركيب الطبيعي يستحيل بين أمرين، أحدهما بالفعل والآخر بالقوة14.

نعم، هذا البرهان انما يتم لوتعلقت النفس ببدن أدون من حيث الدرجات الفعلية من النفس، كما اذا تعلقت بالجنين على مراتبه وأما لوتعلقت ببدن له من الفعلية ما للنفس منها، فالبرهان غير جار فيه.

وهذا البرهان يغاير البرهان الّذي ذكرناه ، عند ابطال التناسخ النزولي فان محور البرهان هنا لزوم التناسق بين البدن والنفس من حيث القوة والفعل، وهذا الشرط مفقود في أكثر موارد التناسخ، كما اذا تعلقت بالجنين.

وأما ما ذكرناه في ابطال التناسخ النزولي فان محوره هولزوم الحركة الرجعية في عالم الكون، ورجوع ما بالفعل الى ما بالقوة، فلا يختلط عليك الأمران.

سؤالان وجوابان
قد فرغنا من أقسام التناسخ وأنواعه وما يمكن أن يستدل به على ابطالها.وبقى هنا سؤالان يجب طرحهما والإجابة عنهما:

السؤال الأول: التناسخ ووقوع المسخ في الأُمم السالفة
لوكان تعلق النفس الإنسانية ببدن الحيوان بعد مفارقة البدن الإنساني تناسخاً ممتنعاً، فكيف وقع المسخ في الأُمم السالفة، حيث مسخوا الى القردة والخنازير كما يقول سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيل(المائدة:60).

ويقول سبحانه: ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(الأعراف:166)15.

فان صريح هذه الآيات تحول جماعة من البشر الى قردة وخنازير، وهولا ينفك عن تعلق نفوسهم البشرية بأبدان الحيوانات. فما هوالفرق بينه والقول بالتناسخ؟

الجواب: ان مقوم التناسخ أمران
1ـ تعدد البدن، فان في التناسخ بدنين: احدهما البدن الّذي تنسلخ عنه الروح والثاني: البدن الّذي تتعلق به ثانياً بعد المفارقة سواء كان نباتاً وحيواناً وجنيناً.

2ـ تراجع النفس الانسانية من كمالها الى الحد الّذي يناسب بدنها المتعلقة به من نبات وحيوان وجنين وانسان.

وكلا الشرطين مفقود في المقام فان الأُمة الملعونة والمغضوب عليها مسخت الى القردة والخنازير بنفس أبدانها الأولية، فخرجت عن الصورة الانسانية إلى الصورة القردية والخنزيرية من دون أن يكون هناك بدنان. كما أن نفوسها السابقة بقيت على الحد الّذي كانت عليه، وذلك لتنظر إلى الصورة الجديدة التّي عرضت عليها، فتعاقب وتنزجر. وإلا لوانقلبت نفوسها من الحد الّذي كانت عليه إلى حد النفس الحيوانية، فلا شك أنّها ستكون قردة بالحقيقة، وعندئذ لا يترتب عليه عقاب ولا يصدق عليه النكال مع أنه سبحانه يصفه نكالا، ويقول: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(البقرة:66).

وهذان الأمران يفصلان المسخ في الأُمم السالفة عن القول بالتناسخ.

وبالجملة: فقد تجلت الروحيات الخبيثة التّي كانت عليها تلك الأُمّة، على ظواهر أبدانها، فلبست لباس الخنازير والقردة المعروفة بالحرص الشديد، ومثل هذا "مع وحدة البدن وعدم نزول النفس عن درجتها السابقة" لا يعدّ تناسخاً.

قال التفتازاني: "ان المتنازع هوأن النفوس بعد مفارقتها الأبدان، تتعلق في الدنيا بأبدان أُخر للتدبير والتصرف والاكتساب، لا أن تتبدل صور الأبدان كما في المسخ. وأن تجتمع أجزاؤها الأصلية بعد التفرق، فتردّ إليها النفوس، كما في المعاد على الاطلاق، وكما في إحياء عيسى بعض الأشخاص"16.

وقال العلامة المجلسي: "إن امتياز نوع الإنسان، اذا كان بهذا الهيكل المخصوص، فلا يكون إنساناً بل قرداً. وإن كان امتيازه بالروح المجردة، كانت الإنسانية باقية غير ذاهبة، وكان انساناً في صورة حيوان، ولم يخرج من نوع الإنسان ولم يدخل في نوع آخر"17.

يقول العلامة الطباطبائي: لوفرضنا إنساناً تغيّرت صورته إلى صورة نوع آخر من أنواع الحيوان كالقرد والخنزير، فانما هي صورة على صورة ، فهوإنسان خنزيرٌ وإنسان قردُ لا إنسان بطلت انسانيته وحلّت الصورة الخنزيرية والقردية محلها، فالإنسان اذا اكتسب صورة من صور الملكات، تصورت نفسه بها، ولا دليل على استحالة خروجها في هذه الدنيا من الكمون إلى البروز على حد ما ستظهر في الآخرة بعد الموت.

فالممسوخ من الإنسان، إنسان ٌ ممسوخ، لا انّه ممسوخٌ فاقد للإنسانية. وبذلك يظهر الفرق بين المقام والتناسخ، فإن التناسخ هوتعلق النفس المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن، ببدن آخر، بخلاف المقام18.

السؤال الثاني: التناسخ والر جعة
ما هوالفرق بين التناسخ الباطل بالأدلة السابقة، والقول بالرجعة على ما عليه الإمامية، فان رجوع بعض النفوس بعد مفارقتها أبدانها، إليها في هذه النشأة، أشبه بالتناسخ.

والجواب: قد عرفت عند البحث عن المسخ، أن مجوز التناسخ أمران: تعدد البدن وتراجع النفس عن الحد الّذي كانت عليه، وكلاهما مفقودان في الرجعة، فإن النفس ترجع الى البدن الّذي فارقته من دون أن تمس كمال النفس، وتحطها من مقامها، بل هي على ما هي عليه من الكمال عند المفارقة، فتتعلق أخرى بالبدن الّذي فارقته.

ومن هنا يظهر أن القول بالحشر في النشأة الأُخرى على طرف النقيض من التناسخ.

خاتمة المطاف
إن الذكر الحكيم ينصّ على عدم رجوع نفس الإنسان إلى هذه الدنيا بعد مفارقتها البدن (خرج ما خرج بالدليل كما في احياء الأموات بيد الأنبياء العظام وغيره) يقول سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(المؤمنون:99ـ100).

إن قوله سبحانه (كلاّ)، ردع لطلب الرجوع إلى الدنيا، فيفيد أنه على خلاف السنة الإلهية، ومع ذلك فهوكسائر السنن التّي ربما يخرج عنها بدليل.

وبذلك تعرف قيمة كلمة أحمد أمين المصري ذلك الكاتب المستهتر حيث يقول: "وتحت التشيّع ظهر القول بتناسخ الأرواح"19. والمسكين لا يفرق بين المسخ والتناسخ، كما لا يفرق بين التناسخ والرجعة، بل بين التناسخ والمعاد.


*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4،ص298-312
1- أقرب الموارد، ج 2، مادة نسخ.
2- المفردات في غريب القرآن، مادة نسخ.
3- قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي، المتوفّى عام 710 و716 للهجرة.
4- شرح حكمة الأشراق، المقالة الخامسة، الفصل الأول، ص 476.
5- أي البدن والهيكل المادي الإنساني في اصطلاح شيخ الإشراق ومن تابعه.

6- الأسفار، ج 9، الباب الثامن، الفصل 2، ص 8. ويسمى الأول نسخاً والثاني مسخاً والثالث فسخاً والرابع رسخاً ، يقول الحكيم السبزواري: نَسْخٌ ومَسْخٌ رَسْخٌ فسخ قُسما       إنساناً وحيواناً جماداً نما.
7- وما ذكرناه إجمال ما يرمي إليه أصحاب هذا القول، والتفصيل يطلب من محله، لا حظ في ذلك "أسرار الحكم" للحكيم السبزواري، ص 293 ـ 294.
8- العقل المستفاد أحد مراتب العقل الأربعة المصطلح عليها في الحكمة النظرية: وهي عبارة عن: 1 ـ العقل الهيولاني، 2 ـ العقل بالملكة، 3 ـ العقل بالفعل، 4 ـ العقل المستفاد، راجع في توضيحها شرح المنظومة للحكيم السبزواري، قسم الطبيعيات، مباحث النفس، ص 306 ـ 307.

9- شرح حكمة الإشراق المقالة الخامسة، الفصل الأول، ص 476، والأسفار، ج 9 الباب الثامن، الفصل الثاني.
10- ما ذكرناه تقريراً واضح لما أفاده صدر المتألهين، في أسفاره. لاحظ الأسفار، ج 9، ص 16.
11- لاحظ الأسفار : ج 9، ص 23.
12- شرح المقاصد ، ج 2 ص 38 ولاحظ كشف المراد، ص 113، ط صيدا، ويضيف الأخير: نه لوتعلق نفس واحدة ببدنين لزم أن يكون معلوم أحدهما معلوماً للآخر وبالعكس، وكذا باقي الصفات النفسانية، وهوباطل بالضرورة.
13- لاحظ الأسفار، ج 9، ص 10 . وهذا البرهان يختص بالمشائيين وقبله صدر المتألهين أيضاً.
14- الاسفار، ج 9، ص 2 ـ 3.
15- والاستدلال مبني على أن المراد من النكالة هوالعقوبة كما أن المراد من الموصول في "لما بين يديها وما خلفه"، الذنوب المتقدمة على الاصطياد والمتأخرة عنه. فتكون اللام في قوله: "لم" سببيّة. لاحظ مجمع البيان، ج 1، ص 130.

16- شرح المقاصد، ج 2، ص 39.
17- البحار، ج 58، طبعة بيروت، ص 113.
18- الميزان، ج 1، ص 210 بتلخيص.
19- فجر الاسلام، ص 277. وقد افترى على الشيعة في كتابه هذا ما افترى، وندم عليه في أُخريات عمره حيث لا ينفع الندم.
2009-07-27