يتم التحميل...

الانتشار الكيفي للثّقافة

إضاءات إسلامية

الانتشار الكيفي للثّقافة

عدد الزوار: 8



ونعني بالانتشار الكيفي أي التوسّع الكيفيّ للثقافة، أي إنتاج الثقافة وتفجّر ينابيعها في القلوب والأرواح والاستعدادات. هذا الأمر هامّ جدًّا؛ صحيح أنّه يجب علينا دفع الناس نحو المطالعة، إلّا أنّ الأوجب من ذلك أن ننمّي استعداد الكتابة بين الناس واستعداد إنتاج الكتاب.

ينبغي أن نعمل لتفعيل هذا الاستعداد، ولتبدأ الأقلام بالخطّ على الأوراق، ولتسرع عجلة الفكر لتنتج للناس، وهذا أمر هامّ. إنّ بلدنا، في الظاهر وبحسب الاستعدادات الفنّيّة والثقافيّة الموجودة فيه، يجب في هذا المجال أن يكون من الدول النموذجيّة والمنقطعة النظير. وبما أنّني لا أملك إحصاءات في هذا الخصوص، فلا يمكنني أن أحدّد بالدقّة ما إذا كان في المرتبة الأولى أو الثانية. ولكن كحكم عامّ، حينما ندقّق النظر نجد أنّ الاستعداد الثقافيّ موجود في كلّ فئات وشرائح وأبناء هذا الشعب.

لقد قرأت مؤخّرًا بخصوص مسألة الشعر أن أحد الكتّاب من العهد الصفويّ كان يقول إنّ الذي ينظم في كلّ مرّة بيتًا أو بيتَين من الشعر فهو ليس بشاعر. هذا هو حال أكثر الناس في البلد. وهذا الأمر هامّ للغاية؛ أي إنّ روحيّة نظم الشعر وقريحته موجودة في جميع أو أغلب الناس. والواقع هو كذلك، أنتم تشاهدون بين القرويّين، البعيدين عن المظاهر والعوامل الثقافيّة، أشخاصًا كثيرين لديهم القريحة الشعريّة، والقريحة الفنّيّة في فروع الفنّ الأخرى كذلك حالها.

نحن لدينا شعب صاحب ذوق واستعداد، في بعض الأوقات وفي كتابات الشباب والناشئة – التي تعرض أمامنا في مناسبات مختلفة – يشاهد الإنسان استعدادات جيّدةً جدًّا؛ الاستعداد للكتابة، والاستعداد لإنتاج المطالب الثقافيّة ونشر الفكر بقدرة التعقّل والتفكّر. ينبغي التعرّف على هذه الأمور، وهي كذلك في جميع المستويات.

طبعًا، ولحسن الحظّ، خرجت مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون بعد الثورة من تحت احتكار طبقة خاصّة، وبدأ الشباب يقرأون أشعارهم التي يقدّمونها في المجامع الشعريّة أو في المناسبات المتعدّدة عبر الإذاعة والتلفزيون. هذا الشيء لم يكن في السابق حيث كان يحقّ لبعض الأشخاص فقط قراءة الشعر عبر الإذاعة ممّن كانوا يمتلكون خصوصيّات غير مؤثّرة على مستوى ماهيّة الفنّ ومضامينه. كان هناك بعض الشروط الضروريّة كأنواع العلاقات والارتباطات وبعض الخصوصيّات الأخرى، ويشاهد الإنسان كيف دخل الشباب ساحة الشعر وكم نمتلك اليوم من شعراء.

وفي هذا الخصوص، كان يقول لي أحد الأشخاص المهتمّين بموضوع الشعر والأدب منذ سنتين أو ثلاث – ولعله على الظاهر يمتلك احصاءات – أنّ أعداد مؤلّفي الشعر بعد الثورة قد بلغ أضعاف ما كان عليه قبلها. هذا أمر هامّ جدًّا، وهو يعني أنّ الفنّ منتشر بين أفراد الشعب، وأنّ الاستعدادات وفيرة ومتنوّعة، وما يؤسَف له أنّ هذه الاستعدادات لا يتمّ تفعيلها.

في النظام السابق، تمّ إهمال هذا المجال بالخصوص، لقد أوصلوا الأمر إلى الحضيض؛ أسفل السافلين. وهذا يعني أنّ كلّ ما كان يحتاج إلى تدبير وتخطيط في ذلك الزمان كان معطّلًا، ما خلا بعض الأمور التي كانت تسير بنفسها، كالنبع الذي يجري بصورة طبيعيّة. لكنّ أيّ عمل في المجالات الثقافيّة إذا كان يحتاج إلى متابعة وجهد من قبل المسؤولين، في أعلى المستويات، فسيبقى ناقصًا ومعطّلًا.
في هذا المجال، انظروا إلى الكثير من الفروع الثقافيّة المستوردة أمثال السينما، والمسرح، أو التصوير، وغيرها من الفنون التي ليست من محليّاتنا بل هي مأخوذة من الآخرين. طوال السنوات المتمادية، من تاريخ السينما مثلًا في إيران، والذي يمتدّ لمئة سنة، انظروا إلى صناعة السينما في بلدنا، فهي إن لم تكن صفرًا فلا تزيد عليه كثيرًا. السينما فنّ يحتاج إلى متابعة والواقع أنّهم لم يفعلوا شيئًا. بالتأكيد هناك الكثير من العمل الذي حصل بعد الثورة، وهذا لا يعني أنّنا في المستوى المطلوب، لا، فنحن متأخّرون ستّين أو سبعين سنة. الفئة التي هيمنت على هذا البلد، لم تكن تنحصر آثار أعمالها بزمان وجودها غير الميمون؛ بل استمرّ لمدد أطول.

نحن الآن متورّطون بالمآسي التي أنشأها النظام البهلوي والنظام القاجاري، وسنبقى إلى مدّة طويلة أيضًا على هذا النحو، إلّا أن يجدّ الأشخاص الموجودون في هذا الزمان ويزيحوا ذلك الغبار القديم عن هامة هذا الشعب. افرضوا أنّنا لم نتطوّر في المسرح، مع العلم أنّ المسرح هو من أبلغ أدوات البيان في موطنه، أي في الدول الأوروبيّة والغربيّة، أمّا هنا فلا خبر لدينا عن دوره، مثالنا في ذلك كشخص لا يعرف لغة ما. هكذا هي اللغات الفنّيّة؛ الشعب الذي لا يملك سينما هو كإنسان لا يعرف لغةً من لغات التفاهم والتحاور. تصوّروا أنّ شخصًا في بلدنا يعرف كافّة اللهجات المحلّيّة، فهو إذًا سيتمتع بقدرة واسعة على الفهم والتعاطي أكثر من الذي لا يعرفها. سيتحدّث مع الجميع وسيتفاهم معهم، وسيعمل على تفهيم الجميع وسيأخذ من الكلّ. كذلك الشخص الذي يتقن اللغات غير الفارسيّة من اللغات الأجنبيّة؛ كالعربيّة والإنجليزيّة أو الألمانيّة، كم سيكون مختلفًا عن غير المتقن لها؟

هكذا أيضًا لغة الفنّ، فالشخص الذي لا يفهم شيئًا من المسرح، والرسم، والتصوير، والشعر، فطرق المعرفة مسدودة في وجهه، والشعب الذي لا اطّلاع له على أيّ من هذه الأمور فقد أغلق نافذةً على نفسه. في تلك الأزمنة لم يطوّروا هذه المجالات، حتّى المحلّيّ منها، يعرف ذلك من كان من أهل هذا الفنّ.

مثال ذلك ما حصل في موضوع القصّة والحكاية، والقصّة مقولة هامّة جدًّا. طبعًا نحن نمتلك سابقةً تاريخيّةً طويلةً في هذا الخصوص؛ كانت كتابة القصّة رائجة منذ القديم. انظروا إلى الشاهنامة التي وجدت في بلدنا منذ ألف سنة، إنّ تلك القصّة الخياليّة للفردوسي ليست بالأمر القليل، إنّها في غاية الأهمّيّة، وهو قد اقتبسها من كتب أخرى.

وإذا غضضنا النظر عن عصر ما قبل الإسلام؛ وراجعنا عصر الإسلام فقط، سنجد أنّ حكاية القصص وكتابتها لم يكن قليلًا. لكن انظروا، كم تقدّم هذا الفنّ في بلدنا؟! إذا سئلتُ عن ذلك سأقول بأنّه لم يحصل أيّ تقدّم على هذا المستوى قبل الثورة! أولئك الذين كانوا يدّعون النزعة الإيرانيّة – هؤلاء لم يدّعوا الإسلام إلّا أنّهم ادّعوا الإيرانيّة – لم يتمكّنوا من تقديم شيء باللغة الفارسيّة يستحقّ الترجمة إلى اللغات الأخرى. نحن في تلك الأقسام في غاية الضعف، وفي المقابل ما أكثر الاعمال الكبيرة والقيّمة التي أنجزت في هذه المجالات في العالم بالأخصّ في بعض الدول.

افترضوا حكاية في إيران هي حكاية الأمير أرسلان المعروفة، إنّها قصة بالتأكيد، وهي قصّة مسلّية، ويبدو أنّها كانت إحدى قصص ملوك القاجار، وفي الظاهر أن أحد حكواتيّي الملوك القاجاريّين، ولأجل أن يغفو الملك أو أحد الأمراء رفيعي المقام، كان يذهب إليه كلّ ليلة ويجلس عنده ثمّ ينسج له مقدارًا من القصص الذي كانت نتيجته قصّة الأمير أرسلان المعروفة هذه. لا يوجد عندي أيّ تحقيق في هذا الخصوص، فقد سمعت بذلك فقط. وإذا كان الكلام صحيحًا، فهذا يعني أنّ في مرحلة سابقة علينا، كان هناك ذهن خلّاق إلى حدّ إبداع الأمير أرسلان، وهذا يعتبر استعدادًا. لا أعرف إن كنتم قد قرأتم هذه القصة أم لا؟! كنت شابًّا عندما قرأت هذا الكتاب. وفي الخلاصة هو قصّة كبيرة، لعلّها ألف صفحة وفيها الكثير من النسج والخيال والتخيّل. وهذا يعني أنّه كان هناك استعدادات كبيرة بحيث لو وُجد في ذلك الزمان شخص صاحب شعور، مثقّف، لائق – لأنّ التعاطي مع الشأن الثقافيّ يحتاج إلى لياقة – كان من الممكن إيصال تلك الاستعدادات في تلك المرحلة إلى فعليّتها وواقعيّتها لتضيء في الدنيا اليوم، مع العلم أنّ تلك المرحلة – أي أواسط المرحلة القاجاريّة المصادفة للقرن التاسع عشر في أوروبا – هي مرحلة إنتاج أكبر وأهمّ الروايات في العالم، سواء في فرنسا أو في روسيا.

لقد كُتبت في تلك المرحلة أكثر الروايات قيمةً وأكثرها شهرةً، ولعلّه يمكن القول عن بعضها حتّى اليوم أنّها أفضل الروايات في العالم، كُتبت في بعض الدول الأوروبيّة من جملتها فرنسا – أفضلها في فرنسا – وروسيا وبعض الشيء في إنجلترا. ولكنّ ما يؤسَف له أنّ هذه الاستعدادات لم تتفتّح في إيران قبل الثورة. هناك أعمال جيّدة قد تمّت بعد الثورة، ولكنّ هذه الأعمال لا تتناسب مع شأن هذا الشعب وهذه القدرات والاستعدادات. فمن أيّة جهة تحرّكنا، سنرى أنّنا نصل إلى الثقافة؛ وفي الواقع، إنّ جميع الطرق تنتهي بالثقافة؛ لهذا يجب العمل من أجلها.

بناءً على ما تقدّم، فإنّ الأمر الهامّ بالنسبة لبلدنا هذا وللمثقّفين فيه، هو الانتشار والتوسّع الكيفيّ للثقافة، أي تربية الشعراء والكتّاب والفنّانين ومن يمكنه إنتاج الفنّ والسير به قُدُمًا. هذه أمور ضروريّة. وتزداد الآمال من خلال تشجيع الفنّانين ومعرفة الاستعدادات وفتح أبواب العمل أمامهم، وإذا أنجزت هكذا أعمال على صعيد محافظة ما وعلى الصعيد الوطنيّ فستزداد الآمال، لماذا؟ لأنّ الاستعدادات بارزة. عندما يتمّ القيام بعمل جديد وواسع على الصعيد الوطنيّ، نصل إلى مرحلة الرضا والأمل بأنّ عجلة الثقافة قد انطلقت.

طبعًا نحن اليوم غير متوقّفون على المستوى الثقافيّ. نحن في مرحلة التقدّم، وحقًّا وإنصافًا هناك الكثير ممّا تمّ القيام به ببركة النظام الإسلاميّ المقدّس، وأغلب مسؤولي هذا البلد هم مثقّفون في الأساس، والساحة مفتوحة للعناصر الثقافيّة. في الأعمال الكبرى ينشغل المثقّفون، ولذا هم يعرفون قدر الثقافة والمجالات الثقافيّة.

الهواجس الثقافيّة، شرح مَزجيّ لإحدى الخطب المحوريّة التي تفضّل بها الإمام الخامنئي (حفظه الله)

2021-02-15