يتم التحميل...

أهمية النظام الصحي

النظام والمجتمع

لاشك أننا نستطيع أن نجعل محور النظام الطبي في الإسلام مستنداً إلى إطلاق الآية القرآنية الكريمة التي تتحدث عن حرمة قتل النفس الإنسانية البريئة، وتجعل إفناء الفرد الواحد معادلاً لإفناء البشرية جمعاء، ثم تقول بعد ذلك: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا...

عدد الزوار: 39

لاشك أننا نستطيع أن نجعل محور النظام الطبي في الإسلام مستنداً إلى إطلاق الآية القرآنية الكريمة التي تتحدث عن حرمة قتل النفس الإنسانية البريئة، وتجعل إفناء الفرد الواحد معادلاً لإفناء البشرية جمعاء، ثم تقول بعد ذلك: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا1. وهذه الآية وان لم تشتمل على حكم تكليفي، إلا أنها لا تخلو من تشديد في القضايا الاعتبارية والارتكازية. وعلى ضوئها سنتحدث عن أهمية النظام الصحي في الإسلام.

لما كان المرض مشكلة إنسانية تصيب الفرد وتؤثر على طبيعة المجتمع الإنتاجية، فان النظام الاجتماعي ملزم بإيجاد نظام صحي متكامل يحافظ من خلاله على صحة الأفراد، ويعالجهم معالجة تؤدي بهم إلى الشفاء الكامل، ومن ثم إرجاعهم مرة أخرى إلى عجلة الإنتاج والخدمات الاجتماعية. وإذا لم يؤد العلاج الموصوف من قبل المؤسسة الرسمية إلى شفاء الفرد شفاءً كاملاً، فان النظام الصحي ملزم بإعلان عجز الفرد عن احتلال دوره الطبيعي في المجتمع، مشيراً إلى ضرورة تحمل النظام الاجتماعي مسؤوليته في دفع تعويض مالي يحفظ كرامة الفرد العاجز ويسد حاجته وحاجة عائلته الأساسية.

ويقصد بالنظام الصحي هنا، بالإضافة إلى الطبيب، المؤسسة التي تضم أدواراً مهنية واجتماعية للعديد من المتخصصين والخبراء، كالأطباء المتخصصين بالجراحة الباطنية والتخدير، والصيادلة، ومدراء المستشفيات وعمالها، وشركات التأمين الصحية، ومصانع الأدوية والعقاقير، وكليات الطب، ومعاهد التمريض.

ومع أن المرض قضية شخصية تهم الفرد فحسب، فهو وحده الذي يتألم، إلا أن الواقع يفصح بان المرض مسألة اجتماعية، لأنه لا يمكننا أن نتصور فصل الصحة والمرض والعلاج عن الصورة الاجتماعية الكلية.

فانتشار الأمراض يهز الكيان السياسي، ويؤثر على النظام الاجتماعي من خلال تعطيل طاقات الأفراد في العمل والاستثمار والإنتاج. ويساهم المرض في تقويض النظام الاجتماعي كما تساهم الظواهر الطبيعية والمادية في هدم ما بناه الإنسان. فالزلزال المدمر، والجفاف المؤدي إلى المجاعة، والحرب المؤدية إلى خراب شامل تقوض النظام الاجتماعي كما يقوضه انتشار الأمراض. وهذه الأمراض التي يحتاج في معالجتها إلى تدخل المؤسسة الصحية، تقسم إلى نوعين، الأول: الأمراض الحادة، وهي التي تحتاج إلى فترة علاجية قصيرة نسبياً تؤدي بالإنسان أما إلى الشفاء وأما إلى الموت مثل مرض الحصبة. والثاني: الأمراض المزمنة، وهي التي يحتاج العلاج فيها إلى فترة طويلة، ولكن ليس هناك ضمان بشفاء المريض شفاءً كاملاً، أمثال مرض السكري والتهاب المفاصل.

ويتعدى تأثير المرض إلى عائلة المريض ومحبيه. فمع أن المريض يمر بتجربة مريرة من الآلام والقلق والانزعاج خلال فترة مرضه، إلا أن عائلته تعاني أيضا من حالته الاستثنائية. فقلق العائلة على معيلها، وخوفها من فقدان المورد المعاشي يساهم في اضطراب الوضع العائلي، ويجعله مرتبطاً بصورة وثيقة بصحة المعيل. وعلى صعيد آخر، فان انتشار الأمراض، يساهم أيضا في اضطراب النظام الاجتماعي وإضعاف قواه الإنتاجية، خصوصاً إذا ما انتشرت الأمراض المعدية في المجتمع انتشاراً واسعاً كالملاريا والجدري والكوليرا، فإنها تنزل ضربة ساحقة بالمؤسسة الاقتصادية والإنتاجية للدولة. وهذا يفسر لنا تجاهل الحكومات الاستعمارية في معالجة الأمراض والأوبئة الفتاكة في البلدان المستعمرة معالجة جدية، لان هذه الأمراض تفتح أبواباً لتدمير طاقة المجتمع الإنتاجية واستهلاك مصادره وخيراته. وإذا ضعف المجتمع على الصعيد الإنتاجي تكاثر المستكبرون على اقتسام خيراته ونهبها. وقد سعت بريطانيا عند احتلالها الهند في القرن التاسع عشر إلى استخدام عملية نشر الأمراض كسلاح ضد العدو، مستفيدةً من تجربتها التاريخية في واقعتين، الأولى: في القرن الرابع عشر، والثانية: في بداية القرن العشرين الميلادي، حيث اكتسح الطاعون أوروبا في القرن الرابع عشر وسمي في وقته بالموت الأسود لإفنائه أكثر من ثلث سكان تلك القارة وتدميره البنية الاقتصادية والسياسية والدينية لدول القرون الوسطى الأوروبية. وفي سنة 1918 م قتلت الأنفلونزا الأوروبية أكثر من عشرين مليون فرد2.

وفي حين يعرض الإسلام نظريته الصحية في إطار متكامل، فان نظاماً كنظام الكنيسة النصرانية تبنى لأكثر من ألف سنة النظرية الإغريقية في الطب3، حيث تزعم هذه النظرية إن سوائل الجسم الإنساني ـ التي تتكون من أربعة أنواع هي الدم والبلغم والمرارة الصفراء والسوداء ـ هي سبب نشوء الأمراض. فإذا نقص مستوى احد هذه السوائل الأربعة واختل توازنها، نشأ المرض. ولم تسمح الكنيسة النصرانية الأوروبية في القرون الوسطى تطوير البحوث العلمية الطبية، بل أنكرت على المكتشفين من علماء الطبيعة والطب اكتشافاتهم بحجة إن الإنسان الذي لن يتحقق له الخلود في الحياة الدنيوية لا يحق له البحث في الكيان الخالد للطبيعة التي خلقها الخالق سبحانه وتعالى. وكانت غاية الكنيسة من ذلك، ربط المرضى بالطب الروحي الذي كان يمارسه الكهنة ويحصلون فيه على كمية غير قليلة من الأجور4. ولكن اكتشاف (لويس باستور) نظريته الجرثومية في القرن التاسع عشر، أدى إلى قلب نظرية الكنيسة النصرانية، وتطور العلوم الطبية تدريجياً ووصولها إلى ما وصلت إليه اليوم.

*النظرية الاجتماعية في القران الكريم،د:زهير الاعرجي،أمير_قم،ص127-130.


1- المائدة: 32.
2- (روبرت غوتفراد). الموت الأسود: الكوارث الطبيعية والبشرية في أوروبا القرون الوسطى. نيويورك: المطبعة الحرة، 1983 م.
3- (جون دوفي). الذين بيدهم الشفاء: بروز المؤسسة الطبية. نيويورك: ماكرو ـ هيل، 1976 م.
4- (البرت ليونز) و(جوزيف بيتروسيلي). الطب: تاريخ مصور. سانت لويس: موزبي | تايمز مرر، 1978 م.

2010-05-14