يتم التحميل...

آفات اللسان 2- النميمة، إفشاء السر، بذاءة اللسان، السُّخرية والاستهزاء

مآب المذنبين

يعرّف الشهيد الثاني رضوان الله عليه النَّميمة أنَّها: "نقل قول الغير إلى المقول فيه، كما"يقول: تكلّم فلانٌ فيك بكذا وكذا، سواء نقل ذلك بالقول، أو الكتابة، أو الإشارة والرمز، وكان ذلك النقل كثيراً ما يكون متعلّقه نقصاناً، أو عيباً في المحكي عنه، موجباً لكراهته له، وإعراضه عنه. كان ذلك راجعاً إلى الغيبة، فجمع بين معصية الغيبة والنميمة

عدد الزوار: 101

النَّميمة:

يعرّف الشهيد الثاني رضوان الله عليه النَّميمة أنَّها: "نقل قول الغير إلى المقول فيه، كما"يقول: تكلّم فلانٌ فيك بكذا وكذا، سواء نقل ذلك بالقول، أو الكتابة، أو الإشارة والرمز، وكان ذلك النقل كثيراً ما يكون متعلّقه نقصاناً، أو عيباً في المحكي عنه، موجباً لكراهته له، وإعراضه عنه. كان ذلك راجعاً إلى الغيبة، فجمع بين معصية الغيبة والنميمة"1.

فحقيقة النميمة كشف ما يكره الغير كشفه، وهي من أنواع إفشاء السّر، وهتك السّتر عمّا يكره كشفه، وهي داءٌ خبيثٌ يسري على الألسن فيهدمُ الأسرَ، ويفرّقُ الأحبّة، ويقطعُ الأرحام.


حرمة النَّميمة:

النميمة محرّمة بإجماع المسلمين، وهي من الكبائر، التي تؤدّي إلى شدّة العذاب في القبر، وقد وردت بشأنها آياتٌ ورواياتٌ، قال تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ2، وقال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ3، والهمّاز: النمّام، "همّاز من مادة (همز)، على وزن رمز، ويعني الغيبة، واستقصاء عيوب الآخرين. مشّاء بنميم: تطلق على الشخص الذي يمشي بين النَّاس بإيجاد الإفساد والفرقة، وإيجاد الخصومة والعداء فيما بينهم"4. وقيل أنّ الهُمَزَة: النمّام، واللُمَزَة: المغتاب.

وروي عن أبي عبد الله الصَّادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه واله: ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، قال صلى الله عليه واله: المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، المبتغون للبُراءِ، المعايب"5، وعن الإمام الباقر عليه السلام: "محرّمة الجنّة على العيابين، المشّائين بالنميمة"6، ورُوِي عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تقبل في ذي رحمك، وأهل الرعاية من أهل بيتك، قول من حرّم الله عليه الجنّة، وجعل مأواه النار؛ فإنّ النمّام شاهد زور، وشريك إبليس في الإغراء بين الناس، فقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ7 "8.


دوافع النَّميمة:

دوافع النميمة عديدة، وهي نفسها تقريباً دوافع الغيبة، ويمكن أن يُضافَ إليها دوافع أخرى، منها:

- الجهل بحرمة النميمة، وأنّها من كبائر الذنوب، وعدم الالتفات إلى أخطارها الدنيوية والأخروية.
- إرادة السُّوء بالمحكي عنه، كأن يكون حاقداً على الآخر أو باغضاً له، فيذكر مساوئ من يبغض، يشفي حقده ويبرِّد صدره بواسطة النميمة.
- إرادة الانتصار للنَّفس، والرِّفعة لها، فينقل عنه النميمة.
- إظهار المجاملة والتملّق، أو الحبّ للمحكي له.
- موافقة الجلساء ومجاملتهم فيما هم عليه من الباطل.
- السخرية والاستهزاء واحتقار الآخرين.
- الحسد والتكبّر، فإنّها من الأسباب التي تدفع صاحبها إلى النميمة.


علاج النَّميمة:

كلّ ما مرّ في علاج الغيبة ينطبق بنفسه على علاج النَّميمة، فعلى الإنسان في البداية الرُّجوع إلى دوافع النَّميمة؛ ليقوم بمعالجة ما هو مضادٌّ لها؛ ليقطع بذلك الأسباب والدوافع المسبّبة لهذه الآفة من جذورها:

- فإذا كان السبب هو الغضب، فعليه أن يعالج مسألة الغضب أولاً، كأن يقول: إن أمضيت غضبي على فلان فلعلّ الله تعالى يمضي غضبه عليّ بسبب النميمة، وقد نهاني الله تعالى عنهما، فعصيته واستخففت بنهيه.
- وإذا كان السبب موافقة الآخرين وطلب رضاهم، فهذا من دواعي الغضب الإلهي أيضاً؛ إذ طلبت سخطه برضا المخلوقين، فكيف يرضى المؤمن بسخط الله تعالى من أجل أناسٍ لا ينفعون ولا يضرّون.
- إذا كان السبب تنزيه النفس ونسبة الخيانة إلى غيرك بهدف إرضاء الناس، فاعلم أن التعرّض لمقت الله تعالى وغضبه، أشدّ بكثير من التعرّض لمقت الخلق بالنميمة والغيبة، ولا يدري الإنسان أصلاً إن كان سيسلم من سخط الناس أو لا يسلم، فالذي يرضي الناس بسخط الله تعالى يسخط الله عليه، ويُسخط عليه الناس.
- إذا كان الحسد سبباً للنميمة، فهذا يعني أنّ الإنسان قد جمع بين عذابين؛ لأنه حسد الآخرين على ما أنعم الله تعالى عليهم من نعمه وفيضه، والحاسد -كما تقدّم في مبحث أصول الكفر- يجد الهمّ والغمّ، وضيق الصدر، فعليه أن يلتفت إلى خطورة الحسد، الذي هو أحد أسباب الغيبة أو النميمة.
- إذا كان الباعث هو الاستهزاء والسخرية، فلا بدّ أن يعلم أنّه متى استهزأ الإنسان بغيره فإنّ ذلك سيؤدّي إلى استهزاء الناس به أيضاً، فعليه أن يعالج أسباب النميمة في نفسه أولاً؛ لكي لا يكون عرضةً للاستهزاء والسخرية لاحقاً، وليمنع من انتشار هذه المرض الخبيث في باطنه، ومن ثمّ في المجتمع.


إفشاء السر

قديماً قالوا: إنّ أمناء الأسرار أقلّ وجوداً من أمناء الأموال، وحفظ الأموال أيسر من كتمان الأسرار؛ لأنّ أحراز الأموال منيعة بالأبواب والأقفال، وأحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق.

إنّ كتمان السّر من قضايا الأخلاق العملية، التي لا ينبغي أن يغفل عنها وعن أهميتها المؤمن، الذي يهتم بتربية نفسه، وتزكيتها على مكارم الأخلاق. إنّ كلّ سرّ يؤدّي إفشاؤه إلى مفسدة، سواء على المستوى الفردي، أو الاجتماعي، فهذا السرّ يجب كتمانه من باب حرمة الإضرار بالنفس والآخرين أو إيذائهم، فلا ينبغي أن يُذاع السرّ؛ لما يمكن أن يترتَّب على إفشائه من محاذير وعواقب وخيمة. ولا شكّ أنّ كتمان السرّ سوف يكون عاملاً مهمّاً يساعد على نجاح المؤمنين في أعمالهم العامة، الاجتماعية والدينية والجهادية وغيرها.


ما المراد بالسرّ؟

السرّ هو كلّ ما لا يرضى صاحبه (الفرد أو الجهة) بكشفه وإظهاره، سواء أكان قولاً أو فعلاً أو حالة، وسواء أكان السر بين اثنين أو أكثر. ويدخل ضمن هذا الإطار موارد كثيرة جداً:

1. كلّ من له حسب مهنته اطّلاع على أسرار الناس الماليّة، والجسميّة، والروحيّة، كالعلماء لكثرة رجوع النّاس إليهم، وطرح مشاكلهم لهم، أو الأطباء، أو القضاة، أو موظفي البنوك، ودوائر الأحوال الشخصية، وغيرهم...

2. كلّ من له ارتباط بأسرار العمل التي قد يضرّ إفشاؤها بأمن الأشخاص، أو بأمن المنظّمة، أو الدولة.


حكم إفشاء السرّ:

لا توجد موارد محدّدة لكتمان السرّ، فالموارد كثيرة، منها ما يتعلّق بالجانب الشخصي والعائلي، ومنها ما يرتبط بالجانب العملي والسياسي والاقتصادي، ومنها ما يرتبط بالجانب الأمني والعسكري.
فالقاعدة الفقهية في مورد كتمان أو إفشاء السرّ أنّ حكم ذلك يختلف باختلاف متعلّقه، فقد يحرُم أو يجب أو يستحب. ففي إفشاء سرّ المؤمن مثلاً، ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام النهي الشديد عن إفشاء سرّه وإذاعته، واعتبره الفقهاء مخلاً بعدالة الشخص؛ لأنّه من الذنوب التي يعاقب الله تعالى عليها في الدنيا والآخرة.

روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "المجالس بالأمانة، وليس لأحدٍ أن يحدّث بحديث يكتمه صاحبه إلا بإذنه، إلا أن يكون ثقة، أو ذاكراً له بخير"9.

عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: "يُحشر العبد يوم القيامة وما ندى دماً، فيدفع إليه شبه المحجمة، أو فوق ذلك، فيُقال له: هذا سهمك من دم فلان، فيقول: يا ربّ، إنّك لتعلم أنّك قبضتني وما سفكت دماً10، فيقول: بلى، سمعت من فلانٍ كذا وكذا، فرويتها عليه، فنُقلِت حتى صارت إلى فلانٍ الجبار فقتله عليها، وهذا سهمك من دمه"11.

كما ورد في بعض الروايات نهيٌ شديدٌ عن إشاعة الفاحشة، وُفسّرت الفحشاء بإفشاء السرّ، منها ما رُوِي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه واله: من قال في مؤمن ما رأته عيناه، وسمعته أذناه، فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ... 12"13.

هذه الروايات وغيرها، بل كلّ الروايات التي تحدّثت عن حرمة الغيبة والنميمة، تدخل ضمن حرمة إفشاء السرّ؛ لأنّ الغيبة قد تتضمّن إفشاء السرّ، والنميمة " كما تقدّم - هي في الحقيقة من مصاديق إفشاء السرّ، وهتك الستر.


موارد استثناء كتمان السر:

الأصل في السرّ هو حظر وحرمة الإفشاء، إلا في موارد عدّدها الفقهاء، وهي:

1. الحكم والشهادة والإفتاء: يجوز إفشاء السرّ إذا كان لازماً عند الحاكم الشرعي العادل، سواء أكان الفاشي هو صاحب الدعوى، أو الشاهد، بل يجب على الشاهد الإفشاء، لو توقّفت الشهادة والحكم عليه، كما لو رأى الجاني حين جنايته سرّاً، أو أقرّ المدين بدينه عنده سرّاً.

2. جرح الشهود: يجوز بل قد يجب إفشاء ما يوجب فسق الشاهد عند الحاكم؛ لكي لا يحكم طبقاً لشهادة فاسدة.

3. إبطال البدع والأباطيل: إذا توقّف إبطال بدعة على إفشاء أسرار مبتدعها للناس لكي يبتعدوا عنه ولا يضلّوا بسببه جاز، بل وجب، لكن في مورده، وأمام الجهة المعنية فقط.


الفحش وبذاءة اللسان:

الفحش هو: التعبير عمّا يقبح التصريح به، كألفاظ الجماع، والآلة، ممّا يتلفّظ به السفهاء، ويتحاشاه النبلاء، ويعبّرون عنها بالكناية والرمز كاللمس والمسّ، كناية عن الجماع. وأهل الأدب والأخلاق لا يتلفظون بمثل هذه الألفاظ والمفاهيم لياقةً وأدباً، كالكناية عن الزوجة بالعائلة، وعن التبوّل والتغوّط بقضاء الحاجة، إذ التصريح بتلك الألفاظ والمفاهيم مستهجن عند العقلاء والعارفين.

أما السبّ فهو الشتم، نحو: "يا خنزير، يا خائن..."وأمثاله من مصاديق الإهانة والتحقير.
وأما القذف، نحو: يا ابن الفاعلة، يا زوج الزانية...
وهذه الخصال الثلاثة تعتبر من أبشع مساوئ اللسان التي استنكرها الشرع والعقل، وحذّرت منها الروايات.

قال رسول الله صلى الله عليه واله: "إنّ الفحش لو كان مثالاً، لكان مثال سوء"14، وعنه صلى الله عليه واله: "إنّ الله يبغض الفاحش البذيء، السائل الملحف"15، وعنه صلى الله عليه واله: "إنّ من أشرّ عباد الله من تكره مجالسته لفحشه"16، وعنه صلى الله عليه واله: "سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه"17.

وروى عمر بن نعمان الجعفي قال: "كان لأبي عبد الله عليه السلام صديق لا يكاد يفارقه، فقال لغلامه يوماً: يا ابن الفاعلة، أين كنت؟ قال: فرفع أبو عبد الله يده فصكّ بها جبهة نفسه، ثم قال: "سبحان الله، تقذف أمّه، وقد كنت أرى أنّ لك ورعاً فإذا ليس لك ورع". فقال: جعلت فداك، إنّ أمّه سندية مشرِكة، فقال عليه السلام: "أما علمت أنّ لكلّ أمّة نكاحاً؟! تنحّ عني"، فما رأيته يمشي معه حتى فرّق الموت بينهما"18.


الآثار السَّلبية لبذاءة اللسان:

لبذاءة اللسان العديد من الآثار السلبية والقبيحة، نذكر منها:

1. تُجرّد الإنسان من خصائص الإنسانية المهذّبة، وأخلاقها الكريمة، وتسمّه بالسفالة والوحشيّة.
2. هي سببٌ للعداء والبغضاء، وإفساد العلاقات الاجتماعية، وإيجاب المقت والمجافاة بين أفراد المجتمع.
3. تُعرّض ذويها لسخط الله وعقابه الأليم كما صوّرته النصوص السالفة، روي أمير المؤمنين عليه السلام: "اللسان سَبُعٌ، إن خُلي عنه عقر"19.


علاج بذاءة اللسان20:

ولقد دعت الشريعة الإسلاميّة إلى التحلّي بأدب الحديث، وطيب القول بصنوف الآيات والأخبار، وركّزت على ذلك تركيزاً متواصلاً؛ إشاعةً للسلام الاجتماعي، وتعزيزاً لأواصر المجتمع.

قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا21، وفي آية أخرى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا22، وقال أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا23.

فالكلام الطيّب والعفيف حلاوته ووقعه في نفوس الأصدقاء والأعداء معاً، ففي الأصدقاء ينمّي الحبّ، ويستديم الودّ، ويمنع نزغ الشيطان في إفساد علائق الصداقة والمودّة، وفي الأعداء يلطّف مشاعر العداء، ويخفّف من إساءتهم وكيدهم.


السخرية والاستهزاء:

معنى السخرية:
السخرية هي محاكاة أقوال الناس، أو أفعالهم، أو صفاتهم على سبيل استنقاصهم والضحك عليهم، بألوان المحاكاة القولية والفعلية. وقد حرّمها الشرع لإيجابها العداء، وإثارة البغضاء، وإفساد العلاقات الوديّة بين أفراد المسلمين وكيف يجرأ المرء على السخرية بالمؤمن واستنقاصه، وإعابته، وكل فرد سوى المعصوم، لا يخلو من معائب ونقائص، ولا يأمن أن تجعله عوادي الزمن يوماً هدفاً للسخرية والازدراء.

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون24.


الفرق بين السخرية واللمز والتنابز:

ندّد القرآن الكريم بالسخرية، وحذّر منها، كما جاء في الآية السابقة، حيث حذّرت من ثلاثة عناوين:

1. السخرية.
2. اللّمز.
3. التنابز بالألقاب.

ويفرّق بعض العلماء بين هذه العناوين بالشكل التالي:

• السخرية: هي عيب من لا يستحق أن يُعاب، على وجه الاحتقار له.
• الهمز: العيب في حال غياب الشخص، أي الغيبة. وقيل: لا يكون إلا في اللسان.
• اللّمز: العيب في المشهد، وقيل: إنّه يكون باللسان وبالعين والإشارة، وكلاهما يصدق عليهما مصطلح الغيبة، كما تقدّم في بحث تعريف الغيبة.
• النبز: القذف باللقب، يُقال: نبزته أنبزه، أي لا تقل لأخيك المسلم: يا فاسق، يا منافق، وما شاكل ذلك.


حكم السخرية والاستهزاء:

لا يجوز للمسلم أن يستهزئ ويسخر من أخيه المسلم، أو يلمزه ويتتبع عثراته، أو ينبزه بالألقاب السيّئة. فالصورة التي يقدّمها ويريدها القرآن الكريم للمجتمع الإسلامي، قائمة على أساس الأخوّة "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ"25، وهي عكس ما تحقّقه السخرية والاستهزاء.

فالرابطة القوية التي تؤطّر المجتمع الإيماني الصالح، وتشدّ بعضه بعضاً، هي الأخوة الإيمانية، التي تجعل المؤمنين فيما بينهم كالجسد الواحد، إذا تألّم عضو منه سهر له بقية الجسد بالحمى. وإنّ هذا المجتمع المبني على الأخوّة، لا يمكن أن يبقى موحّداً، وقوياً، ومتماسكاً، إذا دبّت فيه الأمراض الأخلاقية، كالسخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، فإنّ هذه الأمور من أهم أسباب تفكيك المجتمع.

ولكي نحفظ المجتمع الإسلامي من الانحطاط، والانهيار، والضعف، علينا اعتماد القواعد الاجتماعية التي تفهم من الآية الكريمة، وهي ثلاث قواعد:

أولاً: عدم السخرية بين الأفراد، فهي طريقة لا أخلاقية في التعاطي مع الأمور.

ثانياً: عدم تتبّع عثرات المسلمين، فالآية الكريمة تدعو إلى عدم تتبّع عثرات المسلمين وكشفها، ولذا قال تعالى: ﴿وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُم أي لا يطعن بعضكم على بعض، ولا يتتبّع بعضكم عثرات بعض. وقد وردت روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام تُحذّر من خطورة هذه الصفة السيّئة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله: "يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يُخلص الإيمان إلى قلبه، لا تذمّوا المسلمين، ولا تتبّعوا عوراتهم؛ فإنّه من تتبّع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبّع الله عورته يفضحه ولو في بيته"26.

ثالثاً: عدم التنابز بالألقاب، بل ينبغي مخاطبة الناس بعضهم بمودّة، وتقدير، واحترام دائماً، أمّا تخاطب الناس بالألقاب السيّئة، التي يعبر عنها القرآن بالتنابز بالألقاب، فهي فضلاً عن حرمتها فإنّها تكشف عن تخلّف ذلك المجتمع وانحطاطه.


الكلام فيما لا يعني:

عرّفه العلماء: "حدّ الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلّم بكلام لو سكتّ عنه لم تأثم ولم تستضرّ به في حال ولا مال..."27.

مثال ذلك أن تجلس مع قوم، فتذكر لهم أسفارك، وما رأيت، وما حصل معك من شؤون وشجون، فلو فرضنا أنّك بالغت، وجاهدت نفسك، وأبعدتها عن التفاخر، وتزكية النفس والغيبة، يبقى ذلك مضيعةً للوقت والجُهد. ومن جملة تلك الأمور أن تسأل غيرك عمّا لا يعنيك.

وهذه الآفة لا يكاد ينجو منها إنسانٌ، إلا من رحم ربي، وهي الكلام فيما لا يعني. وعلى المؤمن أن يلتفت، حتى في المواضع التي تعنيه ينبغي أن لا يتكلّم بها حتى يجد لذلك مكاناً مناسباً لقوله، هذا فضلاً عن كون كلامه فيما لا يعني.

روي عن الإمام الصادق عليه السلام، ينقل عن أبيه عليه السلام: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعني"28، أيّ من جملة محاسن إسلام الإنسان وكمال إيمانه هو تركه ما لا يعنيه من قول، أو فعل، واقتصاره على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى "يعنيه" أن تتعلّق عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية شدّة الاهتمام بالشيء، وإذا حسن الإسلام اقتضى ترك ما لا يعني كلّه، من المحرمات، والمشتبهات، والمكروهات، وفضول المباحات، التي لا يحتاج إليها، فإنّ هذا كلّه لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه.

ومن أهمّ الآثار السلبية للكلام فيما لا يعني أنّه يوقع الإنسان في الخطأ والزلل، فعن رسول الله صلى الله عليه واله قال: "الصّمت حكم وقليل فاعله، ومن كان كلامه فيما لا يعنيه كثرت خطاياه"29، بالإضافة إلى أنّه يفوت على الإنسان ما يمكن أن يعنيه أو يفيده واقعاً، عن الإمام علي عليه السلام قال: "من اشتغل بما لا يعنيه، فاته ما يعنيه"30، بالإضافة إلى أنّه يوجب تضييع الوقت، والمنع من الذكر والفكر بالله تعالى، وغيرها من الطاعات والعبادات.

لذا ينبغي على الفرد المؤمن أن يلزم نفسه السكوت عن بعض ما يعنيه؛ حتى يعتاد على ترك ما لا يعنيه.

رُوِي عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام: "إنّ المعرفة بكمال دين المسلم ترك الكلام فيما لا يعني، وقلّة مرائه، وحلمه، وصبره، وحسن خلقه"31.

وسُئِل الإمام زين العابدين عليه السلام يوماً عن الكلام والسكوت، أيهما أفضل؟ قال: "لكلّ واحد منهما آفات، وإذا سلما من الآفات، فالكلام أفضل من السكوت؛ لأن الله عزّ وجلّ ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، وإنّما بعثهم بالكلام، ولا استُحِقّت الجنّة بالسكوت، ولا استُوجِبت ولاية الله بالسكوت، ولا تُوقِّيت النار بالسكوت، ولا يُجنَب سخط الله بالسكوت، إنّما كلّه بالكلام، وما كنت لأعدل القمر بالشمس، إنّك تصف فضل السكوت بالكلام، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت"32.


1- كشف الريبة عن أحكام الغيبة، ص303.
2- القلم، 11.
3- الهمزة، 1.
4 - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج18، ص531.
5- أصول الكافي، ج2، ص235.
6- أصول الكافي، ج2، ص369.
7 - الحجرات، 6.
8- بحار الأنوار، ج47، ص168.
9- أصول الكافي، ج2، ص660.
10- ورد في حاشية الكافي (ج2، ص370): ما ندى دما أي ما ابتل بدم، وهو مجاز شائع بين العرب والعجم. قال في النهاية فيه: من لقي الله ولم ينتد من الدم الحرام بشيء دخل الجنة، أي لم يصب منه شيئاً، ولم ينله منه شيء، كأنّه نالته نداوة الدم وبلله، يقال: ما نديني من فلان شيء أكرهه، ولا نديت كفّي له بشيء.
11- بحار الأنوار، ج7، ص203.
12- النور، 19.
13- بحار الأنوار، ج73، ص213.
14 - أصول الكافي، ج2، ص324.
15 - أصول الكافي، ج2، ص325، الملحف: ألحف في المسألة إلحافاً إذا ألحّ فيها ولزمها.
16 - بحار الأنوار، ج16، ص281.
17- أصول الكافي، ج2، ص360.
18- أصول الكافي، ج2، ص324.
19- بحار الأنوار، ج68، ص290.
20 - راجع: كتاب الأخلاق ، ص236-242.
21 - الإسراء، 53.
22 - البقرة، 83.
23- الأحزاب، 70-71.
24 -الحجرات:11.
25-الحجرات:10.
26 - أصول الكافي، ج2، ص354.
27 - إحياء علوم الدين، ج4، ص185.
28 - وسائل الشيعة، ج12، ص199.
29- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، ص20.
30- بحار الأنوار، ج73، ص319.
31 - مستدرك سفينة البحار، ج1، ص207.
32 - بحار الأنوار، ج68، ص274.
33 - الشاه آبادي أستاذ الإمام الخميني في الفلسفة والعرفان.
34 -الأربعون حديثا، الحديث السادس، فصل في بيان تأثير الحظوظ الدنيوية في القلب ومفاسده.

2015-08-22