يتم التحميل...

أصول الكفر (2) - الحِرص، الحسد

مآب المذنبين

الحِرص صفةٌ من الصفات النَّفسانية، تدفع الإنسان إلى جمع ما هو أكثر من حاجته، وهو شعبةٌ من حبّ الدُّنيا، ومن الصفات المهلكة والأخلاق الفاسدة.

عدد الزوار: 36

مفهوم الحِرص:

الحِرص صفةٌ من الصفات النَّفسانية، تدفع الإنسان إلى جمع ما هو أكثر من حاجته، وهو شعبةٌ من حبّ الدُّنيا، ومن الصفات المهلكة والأخلاق الفاسدة.

ونستطيع أن نشبّه الحريص بالشخص المبتلى بداء الاستسقاء (العطاش)، فإن عطشه لا ينطفئ مهما شرب من الماء، وكذا الشخص الحريص، فإنّ نهمه وعطشه وولعه في جمع الأموال والثروات لا يقف عند حد، فتراه يلهث وراء الدُّنيا حتَّى آخر لحظة من عمره، بل إنّ بعضهم يزداد حرصاً وطمعاً كلما ازداد عمره، وأوغل في الشيخوخة.

روي عن رسول الله صلى الله عليه واله: "يشيب ابن آدم ويشبّ فيه خصلتان: الحِرص، وطول الأمل"1، وروي عنه أيضاً صلى الله عليه واله: "منهومان لا يشبعان: طالب دنيا وطالب علم، فمن اقتصر من الدُّنيا على ما أحلّ الله له سلِم، ومن تناولها من غير حِلّها هَلَك، إلا أن يتوب أو يراجع، ومن أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجا، ومن أراد الدُّنيا فهي حظّه"2.

يُفهم من هذه الرواية أنّ طالب الدُّنيا لا يشبع أبداً، بل يبقى في حالة ازديادٍ دائمٍ لا ينقطع؛ لأنّ من طلب بشكل يفوق الحد المعقول، كان ذلك لشدّة حِرصه على جمع زخارفها، وطول أمله في تحصيل ما يتصوّر منها، وكمال محبته لها بنفسها، فهو لا يشبع بتناول مرتبة من مراتبها، بل كلّما حصلت له مرتبة اقتضى الحِرص وطول الأمل تناول مرتبة أخرى فوقها، وهكذا دائماً إلى أن يموت جوعاً"3.


جذور الحِرص وأنواعه:


من أهمّ أسباب الحِرص هو حبّ الدُّنيا، والتعلّق بزخارفها وزبرجها وزينتها. فما تناله النَّفس من حظٍّ في هذه الدُّنيا، سوف يترك أثراً في القلب، وسوف يكون سبباً لتعلّق القلب بها والحِرص عليها. وكلّما ازداد التلذّذ بالدُّنيا، اشتدّ تأثّر القلب بها وحبّه لها والحِرص عليها، كما في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "ما فتح الله على عبد باباً من أمر الدُّنيا إلا فتح الله عليه من الحِرص مثله"4.

والحِرص الذي يعني شدّة العلاقة والرغبة بشيء معيّن بحيث يسعى جاهداً لتحصيله، هو على نحوين: حِرص ممدوح وآخر مذموم، وذلك بحسب متعلّقه. فإذا وقع الحِرص في طريق الدُّنيا وتحصيل المال والثروة والملذّات فإنه يكون مذموماً، أمّا إذا وقع في طريق الخير، كالحِرص على العلم أو الجهاد في سبيل الله فإنّه يكون ممدوحاً.

روي عن الإمام علي عليه السلام في الحِرص الإيجابي -عند بيانه لصفات المتقين- أنّه قال: "فمِن علامة أحدهم أنّك ترى له قوةً في دين، وحِرصاً في علم"5، وعن الإمام الباقر عليه السلام: "لا حِرص كالمنافسة في الدرجات"6.

يقول العلامة الطباطبائي في شرح قوله تعالى: ﴿إنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً: "الهلوع صفةٌ مشتقةٌ من الهَلَع، وهو شدّة الحِرص. وذلك أنّ الحِرص الشَّديد الذي جُبل عليه الإنسان ليس حِرصاً منه على كل شي‏ء، خيراً كان أو شراً، نافعاً كان أو ضاراً، بل حِرصاً منه على ما يراه خيراً لنفسه أو نافعاً. وليس الهلع وشدّة الحِرص المجبول عليه الإنسان - وهو من فروع حبّ الذات - في حدّ نفسه من الرذائل المذمومة، كيف؟ وهي الوسيلة الوحيدة التي تدعو الإنسان إلى بلوغ سعادته وكمال وجوده، وإنّما تكون رذيلةً مذمومةً إذا أساء الإنسان في تدبيرها، فاستعملها فيما ينبغي وفيما لا ينبغي، وبالحقّ وبغير حقّ، كسائر الصفات النَّفسانية التي هي كريمة ما لزمت حدّ الاعتدال، وإذا انحرفت إلى جانب الإفراط أو التفريط عادت رذيلةً ذميمة"7.


الآثار السَّلبيّة للحِرص:

بالرجوع إلى الروايات الشريفة، نجد أنّ للحِرص آثاراً سلبيةً وسيئةً عديدة، نذكر منها:

1. سوء الظن: فالحِرص يؤدّي إلى سوء الظن بالله تعالى، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه قال: "اعلم يا علي، إنّ الجُبن والحِرص والبخل غريزةٌ واحدةٌ، يجمعها سوء الظن"8.

2. المشقّة والنَصَب: الحِرص على ملذات الدُّنيا يورث الإنسان التعب، ويوَّرطه في السعي الدائب لتأمين رغباته الموهمة وملذّاته الفانية، فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "الحِرص مطيّة التعب"9.

3. الفقر والهلاك: الحريص لا يشبع؛ لأنه دائماً يسعى إلى جمع المال وإكثار الثروات، عن الإمام علي عليه السلام: "الحريص فقير ولو ملك الدُّنيا بحذافيرها"10. ومن الآثار السَّلبيّة للحِرص أنّه سبب لوقوع صاحبه في المزالق والمهالك، روي عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه قال: "إنّ الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم، وهما مهلكاكم"11.

4. الهمّ والغمّ: الحريص يُكبِّل نفسه بالقيود يوماً بعد آخر إلى أن توصد أمامه شيئاً فشيئاً طرق النجاة والفلاح بالكامل، روي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "مَثَل الحريص على الدُّنيا كمَثَل دودة القز، كلّما ازدادت من القزّ على نفسها لفّاً، كان أبعد لها من الخروج حتَّى تموت غمّاً"12.

5. الوقوع في الحرام: الحِرص يؤدّي إلى الكثير من الذنوب والخطايا والقبائح، ومنها عدم مراعاة الحلال والحرام، وترك احترام الآخرين، والتلوّث بأنواع الظلم والجور والعدوان، فيما أوصى به أمير المؤمنين عليه السلام مالك الأشتر في عهده: "ولا تُدخلَّن في مشورتك... ولا حريصاً يزيّن لك الشره بالجور..."13.

إلى غيرها من العواقب والآثار السيئة التي تورث الإنسان البعد عن الله تعالى، وتبعده عن الكمال يوماً بعد آخر.


علاج الحِرص:

الحِرص سلوك مكتسب يمكن علاجه كالكِبْر، ولا بدّ أن يمرّ بمراحل العلاج التي طرحناها سابقاً في علاج الكِبْر، وهي: مرحلة التشخيص، ثمّ مرحلة القرار، ثمّ مرحلة التنفيذ، ثمّ مرحلة الثواب والعقاب الذاتي، فمرحلة المراقبة، وهذه المراحل يمكن أن تنفع في كلّ الأمراض الأخلاقية.

وقد ذكر علماء الأخلاق عدّة طرق وأساليب لمعالجة مرض الحِرص، أهمّها الرجوع إلى الجذور الأساسية لهذا المرض، والذي يعتبر حب الدُّنيا وسوء الظن بالله تعالى من أهم ركائزه وأسبابه، ويكشف عن وجود خللٍ في البنية العقائدية للإنسان، وبالتحديد خلل في التوحيد الأفعالي لدى المعتقد.

فالذي لا يعتقد بأنّ الله تعالى قادرٌ ورازق، وأنّ كلّ شيء بيده، وأن مفاتيح الخير كلّها عنده، فإنّ هذا سوف يؤثّر في إيمانه وسلوكه، وسوف يكون دافعاً له لجمع الأموال والثروات دون رادعٍ ولا حسيب. أمّا الشَّخص الذي يؤمن إيماناً حقيقياً بقوله تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاق14، فإنّه وبدلاً من الحِرص على جمع الأموال، سوف يتركز جلّ همّه على كيفية إنفاق هذا المال في سبيل الله، ويسعى في عمل الخير وخدمة الناس شكراً لله تعالى على نعمه.

والعمدة في علاج هذه الآفة أمران أساسيان15:

- العلاج النظري:

وهو أن يتفكّر الإنسان في الآثار السَّلبيّة لهذه الآفة المهلكة، وفي عواقبها الوخيمة على الصعيدين الفردي والاجتماعي، وما يترتّب عليها من المهانة والمذمَّة.
وفي المقابل أن يتفكّر في فضيلة القناعة، وما تحويه من المدح والشَّرف وعزّة النَّفس والاستغناء عن الآخرين، وغيرها من الخصال الحميدة، فقد روي عمرو بن هلال أنّه قال: قال أبو جعفر عليه السلام: "إيّاك أن تطمح بصرك إلى من هو فوقك، فكفى بما قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه واله: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ...16، وقال: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...17، فإن دخلك من ذلك شيء فاذكر عيش رسول الله صلى الله عليه واله، فإنما كان قوته الشعير، وحلواه التمر، ووقوده السعف 18 إذا وجده"19.

إنّ هذا التفكّر بالنسبة للإنسان مقدّمةً نظريةً وفكريةً تساعده في عدم الوقوع في شِراك هذه الآفة الخطيرة. كما إنّ للتأمّل في سيرة الأنبياء والصالحين عظيم فائدة في هذا المجال أيضاً؛ لكونهم الأسوة والقدوة الحسنة التي يُحتذى بها على الدوام.

- العلاج العملي:

أولاً: الاقتصاد في أمر المعيشة حتَّى لا يقع في وهم الخوف من الفقد والخسران، فمن كثر إنفاقه يصعب عليه أن يتحلّى بخُلق القناعة بعد ذلك، عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه قال: "ما عال من اقتصد"20، وعنه صلى الله عليه واله: "ثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب"21، وعنه صلى الله عليه واله أيضاً قال: "التدبير نصف العيش"22، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "ضمنت لمن اقتصد ألا يفتقر"23.

ثانياً: الاهتمام بأمر الحال، ولا ينبغي أن يكون مضطرباً لأجل المستقبل، وأن يقوّي اعتقاده واعتماده على فضل الله تعالى، ووعده بأنّ الرزق الذي قُدّر له سوف يأتيه حتماً، وإن لم يكن حريصاً، ولا مضطرباً لأجله، ولا يعلم لنفسه مدخلاً يأتي منه رزقه، قال رسول الله صلى الله عليه واله: "أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يعلم، فإنّ العبد إذا لم يعلم وجه رزقه كثر دعاؤه"24.


الحسد:


الحسدُ مدخلٌ أساسٌ من مداخل الشَّيطان إلى القلب، فبالحسد لُعِن إبليسُ وجُعِل شيطاناً رجيماً. ولقد ذمّ الله تعالى الحسد في القرآن الكريم في مواضعَ متعدِّدة؛ قال تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ25، وفي آية أخرى، قال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا26، وذلك لأنَّ الحاسدَ عندَه شيءٌ من الاعتراض على أقدار الله تعالى التي قدَّرها على عباده. ونار الحسد إذا اشتعلت أحرقت كلَّ القِيَم الفاضلة، وولَّدت رذائل الأخلاق، من حقدٍ وعداوةٍ وسعيٍ لوقيعة بين الأخوان، والبغضاء بين الناس، والتعزّز والترفّع على الآخرين، وغير ذلك.

ولذا اعتبره الإمام الصادق عليه السلام المصدر الثالث للمعصية، وهو أصل من أصول الكفر - كما مرَّ في الرواية - وهو من أمراض القلب الأخلاقية الخطيرة التي تظهر عوارضها بطرق مختلفة، وأشكال مخيفة في كثير من الأحيان، كالسعي الفعلي لإزالة النعمة عن الآخرين، لا تمنّي زوالها فقط.

"وهو من أعظم الأدواء، وأكبر المعاصي وأشرّها، وأفسدها للقلب، وهي أوّل خطيئة وقعت في الأرض لمّا حسد إبليس آدم عليه السلام فحمله على المعصية، فكانت البلية من ذلك إلى الأبد، وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه واله بالاستعاذة من شرّه، ومن شرّ حاسد إذا حسد، بعد أن استعاذ من الشيطان والساحر وأنزله منزلتهما"27.


تعريف الحسد:

الحسدُ هو تمنّي زوال نعمة المحسود وانتقالها للحاسد أو مجرّد زوالها عنه، فإن لم يتمنّى زوالها بل تمنّى نظيرها فهذه غبطة، وهي ليست ذميمة. فالغبطةُ إذاً هي تمنّي الإنسان أن تكون له نعمة مثلما للآخرين أو أكثر منها، دون أن يتمنّى زوال تلك النّعمة عن الآخر.

والسبب الذي من أجله عُدّ الحسد من أصول الكفر؛ هو كون الحسد في الأصل مرضاً قلبياً، وجحوداً لفضل الله تعالى.


بواعث الحسد:

يرى العلامة المجلسي قدس سره أنّ أسباب الحسد يمكن حصرها في سبعة أمور28:

1. العداوة والبغضاء والحقد على الآخرين: وهو من أقوى بواعث الحسد، وأشدّها على مكايدة الحسود واستلاب نعمته، ما يتسبّب في زوال النعمة عن الطرف الآخر الذي يحمل له العداء ويبطن له الحقد.

2. التكبّر والترفّع: لأن الحسود لا يتحمّل أن يرى النعمة على الآخرين، لذا يدفعه هذا الخلق السيّئ إلى الترفّع على المحسود والتكبّر عليه. فإذا أصاب بعض أمثاله ولايةً أو علماً أو مالاً خاف أن يزاحمه أحدٌ، فتراه يعمل على إزالة هذه النعمة قولاً وعملاً، ولكن هذه المرة من باب التعالي والترفّع على المحسود، ولأجل إحراز تفوّقه وغلبته عليه.

3. الاستنكار والرفض: فالحسود إذا رأى نعمةً عظيمةً في إنسان ما قد يتعجّب من كيفية فوزه بهذه النعمة أو الفرصة، فيدفعه هذا الاستغراب إلى إنكار هذه النعمة أو تسفيهها والتقليل من شأنها، كمقدّمة لزوالها لاحقاً، كما أخبر الله تعالى الأمم السّالفة إذ قالوا: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا29، فهم تعجّبوا من أن يُنَوّر بشرٌ مثلهم برتبةِ الرّسالة والوحي والقُرب من الله تعالى؛ فحسدوهم وتمنّوا زوال النبوّة عنهم بغياً وحسداً.

4. الخوف من فوت المقاصد: فالحسود يخاف من أن يزاحمَه صاحبُ النّعمة، ويمنعه من الوصول إلى مقاصده وأهدافه بما لديه من نِعم. لذا يدفعه خوفه هذا إلى استفراغ الوُسع والجُهد لإبعاد من يزاحمه؛ ليتفرّد هو في الوصول إلى هذه الغايات والمقاصد. ومن هذا الجنس تحاسد الأخوة في التَّزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين لأهدافٍ ماليّة مثلاً، وكذلك تحاسد التّلميذين لنيل الحظوة والدّرجة الرّفيعة عند الأستاذ، إذا كان غرضهما نيل الشّهرة وغيرها من الحالات والنّماذج...

5. حبّ الرئاسة: حيث يكون سبباً في تمنّي الإنسان المحبّ للسّلطة والمنصب زوال نعمةٍ عن الآخرين، لكي يتمكَّن من تحكيم سيطرته وحكومته وبسط نفوذه.

6. خبث الطّينة والسّريرة: وهذا ما يسمِّيه بعض العلماء بالبخل، فالبخل ليس فقط عدم الإنفاق في المال، بل من مصاديق البخل أيضاً أن يتألَّمَ الإنسان وينزعجَ عندما يرى نِعم الله تعالى تصل إلى غيره. وهذا في الحقيقة من خبث النَّفس وشُحّها على عباد الله تعالى.


مفاسد الحسد وآثاره:

الحسد كأيّ ظاهرةٍ مرضيةٍ لها أعراض وعلامات تظهر على صاحبها، ولا بدّ من الالتفات لهذه العلامات، والمبادرة إلى علاجها خصوصاً في المراحل الأولى، في الحديث عن إمامنا الصادق عليه السلام عن آبائه عليه السلام عن الإمام علي عليه السلام قال: "للحاسد ثلاث علامات: يتملّق إذا شهد، ويغتاب إذا غاب، ويشمت بالمصيبة"30.

وهناك علائم كثيرة ذُكرت للحسد، منها:

1. الفرح بالشرور: الحاسد يحزن ويتألّم عندما يسمع بنعمة تصيب غيره، حتَّى لو لم تظهر آثار الحزن على محياه، ويفرح بالخسارة أو الأضرار والشرور التي تقع على غيره، عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الحاسد يفرح بالشرور، ويغتمّ بالسرور"31.

2. اللامبالاة: أحياناً قد يكتفي الحسود بإظهار عدم اهتمامه بالطرف الآخر، أو يقطع رابطته وعلاقته معه، وإذا اتّفق أن تحدَّث أحدٌ عنه غيَّر الحديث، وإذا أُجبر على التحدّث فإنه يسعى لإخفاء صفاته البارزة ونقاط قوّته أو اكتفى بالسّكوت32.

وللحسد نتائجُ سلبيةٌ على المستوى الفردي، يبيّنها الإمام الخميني قدس سره بالقول:"إنّ جميع الصفات المعنوية والظاهرية للمؤمن تتنافى والآثار التي يوجدها الحسد في ظاهر الإنسان وباطنه، ومن هذه الأمور:
- أنّ المؤمن بالله تعالى يُحسن الظنّ به، وهو راضٍ بقسمه الذي يقسمه بين عباده. أمّا الحسود فساخطٌ على الله تعالى، يشيح بوجهه عن تقديراته.
- المؤمن لا يغلبه حبّ الدُّنيا، والحسود إنّما هو مبتلىً بشدّة حبّه للدنيا.
- المؤمن لا يداخله خوفٌ ولا حزنٌ إلا من بارئ الخلق، أمّا الحسود فخوفه وحزنه يدوران حول المحسود.
- المؤمن متواضع، والحسود متكبرٌ في معظم الحالات.
- الحسد آفة الإيمان التي تأكله، كما تأكل النّار الحطب، عن الإمام الصادق عليه السلام: "آفة الدين الحسد، والعُجب، والفخر"33، وعنه: "إنّ الرجل ليأتي بأيّ بادرةٍ فيكفر، وإنّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النّار الحطب"34.
- من مفاسد هذا الخُلُق الذميم، أنّه يورث ضيق القبر وضغطته.
- تتولّد عن الحسد مفاسد أخرى، بل إنّ عدداً من السيئات الأخلاقية والأعمال الباطلة الأخرى هي وليدة الحسد، كالكِبْر في بعض الحالات، والغيبة، والنميمة، والشتم، والإيذاء، وغير ذلك ممّا هو من الموبقات والمهلكات35.


علاجُ الحسد:

الحسد مرضٌ أخلاقيٌ خطير، لو تسلّط على الإنسان وسيطر عليه فإنّه سيُتلف الإنسان ويدمّر دينه ودنياه. وعلاج هذا المرض - كأيّ مرضٍ أخلاقيٍ آخر - يعتمد على طريقين:

الطريق العلمي:

على الشَّخص الحسود أن يُدقّق ويتأمَّل في الأمور الآتية:

1. أن يعلم علم اليقين أنّ الحسد فيه ضررٌ عليه في الدّين والدُّنيا، وأنه السبب الرئيس في ضعف الإيمان وتآكله كما ورد عن أهل بيت العصمة عليهم السلام.
2. أن يتأمّل في النتائج السَّلبيّة والعواقب الضَّارة للحسد التي تقدَّم الكلام عنها.
3. أن يتأمّل في جذور ودوافع حصول الحسد في النَّفس.
4. أن يعلم أنّه ما دام في عالم الدُّنيا فإنّ بإمكانه معالجة هذه الصفات والرذائل، وتختلف صعوبة المعالجة وسهولتها حسب شدّة هذه الصفات في النَّفس.
5. أن يعلم أنّ إزالة الصفة حديثة العهد أسهل بكثير من الصفات المتجذّرة في النَّفس.
6. عليه المسارعة إلى معالجة مشكلة "ضعف الإيمان" في نفسه؛ فالحسد يكشف عن خللٍ ما في إيمان المرء بالله تعالى وعدم معرفته بالتوحيد الأفعالي للباري عزّ وجلّ، وعليه أن يعمِّق أسس التّوحيد في قلبه.


العلاج العملي36:

إنّ أسس العلاج العملي وقواعده تقوم على مراعاة الأمور الآتية:

1. إنّ أهمّ مسألةٍ في العلاج العملي أن يقوم الشخص بالنقطة المضادّة للحسد ويقوّيها في حياته العملية، وهي النصح وحبّ الخير للآخرين، وذلك بأن يتكلّف الإنسان إظهار المحبّة للمحسود وذلك بعكس ما تهواه نفسه الأمّارة وتطلبه.

يقول الإمام الخميني قدس سره : "العلاج العملي لهذه الرَّذيلة هي أن تتكلّف إظهار المحبة للمحسود، وترتّب الأمور بحيث يكون هدفك هو معالجة مرضك الباطني. إنّ نفسك تدعوك لإيذائه واعتباره عدواً، وتكشف لك عن مساوئه ومفاسده، ولكن عليك أن تعمل خلافاً لما تريده النَّفس، وأن تترحَّم عليه وتجلُّه، واحمل لسانك على أن يذكر محاسنه، واعرض أعماله الصالحة على نفسك وعلى الآخرين، وتذكّر صفاته الجميلة..."37.

2. أن يكرّر هذا العمل؛ لأنّ التكرار يؤدّي تدريجياً إلى صيرورته عادةً في النَّفس. فلو أنّ الحسود - وبدلاً من سعيه إلى إسقاط الآخرين - تحرَّك نحو تقوية شخصيته هو، وبدلاً من التحدّث بالغيبة وذمّ الطرف الآخر لو سعى إلى ذكر صفاته الإيجابية ومدحه أمام الآخرين، فإنّ ذلك سيترك آثاراً إيجابيةً هائلةً على نفسه، بحيث سيتمكّن من قلع جذور هذه الآفة من النَّفس مع مرور الوقت، وكلّما تحلى أكثر فأكثر بالثبات والعزيمة.

3. أن يرضى العبد برضا الله تعالى وقسمه، وأن يسلِّم بمشيئته ويقنع من حياته بما أنعم الله عليه؛ لأنّه المالك الحقيقي، وأزمّة الأمور كلّها بيده، روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: ﴿مَنْ رَضِيَ بِحَالِهِ لَمْ يَعْتَوِرْهُ الحَسَد38.

* مآب المذنبين، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- بحار الأنوار، ج70، ص22.
2 - أصول الكافي، ج1، ص46.
3- شرح أصول الكافي، ح2، ص158.
4- الكافي، ج2، ص319.
5- نهج البلاغة، خطبة المتقين193.
6- بحار الأنوار، ج75، ص165.
7- راجع الميزان في تفسير القرآن
8- بحار الأنوار، ج67، ص386.
9 - مستدرك الوسائل، ج12، ص61.
10- غرر الحكم، ص295.
11- أصول الكافي، ج2، ص316.
12 - غرر الحكم، ص294.
13 - نهج البلاغة، من عهد له كتبه للأشتر النخعي رقم 53.
14 - النحل، 96.
15- جامع السعادات، ج 2، ص80-81-82 (بتصرف).
16- التوبة، 55.
17- طه، 131.
18- السعف: أغصان النخل ما دامت في الخوص.
19 - أصول الكافي، ج2، ص137-138.
20- موسوعة أحاديث أهل البيت، ج1، ص394.
21 - وسائل الشيعة، ج9، ص41.
22 - موسوعة أحاديث أهل البيت، ج7، ص401.
23- أصول الكافي، ج4، ص53.
24- بحار الأنوار، ج18، ص107.
25 - الفلق، 5.
26 - النساء، 54.
27- كشف الريبة عن أحكام الغيبة، ص310.
28- بحار الأنوار، ج70، ص240.
29- إبراهيم، 10.
30 - بحار الأنوار، ج1، ص128.
31 - جامع أحاديث الشيعة، ج13، ص552.
32 - راجع: الأخلاق في القرآن، ج2، ص122(بتصرف).
33- أصول الكافي، ج2، ص307.
34 - أصول الكافي، ج2، ص306.
35- راجع: الأربعون حديثاً، ص110-111.
36 - راجع: الأخلاق في القرآن ، ج2، ص130-131 (بتصرف).
37 - الأربعون حديثاً، ص115.
38 - غرر الحكم، ص300.

2015-08-14