يتم التحميل...

قاموس النصر ومفرداته في القرآن

النصر الإلهي

لا تخفى أهميّة الرجوع إلى القرآن الكريم للبحث عن المصطلحات والمفاهيم الدينيّة التي أسّس لها وطرحها. ولو لم يكن لهذا الرجوع منفعة إلّا فهم كتاب الله لكفى مبرّرًا للعودة إليه والبحث بين مفرداته وكلماته للعثور على الألفاظ التي استخدمها الله عزّ وجلّ للحديث عن النصر

عدد الزوار: 68

موعظة قرآنية
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ1.


مقدّمة

لا تخفى أهميّة الرجوع إلى القرآن الكريم للبحث عن المصطلحات والمفاهيم الدينيّة التي أسّس لها وطرحها. ولو لم يكن لهذا الرجوع منفعة إلّا فهم كتاب الله لكفى مبرّرًا للعودة إليه والبحث بين مفرداته وكلماته للعثور على الألفاظ التي استخدمها الله عزّ وجلّ للحديث عن النصر وما يرتبط به من مفاهيم. وهذه العودة إلى كتاب الله لها ما يبرّرها غير ما ذُكِر أعلاه، وذلك أنّ النصر من المفاهيم المركزيّة التي ترتبط بمفهوم محوريّ في الفكر الإسلاميّ هو مفهوم الجهاد. ويعدّ النصر في بعض النصوص الإسلامية صنوًا للشهادة وعدلًا لها وذلك كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ2، والحسنيان المذكورتان في هذه الآية هما عاقبتان ونتيجتان من نتائج الجهاد والقتال في سبيل الله، وهما كما في قول عددٍ من المفسّرين: إمّا الغلبة بنصر الله عزّ وجلّ، وإمّا الشهادة المؤدّية إلى الجنّة3. وبحسب تعبير مفسّر آخر المقصود من الحسنيين هو: إحدى العاقبتين اللتين كلّ واحدة منهما هي حسنى العواقب، وهما: النصرة والشهادة4. هذا وقد فُسّرت الآية بطريقة أخرى فيها يمكن إدراجها في باب التأويل وتطبيق المفهوم على مصاديقه.


الغلبة في القرآن

من الكلمات التي استُخدمت في القرآن الكريم بكثرة في معنى يرتبط بمحلّ كلامنا مادّة "غلب" ومشتقّاتها. ويقرب عدد المرّات التي استخدمت فيها هذه الكلمة في هذا المعنى من ثلاثين مرّة. فقد وردت بصيغة الفعل، ووردت بصيغة الصفة لله تعالى ورسله وحزبه، كما وردت صفة لأشخاص آخرين. ونكتفي باستعراض موارد من استعمال هذه الكلمة هي الموارد الآتية:

قال الله تعالى:
﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ5.
﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ6.
﴿وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا7.
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ8.
﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ9.


وقبل الدخول في تحليل هذه الكلمة ودلالاتها اللغويّة نشير إلى أنّها لم ترد في وصف الذين لا يرضى الله عن مواقفهم إلّا في سياق يتمنّون فيه الغلبة لأنفسهم فيعبّر الله تعالى عن ذلك بطريقةٍ تشعر بعدم رضاه بذلك أو تحقيق هذه الأمنية لهم، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ10. وللتعبير بـ"لعلّ" دلالته الواضحة على التشكيك في تحقّق مثل هذا الأمر لهم.


الغلبة والغلب في اللغة

ومهما يكن من أمر تلك الإشارة التي تستحقّ التوقّف عندها، فقد توقّف علماء اللغة عند هذه المفردة وشرحوها بما يأتي:

يقول صاحب معجم مقاييس اللغة: "غلب أصل صحيح يدلّ على قوّة وقهر وشدّة..."11. ويقول صاحب كتاب الاشتقاق: "غلب يغلِب فهو غالبٌ" ولا يضيف على ذلك شيئًا يوضّح فيه معنى الكلمة12. ويقول المصطفوي في خلاصة ما ينتهي إليه بعد نقل كلمات من سبقه من علماء اللغة: "والتحقيق أنّ الواحد في المادّة هو التفوّق مع القدرة، أو تفوّق في قدرةٍ. وأمّا القهر والاستيلاء والشدّة والغلظة وغيرها، فهي من لوازم الأصل"13. ثمّ يُتابع قائلًا: "والأغلب من المقام ما يكون متفوّقًا ومتعاليًا وفي قدرة وقوّة في ذاته يعلو على سائر المقامات ويتظاهر عليها: ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ14 يُراد تفوّقه على جميع الموجودات وعلى ما يأمره ويريده مع وجود القدرة وهذا أعلى مرتبة التفوّق وأسنى مقام القدرة الروحانيّة"15. ولعلّ في هذه الإشارة الأخيرة من مصطفوي ما يوضح سبب عدم نسبة الغلب والغلبة إلى من يقف في خطّ المواجهة مع الله تعالى.


كلمة الفتح في القرآن الكريم

وكلمة "فتح" ومشتقّاتها استُعمِلت أيضًا في القرآن الكريم في سياق ذي صلة بما نحن فيه. ومن الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة، كما في قوله تعالى:

﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ16.
﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ
17.
﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ18.
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ 19.
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا20.


كلمة الفتح في اللغة

الفتح في اللغة بحسب أحمد بن فارس: "أصل صحيح يدلّ على خلاف الإغلاق. يُقال: فتحت الباب وغيره فتحًا، ثمّ يُحمل على هذا سائر ما في هذا البناء فالفتح والفُتاحة: الحكم. والله تعالى الفاتح أي الحاكم. والفتح: الماء يخرج من عين أو غيرها. والفتح: النصر والإظفار. واستفتحت: استنصرت"21. ويقول صاحب المصباح المنير: فتحته فانفتح: فرّجته فانفرج... وفتح الحاكم بين الناس: قضى... وفتح السلطان البلاد: غلب عليها وتملّكها قهرًا"22. ويقول الراغب الأصفهاني: الفتح إزالة الإغلاق والإشكال. وذلك ضربان:

أحدهما: يدرَك بالبصر، كفتح القفل.
والثاني: يدرَك بالبصيرة كفتح الهمّ. وذلك ضروبٌ: أحدها في الأمور الدنيويّة... والثاني فتح المستغلَق من العلوم.

وقوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا، قيل عنى فتح مكّة وقيل فتح ما يُستغلق من العلوم...23 وأخيرًا يقول المصطفوي مستنتجًا من كلمات علماء اللغة والتأمّل في آيات القرآن الكريم: والتحقيق أنّ الأصل الواحد في المادة هو ما يقابل الإغلاق والسدّ والحجب، وهذا المعنى يختلف باختلاف الموارد والموضوعات، مادّيًّا أو معنويًّا... فالفتح المطلق، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ يراد الفتح المطلق في مسير الرسالة وإجراء وظائف النبوّة وإبلاغ الأحكام الإلهيّة، برفع الموانع الماديّة والمعنويّة وكشف المغلقات وإزالة الأسداد، ثمّ التقوية والنصر... وقد يكون النصر من مقدّمات الفتح في مرتبة الإيجاد لا الإبقاء، كما في: ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ24، و﴿نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ25...26.


كلمة الفوز في القرآن الكريم

الفوز وما يُشتقّ من هذه المادّة ممّا استعمله القرآن الكريم في التعبير عن هذا الميدان الذي نحن بصدد الحديث عنه، ومن الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة أو أحد اشتقاقاتها:

ففي سياق الحديث عن بعض المتخلّفين عن الجهاد يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا27، ويُستفاد من هذه الآية أنّ بعض ما يناله المجاهدون في جهادهم هو فوزٌ عظيم، ولو بحسب توصيف هذا المتخلّف وإقرار القرآن إيّاه على هذا التقييم.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية هي المورد الوحيد الذي استُخدمت فيه هذه الكلمة في هذا المعنى. وأكثر استخدام القرآن لهذه الكلمة هو في سياق الحديث عن الفوز العظيم الذي هو بحسب القرآن الكريم أمور، منها: دخول الجنّة28، والنجاة من النار29، وطاعة الله ورسوله30.


كلمة الظفر في القرآن الكريم

لم ترد هذه الكلمة في القرآن الكريم سوى مرّة واحدة، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا31. وعلى الرغم من قلّة استخدامها في القرآن الكريم إلا أنّ علماء اللغة لم يهملوها، فقد قال الفيومي في تفسيرها: "ظفِر ظفَرًا من باب تعب، وأصله بالفوز والفلاح، وظفرت بالضالة: إذا وجدتها، والفاعل ظافر..."32. ويقول صاحب المفردات: "الظُّفر: يُقال في الإنسان وفي غيره، ويعبّر عن السلاح به، تشبيهًا بظفر الطائر, إذ هو بمنزلة السلاح. والظَّفَر: الفوز وأصله من ظَفَره أي نشب ظُفره فيه"33. وهذه إشارة ذكيّة من الراغب تكشف عن التفاتة جميلة إلى الربط بين المعنيين. وأمّا مصطفوي فيقول: "الأصل الواحد في المادّة: هو الغلبة في طريق الفوز، فالقيدان لازمان في موارد استعمال المادّة. وبهذا يظهر الفرق بينها وبين موادّ الغلبة والقهر والفوز. وأمّا الظُّفر: فهو مأخوذ من الأصل, لأنّه وسيلة الغلبة والفوز، وبهذا السلاح يقهر صاحبه على عدوّه وما يقابله. ولا يبعد أن تكون هذه الكلمة في الأصل صفة مشبّهةً كالصُّلب، بمعنى ما من شأنه الاتّصاف بالظَّفر، ثمّ غلب استعماله في الظُّفر"34.


كلمة ظهر في القرآن الكريم

وردت مشتقّات هذه الكلمة في عدد من آيات القرآن الكريم لا ترتبط كلّها ببحثنا، وما يرتبط بموضوع كلامنا هو بعضها فحسب. ونكتفي بذكر بعض الموارد كأمثلة ونماذج:

قال تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ35.
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ36.
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا37.


وفي شرح هذه الكلمة يقول ابن فارس: "ظهر: أصلٌ صحيحٌ واحد يدلّ على قوّة وبروز، من ذلك ظهر الشيء يظهر ظهورًا، فهو ظاهرٌ، إذا انكشف وبرز, ولذلك سُمِّي وقت الظهر والظهيرة، وهو أظهر أوقات النهار وأضوؤها... والظهور الغلبة"38 وبعد نقله عددًا من كلمات اللغويّين ينتهي صاحب التحقيق إلى أنّ "الأصل الواحد في هذه المادّة: هو مطلق بدوّ في قبال البطون، بأيّ كيفيّة كان... والظهور تختلف خواصّه باختلاف (من أو ما يتّصف به)... فالظهور في دينه تعالى... عبارة عن كون التعبّد والتسليم الخاصّ ظاهرًا بيّنًا لا إبهام فيه... وفي القوى المادّية... يُراد التفوّق بالقهر والغلبة والشدّة، والمظاهرة استمرار تلك القوّة والقدرة..."39.


كلمة النصر في القرآن الكريم

وبعد هذا الاستقصاء للمعجم القرآني حول الموضوع نصل إلى الكلمة الأساس وهي مادّة "نصر" التي تستعمل كثيراً للدلالة على موضوع كلامنا في هذا الكتاب. فقد تكرّرت هذه المادّة في القرآن الكريم عشرات المرّات، وفي سياقات مختلفة كالدعاء، والكشف عن المنّ الإلهيّ على المؤمنين وغير ذلك ممّا لا داعي لحصره الآن. ومن النماذج التي وردت فيها هذه الكلمة ما يأتي، قال تعالى:

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ40.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ41.

﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ42.


هذه نماذج من الآيات التي وردت فيها مادّة "نصر" بصيغها المتعدّدة، من اسم الفاعل إلى الفعل بصيغتي المعلوم والمجهول. وقد كان لهذه المادّة نصيبها من اهتمام علماء اللغة. يقول ابن فارس: "نصر: أصل صحيح يدلّ على إتيان خير وإيتائه. ونصر الله المسلمين: آتاهم الظفر على عدوّهم. وانتصر: انتقم، وهو منه... والنصر العطاء"43. ويقول الفيومي: "نصرته على عدوّه، ونصرته منه نصرًا: أعنته وقوّيته، والفاعل ناصر ونصير، وجمعه أنصار. والنصرة بالضمّ اسم منه. وتناصر القوم: نصر بعضهم بعضاً. وانتصرت من زيد: انتقمت منه. واستنصرته: طلبت نصرته"44. ويقول المصطفوي: "الأصل الواحد في المادّة: هو إعانة في قبال مخالف، كما أنّ الإعانة تقوية شيء في نفسه ومن دون نظرٍ إلى غيره. وأما مفاهيم... الإعطاء والانتقام والتقوية: إذا لوحظ فيها القيدان المذكوران فتكون من مصاديق الأصل، وإلا فهي من التجوّز بمناسبة مطلق الإعانة بوجهٍ"45. ويتابع قائلًا في مقام التمييز بين استعمالات هذه الكلمة بحسب ما يدخل على ما بعدها من حروف الجرّ: "ثمّ إنّ النصرة إذا استُعمل بحرف على فيدلّ على الاستيلاء والغلبة كما في: ﴿وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ46، وإذا استُعمِل بحرف مِن: فيدلّ على الجانب والجهة كما في قوله: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا47... وإذا استُعمل مطلقًا وبدون قيدٍ: يدلّ على مطلق النصرة، كما في: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ48"49.

يمكن عدّ ما تقدّم تمهيدًا معجميًّا عن المفردات التي استخدمها الله عزّ وجلّ في القرآن الكريم، للتعبير عن هذا المجال الذي نحن بصدد الحديث عنه. ولمّا كان موضوعنا الأساس هو النصر كان لا بدّ من تخصيصه بحديث منفصل غير ما تقدّم لتسليط مزيد من الضوء. ويعود سبب خصّه هذا المفهوم دون غيره بمزيد من الاهتمام إلى أمور عدّة، هي:

كلمة النصر هي تقريبًا المفردة الوحيدة التي تستخدم في المحاورات المعاصرة للتعبير عن هذا المجال.

هي الكلمة التي تردّدت في القرآن الكريم أكثر من غيرها من الكلمات والمفردات، وذلك أنّها تكرّرت عشرات المرّات الأمر الذي لا نجده في غيرها من المفردات المشابهة.

تنوّع دلالات هذا المفهوم أكثر من غيره من المفاهيم المشابهة، وهو ما سوف يتّضح لاحقًا من المبحث الآتي.


وقفّة تأمّلية

البلاء طريق النصر

قد جرت كلمة الله تعالى على اختبار الناس بأنواع المحن والبلايا ليميز الجيد من الردي ويظهر الصابر وغيره كما قال جل شأنه ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ50...، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فإن قلت: حقيقة الاختبار طلب الخبر بالشيء ومعرفته لمن لا يكون عارفاً به والله سبحانه عالم بمضمرات القلوب وخفيّات الغيوب فالمطيع في علمه متميز من العاصي، فما معنى الاختبار في حقّه؟ قلنا: اختباره تعالى ليس إلاّ ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع وعصيان من يعصي ويتميز ذلك عنده فهو من باب الكناية، لأنّ التميّز من لوازم الاختبار وعوارضه فأطلق الملزوم وأُريد به اللازم كما هو شأن الكناية، أو قلنا: اختباره تعالى استعارة بتشبيه فعله هذا ليثيب المطيع ثواباً جزيلاً ويُعذّب العاصي عذاباً وبيلاً باختبار الإنسان لعبيده ليتميز عنده المطيع والعاصي ليثيب المطيع ويكرمه ويُعذّب العاصي ويُهينه فأطلق على فعله تعالى الاختبار مجازاً.


شرح أصول الكافي،
المولى محمد صالح المازندراني، ج6، ص250

 


1- سورة البقرة، الآية 214.
2- سورة التوبة، الآية 52.
3- الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 5، ص 235. (نسخة مكتبة آل البيت).
4- الشيخ الطبرسي، تفسير جوامع الجامع، ج 1، ص 206.
5- سورة البقرة، الآية 249.
6- سورة آل عمران، الآية 12.
7- سورة النساء، الآية 74.
8- سورة الروم، الآيتان 2 و3.
9- سورة المائدة، الآية 56.
10- سورة فصّلت، الآية 26.
11- أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة: "غلب".
12- انظر: الاشتقاق، مادّة: "غلب".
13- حسن مصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن، ج 7، ص 302.
14- سورة يوسف: الآية 21. وتفيد الآية تفوّق الله وتفرّده في أموره فلا يمكن يتقدّم عليه في أمره شيءٌ أو شخصٌ.
15- التحقيق في كلمات القرآن الكريم. ج7، ص 303.
16- سورة النساء، الآية 141.
17- سورة المائدة، الآية 52.
18- سورة الشعراء، الآية 118.
19- سورة الفتح، الآيتان 1و2.
20- سورة الفتح، الآية 18.
21- معجم مقاييس اللغة، مادّة: "فتح".
22- الفيومي، المصباح المنير، مادّة: "فتح".
23- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادّة: "فتح".
24- سورة النصر، الآية 1.
25- سورة الصف، الآية 17.
26- التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج 9، ص 15-16.
27- سورة النساء، الآية 73.
28- وذلك كما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (سورة الحديد، الآية 12).
29- كما في قوله تعالى: ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (سورة غافر، الآية 9) بناء على تفسير الوقاية من السيّئات بالنجاة من العذاب يوم القيامة. انظر: السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 17، ص 307.
30- وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ (سورة الأحزاب، الآية 71).
31- سورة الفتح، الآية 24.
32- المصباح المنير، مادّة: "ظفر".
33- المفردات في غريب القرآن، مادّة: "ظفر".
34- التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج 7، ص 196-197.
35- سورة التوبة، الآية 8.
36- سورة التوبة، الآية 33.
37- سورة الفتح، الآية 28.
38- مهجم مقاييس اللغة، مادّة: "ظهر".
39- التحقيق في كلمات القرآن، ج 7، ص 217-223.
40- سورة البقرة، الآية 214.
41- سورة محمد، الآية 7.
42- سورة آل عمران، الآية 126.
43- معجم مقاييس اللغة، مادّة: "نصر".
44- المصباح المنير، مادّة: "نصر".
45- التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج 12، ص 155-156.
46- سورة آل عمران، الآية 147.
47- سورة الأنبياء، الآية 77.
48- سورة الأنفال، الآية 74.
49- م.ن، ص 156.
50- سورة البقرة، الآية 214.

2015-08-05