يتم التحميل...

التفسير على ضوء منهج الأشعري

دراسات في التفسير

إنّ فخر الدِّين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي (543 606هـ) ممّن فسّر كثيراً من الآيات القرآنية على ضوء مذهبه ومنهجه الّذي يتبعه وهو مذهب الإمام الأشعري، وهو أشعري في العقيدة، شافعي في الفقه، فلنذكر نماذج من تفاسيره.

عدد الزوار: 40

إنّ فخر الدِّين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي (543 606هـ) ممّن فسّر كثيراً من الآيات القرآنية على ضوء مذهبه ومنهجه الّذي يتبعه وهو مذهب الإمام الأشعري، وهو أشعري في العقيدة، شافعي في الفقه، فلنذكر نماذج من تفاسيره.

1ـ جواز التكليف بما لا يطاق
إنّ جواز التكليف بما لا يطاق من مذاهب الأشاعرة ولقد احتجّ الرازي على مذهبهم بالآيات التالية:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ1.
﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ2.
﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا3.﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ4.

ثمّ أخذ بتقرير دلالة هذه الآيات على جواز التكليف بما لا يطاق بوجوه:
1- أنّه تعالى أخبر عن أشخاص معيّنين أنّهم لا يؤمنون قط، فلو صدر منهم الإيمان، لزم انقلاب خبر الله تعالى الصادق كذباً.
2- أنّه تعالى لمّا علم منهم الكفر، فكان صدور الإيمان منهم مستلزماً لانقلاب علمه تعالى جهلاً.
3- أنّه تعالى كلّف هؤلاء الّذين أخبر عنهم بأنّهم لا يؤمنون بالإيمان البتة، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في كلّ ما أخبر عنه، وممّا أخبر عنه أنّهم لا يؤمنون قط، فقد صاروا مكلّفين بأن يؤمنوا بأنّهم لا يؤمنون قط، وهذا تكلّف بالجمع بين النفي والإثبات5.

يلاحظ عليه: أنّ الوجدان السليم والعقل الفطري يحكم بامتناع تكليف ما لا يطاق، فلا تنقدح الإرادة في لوح نفس الآمر وضمير روحه إذا علم أنّ المأمور غير قادر على العمل، ولذلك فإنّ مرجع التكليف بما لا يطاق إلى كون نفس التكليف محالاً، ولذلك يقول سبحانه:  ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا6.

وأمّا الوجوه الّتي اعتمد عليها الرازي فموهونة جدّاً، وذلك لأنّ علمه تعالى الأزلي الّذي اعتمد عليه الرازي في الوجهين الأوّلين لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق، بل تعلّق علمه بصدور كلّ فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه، وعلى ضوء ذلك تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر، بلا شعور كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش، عالماً بلا اختيار، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية، فتعلّق علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً وصدور فعله عنه اختياراً فمثل هذا العلم يؤكّد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.

وإن شئت قلت: إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة، ومريدة ومختارة كالإنسان، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرّية، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية كان علمه سبحانه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه، وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور، أو بلا اختيار وإرادة، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تحليل ما ذكره الرازي بلفظه، قال: فلو صار منهم الإيمان لزم انقلاب خبر الله تعالى الصادق كذباً، فنقول:
إنّ هؤلاء لا يصدر منهم الإيمان إلى يوم القيامة قطعاً لكن لا من جهة إخباره سبحانه عنه بل لأجل اختيارهم وانتخابهم عدم الإيمان إلى يوم القيامة، فالإخبار عن عدم تديّنهم شيء، وكون الإيمان خارجاً عن الاختيار شيء آخر، والآية تخبر عن الأوّل دون الثاني.
ومنه يظهر ضعف كلامه الثاني حيث قال: "فكان صدور الإيمان منهم مستلزماً لانقلاب علمه تعالى جهلاً"، وذلك لأنّه سبحانه أخبر عن عدم صدور الإيمان وبما أنّه مخبر صادق لا يصدر منهم الإيمان لكن لا لأجل أنّ الله أخبر عنه، بل لأجل مبادئ كامنة في أنفسهم تجرّهم إلى عدم الإيمان، فالإخبار عن عدم الإيمان شيء وكون الإيمان خارجاً عن اختيارهم شيء آخر، والآية تخبر عن الأوّل دون الثاني.
وبما ذكرنا من التحليل تقدر على تحليل الوجه الثالث إذ نمنع أنّهم كانوا مكلّفين بعدم الإيمان بل كان أبو لهب مكلّفاً بالتوحيد والرسالة فقط.

2ـ إمكان رؤية الله
ذهبت الأشاعرة إلى جواز رؤيته سبحانه يوم القيامة، وهذا هو الأصل البارز في مدرستهم الكلامية، ثمّ إنّ هناك آيات تدّل بصراحتها على امتناع رؤيته سبحانه فحاولوا إخضاع الآيات لنظريّتهم، وإليك نموذجاً واحداً، يقول سبحانه: ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ7.
ومن المعلوم أنّ الإدراك مفهوم عامّ لا يتعيّن في البصري أو السمعي أو العقلي، فالإدراك بالبصر يراد منه الرؤية بالعين، والإدراك بالسمع يراد منه السماع، هذا هو ظاهر الآية، وهي تنفي إمكان الإدراك بالبصر على الإطلاق.

ولمّا وقف الرازي على أنّ ظاهر الآية أو صريحها لا يوافق أصله الكلامي، لأنّها ظاهرة في نفي الإدراك بالبصر، قال: إنّ أصحابنا (الأشاعرة) احتجّوا بهذه الآية على أنّه يجوز رؤيته والمؤمنون يرونه في الآخرة، وذلك لوجوه:
أ- أنّ الآية في مقام المدح فلو لم يكن جائز الرؤية لما حصل التمدّح بقوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ألا ترى أنّ المعدوم لا تصحّ رؤيته، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا تصحّ رؤية شيء منها ولا يمدح شيء منها في كونها ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ  فثبت أنّ قوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ  لا يفيد المدح، إلّا إذا صحّت الرؤية.
والعجب غفلة الرازي عن أنّ المدح ليس بالجزء الأوّل فقط، أعني: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ، بل المدح بمجموع الجزأين المذكورين في الآية كأنّه سبحانه يقول: والله جلّت عظمته يدرك أبصاركم، ولكن لا تدركه أبصاركم، فالمدح بمجموع القضيتين لا بالقضية الأولى.

ب- أنّ لفظ "الأبصار" صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهي تفيد الاستغراق بمعنى أنّه لا يدركه جميع الأبصار، وهذا لا ينافي أن يدركه بعض الأبصار8.
يلاحظ عليه: أنّ الآية تفيد عموم السلب لا سلب العموم، بقرينة كونه في مقام بيان رفعة ذاته، وشموخ مقامه.

كأنّه سبحانه يقول:
"لا يدركه أحد من جميع ذوي الأبصار من مخلوقاته ولكنّه تعالى يدركهم، وهذا نظير قوله سبحانه: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ9.
إلى غير ذلك من الوجوه الواهية الّتي ما ساقه إلى ذكرها إلّا ليُخضِعَ الآية، لمعتقده.

الخلاصة
- إنّ فخر الدِّين الرازي ممّن فسّر كثيراً من الآيات القرآنية على ضوء مذهبه ومنهجه الّذي يتبعه وهو مذهب الأشعري وقد ذكرنا نماذج من تفاسيره:
1ـ جواز التكليف بما لا يطاق
2ـ إمكان رؤية الله
وقد ناقشناه ورددنا عليه قوله.

* دراسات في مناهج التفسير, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- سورة البقرة، الآية: 6.
2- سورة يس، الآية: 7.
3- سورة المدثر، الآيات: 11ـ 17.
4- سورة المسد، الآية:1.
5- تفسير الرازي، محمّد بن إدريس، ج 2، ص 42، المكتبة العصرية، صيدا، د. ت.
6- سورة البقرة، الآية: 286.
7- سورة الأنعام، الآيتان: 102ـ 103.
8- تفسير الرازي، محمّد بن إدريس، ج 13، ص 125.
9- سورة غافر، الآية: 35.

2015-02-10