يتم التحميل...

الإمامة في القرآن

الإمامة والخلافة

تبيّن من الأبحاث السابقة أن الخلاف في الإمامة ليس في شخص الإمام، وإنما تعدّاه إلى أصل ثبوت الإمامة بمعناها الأوسع من الحكومة والسلطة، بما يشمل المرجعية الدينية بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّه من الخطأ ما وقع به الكثير من علماء الكلام

عدد الزوار: 66

1- الإمامة العامة في القرآن:
تبيّن من الأبحاث السابقة أن الخلاف في الإمامة ليس في شخص الإمام، وإنما تعدّاه إلى أصل ثبوت الإمامة بمعناها الأوسع من الحكومة والسلطة، بما يشمل المرجعية الدينية بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّه من الخطأ ما وقع به الكثير من علماء الكلام عند تصويرهم للنزاع بين المدرستين في شخص الإمام، فكما أن النبوّة لا تعني الحكم فقط، بل النبوّة تتضمّن العديد من الشؤون من ضمنها مسألة الحكم، كذلك هي الإمامة عند مدرسة أهل البيت عليهم السلام، بينما في المقابل حصرت مدرسة الخلفاء الإمامة في مجال السلطة فقط.

الإمامة والنبوّة:
إنّ مقام الإمامة عند مدرسة أهل البيت عليهم السلام هي أرفع شأناً من مقام النبوّة، فأنبياء أولي العزم عليهم السلام جمعت لهم الإمامة إضافة إلى النبوّة، وليس من الضروريّ أن يكون كلّ نبيّ إماماً، بل إنّ كثيراً من الأنبياء عليهم السلام لم يصلوا إلى رتبة ومقام الإمامة، فقد ورد في القرآن الكريم: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ1.

ولمعرفة دلالة الآية على الإمامة، لا بدّ من معرفة الابتلاءات التي عاشها إبراهيم عليه السلام، وموقفه منها.
فقد ثبت إبراهيم عليه السلام أمام نمرود وألقي في النار، وهو مسلّم لأمر ربّه، ثمّ إنّه عليه السلام لم يرزق بذريّة إلا على كبر سنّه، ولما رزق بابنه، جاءه الأمر الإلهي بمغادرة بلاد الشام مع زوجته وطفله إلى الحجاز، وأُمر بترك زوجته وطفله هناك وحيدين والرجوع إلى بلاد الشام. وقد امتثل عليه السلام أمر الله بتسليم كامل، وقد أشار تعالى إلى هذا الأمر بقوله: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ2.

وأشدّ ما تعرّض له إبراهيم عليه السلام، وهو يدلّ على تسليمه المطلق أمام الأوامر الإلهية، الأمر الإلهيّ بذبح ابنه إذ قال: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ3.

وهنا يتحدّث القرآن عن تسليمه وتسليم ابنه المطلق أمام الأمر الإلهيّ، وما إن حانت اللحظة ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ4، جاء النداء: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين5، وهكذا اجتاز إبراهيم عليه السلام الامتحان الإلهيّ، فلم يكن المراد ذبح ابنه بقدر ما كان المراد معرفة درجة التسليم التي وصل إليها إبراهيم عليه السلام.

الإمامة مقامٌ بعد النبوّة:
بعد كلّ هذه الابتلاءات التي تعرّض لها النبيّ إبراهيم عليه السلام، خاطب الله نبيه ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا6، فمتى كان ذلك؟ لا شكّ أنه كان بعد أن كان إبراهيم عليه السلامنبيّاً وبعد أن وصل إلى سنّ متقدمة وذلك لأمرين:
أحدهما: إن الآية ذكرت أنّ إبراهيم عليه السلام نال الإمامة بعد أن اجتاز جميع الابتلاءات الربانيّة، وهذه الابتلاءات لم تحلّ به إلا بعد أن كان نبيّاً.

ثانيهما: إنّ إبراهيم عليه السلام بعد أن أعطاه الله الإمامة طلبها عليه السلام لذرّيته، وهذا يعني أن الإمامة جاءته عندما كان له ولد، وهو عليه السلام لم يكن له ولد إلّا بعد النبوّة وبعد أن تقدّم به العمر.

فإذا كانت الإمامة لإبراهيم عليه السلام بعد النبوّة، والآية تتحدث عن أنها منصب ومقام سوف يهبه الله لنبيّه، لم يصل إليه إبراهيم عليه السلام إلّا بعد أن اجتاز الابتلاءات كلّها، فما هو هذا المنصب الراقي الذي هو أعلى شأناً من النبوّة والذي أعطي لإبراهيم عليه السلام؟ إنه الإمامة.

الإمامة عهد الله:
الإمامة هي عهد الله على ما ذكرته الآية، لأنّ إبراهيم عليه السلام أحبّ أن تكون الإمامة لذريته، ولكن الجواب كان ﴿قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، فإذاً الإمامة هي من عهود الله. ولذا ترى مدرسة أهل البيت عليهم السلام أنّ الإمامة ترتبط بالله ولا شأن للناس بها. وهذا العهد لا يناله شخصٌ إلّا بعد أن يمرّ بمراحل من الطاعة والتسليم والانقياد لله بنحوٍ يصبح هو الإنسان الكامل. ومن هنا نجد الآية تخبر عن عدم وصول الظالم إلى مقام الإمامة. ولكن يقع الكلام في تحديد الظالم.

إنّ الظالم قد يكون ظالماً لنفسه وقد يكون ظالماً للآخرين، وكلا القسمين لا ينال عهد الله. وظلم الغير أمرٌ واضحٌ إذ هو التعدّي على الآخرين. وأمّا ظلم النفس فهو عبارة عن المعصية. فقد ورد التعبير القرآني عن العاصي بأنّه ظالم لنفسه، وأيّ شخصٍ كان ظالماً لنفسه فلا ينال عهد الله.

من هو الظالم؟
- شخصٌ
يكون ظالماً لنفسه دائماً من أوّل عمره إلى آخره.
- شخصٌ يكون صالحاً غير ظالم لنفسه أوّل عمره، ولكنّه يظلمها آخر عمره.
- شخصٌ يكون ظالماً لنفسه في أوّل عمره ولكنّه عاد بالتوبة ورفع الظلم عنها.
- ويمكن تصوّر شخص رابع وهو من لم يظلم نفسه أبداً وفي أيّ وقت من الأوقات.

ومن المستحيل أن يكون طلب إبراهيم عليه السلام الإمامة ـ مع ما لها من الشأن الرفيع ـ لمن كان من القسمين الأول والثاني.
أمّا الثالث فهو كمن كان مشركاً ثم آمن، وقد جاء الجواب بالنفي إذ ﴿قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، أي أن كلّ إنسان كان في سابق حياته ظالماً فلا ينال الإمامة، ولذا تدلّ الآية على أن الإمامة لا تكون من نصيب من كان مشركاً في بعض حياته.

وعليه فكلّ من صدق عليه الظلم لنفسه ولو لفترة قصيرة لا ينال الإمامة. فكلّ هذه الأقسام لا تستحقّ الإمامة. وبالتالي لا يبقى إلّا من لم يظلم نفسه أبداً، وهو التصوّر الرابع. وهذا ممّا لا شك أنّ إبراهيم عليه السلام طلب الإمامةَ له, لأنه لا ينطبق عليه عنوان الظالم أبداً.

2- الإمامة الخاصّة في القرآن:
تستدلّ مدرسة أهل البيت عليهم السلام لإثبات الإمامة بآياتٍ قرآنية. وتوجد روايات لدى مدرسة الخلفاء تؤيّد التفسير الذي تذهب إليه مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ونذكر منها:

آية الإنفاق:
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ7.

إنّ طريق إثبات ذلك هو قوله ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ فهذا القول ليس تشريعاً وليس إنشاء، فلا تريد الآية أن تقول إنّه يستحب إعطاء الزكاة حال الركوع، وإنّه شامل لجميع المسلمين، بل الآية تريد أن تتحدّث عن واقعةٍ حصلت في الخارج، فهي تريد إخبارنا عن أمرٍ قد حصل. وهذه الحادثة اتفق على نقلها كلا المدرستين، وملخّصها أنّ سائلاً دخل المسجد والإمام علي عليه السلام يصلي، فأومأ الإمام إليه ليأتي ويأخذ منه خاتماً كان في إصبعه، ولم ينتظر الإمام انتهاء صلاته ليتصدّق على ذلك السائل، فنزلت الآية الكريمة.

وتتفق المدرستان على أنّ الآية إنّما نزلت في هذه الحادثة. وأمّا تعبير الآية بصيغة الجمع بقولها (يؤتون) مع أنّ المراد شخصٌ واحدٌ فليس غريباً، لأن استعمال الجمع مكان المفرد للتعظيم هو أمرٌ متعارف في اللغة العربية.

والآية الكريمة ابتدأت أولاً بكلمة (إنما)، وهي في اللغة العربية أداة حصر تدلّ على التخصيص، كما ورد في الآية قوله (وليّكم)، والوليّ هو بمعنى من له حقّ التصرّف وحقّ القيمومة والأمر والنهي.

فالآية تريد أن تفيدنا بأنّ من له حقّ الولاية والأمر والنهي منحصر بالله ورسوله والذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، وهو علي عليه السلام.

كما أنّ الآية تتحدّث عن حالة استثنائية لا عن حالة عامة، لأنّ إعطاء الزكاة أثناء الركوع لا يعبر عن ممارسة عامّة، ولا عن قاعدة عامة، ولكننا مع ذلك نجد أنّ القرآن الكريم لم يصرّح بالواقعة ولا باسم صاحبها، مع اتفاق كلمة الفرق الإسلامية على أنّ الآية وردت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

آية التطهير:
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا8.
إنّ المراد من التطهير الذي ذكرته الآية الكريمة، هو التطهير ممّا يعتبره القرآن الكريم رجساً، وهو يشمل في القرآن كلّ ما كان قد نُهي عنه، سواء أكان من الذنوب الاعتقادية أم الأخلاقية أم العملية، ولذا يقول علماء مدرسة الأئمة عليهم السلام إنّ الآية تدلّ على عصمة أهل البيت عليهم السلام.

إن نزول الآية في وصف أهل بيت النبوّة عليهم السلام، وفي سياق اجتماع حدث بين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعلي والزهراء وفاطمة والحسنين عليهم السلام، هو من الأمور المتفق عليها بين المدرستين في أهم كتبهم المعتبرة. ولا تقتصر مصادر الأحاديث التي تدل على ذلك على كتاب أو كتابين بل هي كثيرة حتى في روايات مدرسة الخلفاء.

ولكننا نجد أنّ الآية وردت ضمن سياق آياتٍ أخرى تتحدّث قبلها وبعدها عن نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولغة الآية التحذير لنساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ الذنب الصادر عن إحداهنّ يكون عذابه مضاعفا،ً وضمن هذا السياق تأتي الآية المتقدمة الواردة في شأن أهل البيت عليهم السلام. والذي يحصل في هذا السياق أنّ هذه الآية بخصوصها تفترق عن الآيات التي قبلها والتي بعدها في أمرين:
الأول: أنّ الضمير يتبدّل في الآية من التأنيث إلى التذكير، وليس ذلك أمراً جزافياً، فقد تبدل الخطاب من ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ إلى ﴿لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ. فإذاً قد تبدّل الموضوع، والقرآن يريد أن يتحدث عن موضوعٍ جديدٍ.

الثاني:
إنّ الآيات السابقة على هذه الآية واللاحقة لها والموجهة لنساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كانت تحمل صيغة التهديد والأمر والتكليف ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ، وأمّا مفاد آية التطهير فهو قد تجاوز ذلك، بل تجاوز المدح ليتحدث عن التنزيه عن الذنوب والمعاصي والتطهير من الموبقات.

إنّ هذا كلّه يشهد على أنّ المخاطب بهذه الآية هم أهل البيت عليهم السلام، فيما كان المخاطب بما سبق هذه الآية وما لحقها نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت الآية كالجملة المعترضة التي ترد في سياق الحديث عن موضوعٍ آخر.
 

* من كتاب أمل الإنسان، سلسلة المسابقات الثقافية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة البقرة: الآية 124.
2- سورة إبراهيم: الآية 37.
3- سورة الصافات: الآية 102.
4- سورة الصافات: الآية103.
5- سورة الصافات: الآية105.
6- سورة المائدة: الآية 55.
7- سورة البقرة: الآية 124.
8- سورة الأحزاب: الآية 33.

2014-05-28