يتم التحميل...

الرحمة الإلهيّة

السيد مصطفى الخميني

اِعلم: أن الرّحمة والرّأفة والعطف من جلوات * الأسماء الجماليّة الإلهيّة، وقد بسطها وأعطاها اللهُ تعالى الحيوان للمحافظة على الأنواع الحيوانيّة، والإنسان للمحافظة على النّظام الخاصّ البشري، وهذه الرّحمة من جلوات الرّحمة الرّحمانية،

عدد الزوار: 16

اِعلم: أن الرّحمة والرّأفة والعطف من جلوات * الأسماء الجماليّة الإلهيّة، وقد بسطها وأعطاها اللهُ تعالى الحيوان للمحافظة على الأنواع الحيوانيّة، والإنسان للمحافظة على النّظام الخاصّ البشري، وهذه الرّحمة من جلوات الرّحمة الرّحمانية،

وتسمّى بالرّحمة الرّحيمية في وجه2، ويشترك فيها سائر الخلائق المجرّدة البرزخية والغيبية3 حفظاً لما هو تحت سلطانه. وأنت خبير: بأنّ هذه الرّحمة لو لم تكن في الحيوان والإنسان، لا يبقى الحيوان والإنسان، ولكانت الحياة الفرديّة والاجتماعيّة فشلة، ولاضمحلّت النّظامات الاجتماعيّة. وبالجملة: لا يبقى منها عين ولا أثر. فإنّ الحيوان لأجل تلك الرّحمة الموجودة في وجوده يتمكّن من تربية أولاده، ويتحمّل الزّحمات والمضادّات الوجوديّة والمشقّات الكثيرة، فبتلك الرّأفة والعطف تنجذب القلوب نحو الأولاد في الحيوان والإنسان، ولأجل هذه المحبّة والعشق الّذي هو من تجلّيات تلك الرّحمة، يتهيّأ لدفع المزاحمات الوجوديّة والأعداء وغير ذلك. وهذه الرّحمة والرّأفة هي الّتي تبعث الأنبياء والرّوحانيّين والعلماء والزّعماء إلى تحمّل المشاقّ وتقبّل المصائب في هداية البشر والإنسان إلى الحقائق، وفي إخراجهم من الظّلمات إلى النّور.

فبالجملة: هذه البارقة الإلهيّة- الّتي وجدت في الحيوان عموماً وفي الإنسان خصوصاً - مدار المجتمعات الصغيرة والكبيرة، وأساس النّظامات البلديّة والقطريّة والمملكتيّة وغير ذلك.

فإذا كان الإنسان يجد في نفسه تلك الرّحمة بالنّسبة إلى أفراد نوعه وعائلته، فكيف بربّ العالمين الذي هو نفس حقيقة الرّحمة؟! ومن تلك الرّحمة خَلَقَ الخلائق وهَيَّأَ لهم الأسباب للرّاحة والاستراحة، وأوجد من تلك البارقة الملكوتيّة وأودع منها في النّفوس الحيوانيّة والبشريّة، متمنّياً أن يصرفها النّاس في محالّها، وتكون في ظلّها هذه الخلائق في الفرح والعيش.

فهل يجوز لك أن لا تكون رحماناً ورحيماً بالخلق، الّذي هو إمّا نظير لك في الدين أو شبيه لك في المخلوقية4، وهل يجوز لك أن تبيت ببطنةٍ5 وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ6، كلا وحاشا ما هكذا الظنّ بكم! فكونوا مماثلين للرّسول الأعظم الإلهيّ، فقد قال الله: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ7، وقد وصفه في الكتاب العزيز بأنّه ﴿إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ 8.

تجلّي الرّحمة بصورة الغضب:

وغير خفيٍّ: أنّ من تجليّات تلك الرّحمة الإلهيّة ما هو في صورة الغضب والانتقام، وهو في الدنيا كجعل القوانين النّظاميّة السّياسيّة, ولذلك قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ9، وفي الآخرة كجعل النّار والميزان لتخليص الأفراد الأراذل من الخبائث والأنجاس النّفسانيّة, فإنّها من قبيل رفقاء السّوء وجلساء الذّموم في تنفّر الطباع عنها والاشمئزاز منها... وقد عُدَّ ذلك من الآلاء - على احتمال - في سورة الرحمن: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ10، ولعلّ هذا هو معنى قولهم: "سبقت رحمتُه غضبَه"، فإنّ غضبه من تجلّيات الرّحمة الإطلاقيّة الذّاتيّة.

الاتّصاف بالرّحمة

فعلى هذا يا عزيزي ويا أيّها القارئ الكريم، عليك بالجدّ والاجتهاد في الاتّصاف بهذه الصّفة الرّبوبيّة بالنّسبة إلى جميع الخلائق، وبخاصّة المؤمنين، وتدبّر في الحضرة الرّبوبيّة وما يصنع بالعباد من العطف والرّأفة ومن اللّطف والمحبّة، مع تلك القدرة وذلك الغضب الّذي لا تقوم له السّماوات والأرض، فضلاً عنك أيّها الضّعيف المسجون في الدنيا والمحبوس في الطبيعة، عليك أن تجتهد في اكتساب الأخلاق الفاضلة، والتخلّق بالفضائل النّفسانية والتّشبّه بالإنسان الكامل، فتكون رحمةً لعالمك، إن لم تتمكّن من أن تكون رحمةً للعالمين، فتدبّر فيما حكى القرآن عن حدود رأفة الرّسول الإلهيّ الأعظم في سورة الشعراء: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ11 وفي سورة الكهف: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا12.

سبحان الله، ما أعظم شأنه صلى الله عليه وآله وسلم! فإنّه يتأسّف على حال الكفّار والجاحدين، ولقد بلغت مودّته ومحبّته في إيصال العباد إلى الدّار الآخرة وإلى السّعادة العظمى إلى حدّ أخذ ربّ العالمين في تسليته وتسكينه عمّا يقع في قلبه الشريف، حذرًا من هلاكه وخوفًا من تقطّع قلبه وروحه.

فيا أيّها الأخ الكريم والعبد الأثيم، إن اتّصفت بالرّحمة الإلهيّة وتصوّرت بصورة تلك البارقة الملكوتيّة، فمرحبًا بك ونعيمًا لك. وإن تمثّلت بمثال الرّحمة المحمّديّة، وتنوّرت بنور وجوده الّذي هو رحمةٌ للعالمين، فبشرى لك، وإذا كنت عاجزًا عن ذاك وذا، فلا أقلّ من الاجتهاد في سبيل الشركة مع المؤمنين السابقين، المحشورين مع النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والأمير عليه السلام، الّذين وصفهم الله تعالى في الكتاب في سورة الفتح: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ13.

الرحمة في الرّوايات

وقد ورد في الآثار المرتضويّة والأخبار الجعفريّة الأحاديث الكثيرة، المتضمّنة لهذه الصّفة، ولا بأس بالإشارة إلى بعضٍ منها:

1- قد أخرج الكلينيّ بإسناده عن الصادق عليه السلام أنّه كان يقول لأصحابه: "اتقوا الله وكونوا إخوة بررة، متحابّين في الله، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا، وتذاكروا أمرنا وأحيوه"14.

2- وبإسناده عنه عليه السلام، قال: "يحقّ على المسلمين الاجتهاد في التّواصل، والتّعاون على التّعاطف، والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض، حتّى تكونوا كما أمر الله عزّ وجلّ: ﴿رُحَمَاء بَيْنَهُمْ15 متراحمين، مغتمّين لما غاب عنكم من أمرهم، على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"16.

3- وعن "مجالس" الطوسي- قدس سره القدّوسيّ- عن عليٍّ عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله عزّ وجلّ رحيمٌ، يحبّ كلّ رحيمٍ"17.

4- وعن العلّامة الحلّيّ في "المستدرك" في "الرّسالة السّعديّة" عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "والّذي نفس محمّدٍ بيده، لا يضع الله الرّحمة إلا على رحيم"، قالوا: يا رسول الله، كلّنا رحيمٌ؟ قال: "ليس الّذي يرحم نفسه وأهله خاصّة، ولكن الّذي يرحم المسلمين" وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "قال تعالى: إن كنتم تريدون رحمتي فارحموا"18.

5- وعن "الجعفريّات" عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من لا يرحم النّاس، لا يرحمه الله"19.

6- وعن "عوالي اللّآلي" عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "الرّاحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض، يرحمكم مَنْ في السّماء"20.

فالملاطفة من جنود الرّحمن، ولا تختصّ بكون طرفها الإنسان أو الحيوان، بل تشمل كلّ شيءٍ حتّى النّباتات.

فيا قرّة عيني المحترم، ويا رفيقي وصديقي، أفلا تتدبّر في الكتاب العزيز، حيث كرَّر البسملة فيها، واستدركها في سورة النمل، لِمَا فات في سورة التوبة، فهل تحتمل أن لا يكون في هذا التّكرير غرضٌ أعلى ومقصدٌ أجلى، وهو سوق البشر إلى اتّباع هذه الجلوات، وبعث النّاس إلى جعل هذا البرنامج دستور عمله ووجهة فكره، فكن في دنياك باذلاً عمرك في نجاة عائلتك من تبعات أعمالهم، وجنّبهم عما يتوجّه إليهم من العقوبات الشّديدة، والعذاب الأليم في البرزخ والقيامة، ولا تكن كالمعطّلين الوجود والبهيمة أو أضلّ، فاهتمّ بأمر أخيك المسلم، ولا تكن من الغافلين عن أمرٍ بديعٍ، وهو: أنّ أرباب الرّحمة وأصحاب الرّأفة والعطوفة، ربّما يصدر منهم الخشونة والغضب، ولكنّه - أيضاً - رحمةٌ بالنّسبة إلى النّوع، وغضبٌ بالنّسبة إلى الفرد، خيرٌ بالقياس إلى النّظام الكلّيّ، وشرٌّ بالقياس إلى الآحاد الفانية في الاجتماع، وربّما يكون رحمةً بالنّسبة إليهم. وأيضاً لما أشير إليه: أنّ في ذلك نجاةً من البلاء العظيم، وهو الابتلاء بالنّار، وتبعات الأفعال والصفات في النّشآت الآتية.

فيا عزيزي ويا محبوبي، كفاك هذا نصحاً، وكفى هذا الفقير المشتاق إلى رحمة ربّه ذكراً، فنرجو الله تعالى أن يوفّقنا لمرضاته، ويهدينا إلى السّعادة الأبديّة، فإنّه خير موفقٍ ومعينٍ21.

* من كتاب بصر الهدى، سلسلة وصايا العلماء، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


2- للحقّ سبحانه وتعالى بحسب:  ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ شؤنات وتجلّيات، بذاته وأسمائه وصفاته، وهي بمعنى الظّهور والانكشاف. الرّحمة الرّحمانية عبارةٌ عن إفاضة الوجود على الأشياء وإبقائها، وإكمالها بالكمالات اللّائقة بفطرتها. وهذا عامٌّ لجميع الأشياء.. وأمّا الرّحمة الرّحييّة فهي عبارةٌ عن إفاضة الكمالات الاختياريّة المرضيّة على المختارين من الإنس والجنّ.
3- التّجرّد البرزخيّ: هو التّجرّد النّاقص المرتبط بعالم المثال، والذي فيه آثار المادة ولواحقها دون المادة نفسها. وأمّا التّجرّد الغيبيّ: فهو التّجرّد التّام عن المادّة ولواحقها وآثارها ذاتًا وفعلًا.
4- انظر: نهج البلاغة، صبحي الصالح، الرسائل، رقم 53.
5- البطنة: كثرة الأكل والسرف في الشبع.
6- القِدّ: بالكسر والتشديد، القطعة من الجلد غير المدبوغ.
7- سورة التوبة، الآية 128.
8- سورة الأنبياء، الآية 107.
9- سورة البقرة، الآية 179.
10- سورة الرحمن، الآيتان 35 - 36.
11- سورة الشعراء، الآية 3.
12- سورة الكهف، الآية 6.
13- سورة الفتح، الآية 29.
14- الكليني، الكافي ج 2 ، ص 140.
15- سورة الفتح، الآية 29.
16- الكليني، الكافي ج 2 ، ص 140.
17- الطوسي، الأمالي ص 516.
18- الرّسالة السّعديّة، ص 165. الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 2، ص 95. كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 107، الحديث 3.
19- الجعفريّات، ص 167. الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 2، ص 95. كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 107، الحديث 4.
20- عوالي اللآلي، ج 1، ص 361، الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 2، ص 95، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 107، الحديث 8.
21- الخمينيّ الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 1، ص 239- 246.

2014-01-06