يتم التحميل...

التّخلّق بأخلاق الله

السيد مصطفى الخميني

اعلم يا أخي في الله، أنّ الله تبارك وتعالى مع كمال غنائه في ذاته عن جميع ما سواه، ونهاية استغنائه عن كافّة الأشياء بقضّها وقضيضها، يلاحظ في مقام الأمر والنّهي جانب الرّأفة والرّحمة وطرف الأدب والتّعظيم،

عدد الزوار: 12

اعلم يا أخي في الله، أنّ الله تبارك وتعالى مع كمال غنائه في ذاته عن جميع ما سواه، ونهاية استغنائه عن كافّة الأشياء بقضّها وقضيضها، يلاحظ في مقام الأمر والنّهي جانب الرّأفة والرّحمة وطرف الأدب والتّعظيم، حتّى يجد العبد السّالك من كلامه نوراً يمشي به في ظلمات الأنفس والآفاق، فإذا نظرت وتأمّلت بعين البصيرة ونور العرفان والشّهود في هاتين الآيتين1، تجد أنّ الآية الأولى مشتملةٌ على الأمر، والثّانية على النّهي، ولا شبهة أنّ الأمر والنّهي متضمّنان نوعاً من المرارة وجانباً من التّحقير والاستعباد، لأنّ الأمر- ولا سيّما من العالي- وهكذا النّهي، على خلاف استكبار الإنسان وطمطراقه2، ولأجل ذلك شفع الأمر والنّهي بالجهات الكاشفة عن الرّجاء والأمل، وأنّ الله تعالى مع كمال عظمته الّتي لا يمكن إدراكها، والعبد مع نهاية صغره الذي لا ينال حدّه إلا الله، يخاطب الإنسان ويتوجّه إليه ويأمره بلينٍ ورأفةٍ ورفقٍ، ويترك جانب الغلظة، فيقول: ﴿اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ حتّى يتوجّه العبد إلى حكم الفطرة السّليمة، وأنّ عبادة الربّ الحقيقيّ لازمةٌ عقلاً، أَمَرَ المولى أم لم يأمر، ثمّ يقول: ﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ حتّى لا يتأثّر الإنسان من توهّم أنّه مخلوقٌ دون غيره، فيجد أنّ الكلّ مخلوقٌ، ثمّ يردف ذلك بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ حتّى يذوق أنّ الله يأمل ذلك، ويرجو تقواه وإيمانه وعبادته، ولا يكون الأمر أمر تشديدٍ، ولا نهي غلظةٍ وسلطةٍ. نعم يقول بعد ذلك: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً، فيكون هو الرّؤوف الرّحمن والرّحيم العطوف، والذي جعل لكم السّماء بناءً، وهكذا صنع كذا وكذا ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً فإذا كان الله تعالى في وعظه وإرشاده يراعي نهاية الرّفق والأدب، ويلاحظ غاية البلاغة والشّرف، حتّى يقول ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ، مع أنّ الانسان لا يعلم- حسب كثيرٍ من الآيات - شيئاً، وأقلّ شيءٍ قُسّم بين العباد هو اليقين والعلم. فيا عزيزي ويا أخي وشقيقي، إذا كان هو تعالى في هذه المنزلة من التّواضع، فأنت لا تكن جبّاراً متكبّراً ولا آثماً وعاصياً لمثله العزيز. إلهي وسيّدي أرجو أن تهدينا إلى سواء السّبيل، ونأمل أن تعيننا على طاعتك وعبادتك، ولا تؤاخذنا يا رفيق، ويا عطوفاً بعباده وخلائقه، واجعلنا من عبادك الصّالحين المتّعظين بوعظك حتّى لا نعبد إلا إيّاك، ونخلص لك عبادتنا وأعمالنا، واهدِ الغافلين منّا وأهل الشّدة والغلظة إلى أن يتحقّقوا بهذه الآيات حتّى يكونوا مثالاً لنبيّك الأعظم ووليّك الأفخم. آمين يا ربّ العالمين3.


التّخلّق بأخلاق القرآن العظيم وآداب الكتاب الحكيم:


يا أيّها العزيز ويا أيّها القارئ: إنّما الهدف من جميع هذه البحوث، والمقصود من كافّة تلك المسائل، هو النيل بمقام الرّبّ، والتّخلّق بأخلاق الله، والتوجّه إلى أنّ الله تبارك وتعالى مستوي النّسبة إلى عامّة الأشياء، ولا فصل بين شيءٍ وشيءٍ في هذه المرتبة وتلك المنزلة، وإنّما الخلق يتفاوت نسبهم إليه تعالى بوجهٍ خاصٍّ، لا يحصل ذلك إلا في قوس الصّعود، فمن الخلق من يصل بالحركة الذّاتيّة الطّبيعيّة إلى ما دون الطّبيعة وإلى الجحيم والنّار الأليم، وتكون حركته تضعّفيّةً متنازلةً منعكسةً، وتصير طبيعته محجوبةً بالحجب الاكتسابيّة الظّلمانيّة، إلى حدٍّ تنقلب من الطّينة الخميرة الإلهيّة، ومن فطرة الله إلى الفطرة الشّيطانيّة الانقلابيّة النّاريّة الذّاتيّة الخالدة، فإذا مات وقع في قعر الجحيم، ويكون في جميع سكناته وحركاته متوجّهاً إليه حتّى يصل إليه.

رواية عجيبة

وإلى هذه المائدة الإلهيّة والحقيقة الفلسفيّة، يشير الكشف الأحديّ الأحمديّ المحمّديّصلى الله عليه وآله وسلم، حسب رواية محكيّة في كتب العامّة والخاصّة، وهي من أعجب ما رُوِيْنَا عنّه صلى الله عليه وآله وسلم: "أنّه كان قاعداً مع أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، فسمعوا هدّةً عظيمةً فارتاعوا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أتعرفون ما هذه الهدّة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: حجرٌ أُلقِيَ من أعلى جهنّم منذ سبعين سنةً، الآن وصل إلى قعرها، فكان وصوله إلى قعرها وسقوطه فيها هذه الهدّة. فما فرغ من كلامه صلى الله عليه وآله وسلم إلّا والصّراخ في دار منافقٍ من المنافقين قد مات، وكان عمره سبعين سنةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الله أكبر، فعلم علماء الصّحابة أنّ هذا الحجر هو ذلك المنافق، وأنّه منذ خلقه الله يهوي في جهنّم، وبلغ عمره سبعين سنةً، فلمّا مات حصل في قعرها "4. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ5، فكان سمعتهم تلك الهدّة التي أسمعهم الله برفع الحجب بتوسيط الرّسول أحياناً ليعتبروا، فانظروا ما أعجب كلام النّبوّة، وما ألطف تعريفه، وما أغرب كلامه صلى الله عليه وآله وسلم.

* من كتاب بصر الهدى، سلسلة وصايا العلماء، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- يعني الآيتين 21 -22 من سورة البقرة.
2- بمعنى التعالي والرفعة، والكلمة ليست عربية على ما يظهر.
3- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 4، ص 391 -392.
4- راجع: الفيض الكاشاني، علم اليقين، ج 2، ص 1002.
5- سورة النساء، الآية 145.
2013-12-02