يتم التحميل...

الإيمان والكفر

السيد مصطفى الخميني

اعلم: أنّ الإيمان من جنود العقل.. والكفر من جنود الجهل.. وبعبارة أخرى: إنّ الإيمان من أحكام الفطرة المخمورة، والكفر من آثار الفطرة المحجوبة، وقد تقرّر لأهله في محلّه: أنّ الإنسان مفطورٌ على عشق الكمال،

عدد الزوار: 17

اعلم: أنّ الإيمان من جنود العقل.. والكفر من جنود الجهل.. وبعبارة أخرى: إنّ الإيمان من أحكام الفطرة المخمورة، والكفر من آثار الفطرة المحجوبة، وقد تقرّر لأهله في محلّه: أنّ الإنسان مفطورٌ على عشق الكمال، و(النّفور) عن النّقص، فيكون متحرّكاً ومتوجّهاً إلى الإيمان، لأنّه كمال الطّبيعة والطّينة، ومنزجراً وفرّاراً عن الكفر، لأنّه النّقص، وهذه الكبريات ممّا أقيمت عليها الشّواهد والوجدانيات، مشفوعة بالبراهين والأدلّة والآثار. والّذي هو الأهم في نظر السّالك، ويهتمّ به في السّير: هو أن يتحقّق العبد بصفة الإيمان، حتّى لا يكون كافراً في جميع الاعتبارات وفي كافة الآفاق، وهذا الكفر هو الذي يحتجب به الإنسان بأنواع الحجب، ولا يتمكّن بعد الاحتجاب من خرقها وهدمها إلا بالعناية الإلهيّة، وبالممارسة والمجاهدة النّفسانيّة، ولا يشرع -في حكومة العقل - أن يكتفي بالبحوث والاشتقاقات الأخلاقيّة، والغور في سبل الرّذائل والملكات، غافلاً عمّا هو عليه، وعمّا في قلبه من البلايا والآفات.

فيا أيّها العزيز ويا قرّة عيني، إيّاك وأن تصبح وقد اكتسبت المادّة القابلة للصّور الكافرة، واحتجبت الفطرة بالحجب الغليظة، فإنّه عند ذلك لا يمكن أن تتخلّص من العذاب الإلهيّ العظيم، ولا تتمكّن أن تنجو من جحيم الذّات السّرمديّ الأبديّ، فما دمت مقارناً للمادة في الدنيا والنّشأة القابلة للتغير، وما دمت شابّاً غير راسخةٍ عروق وجودك في سجون الطّبيعة المظلمة، تقدر على القلب والانقلاب، وتقدر على إضاءة النّفس وإنارة قلبك، وتقدر على خرق الحجب، فلا تشتغل بغير ذلك، واستعن بالله العزيز وبالربّ اللّطيف، حتّى يمدّك بملائكته لنجاتك وهدايتك، فلا تكون بعد ذلك ممّن طبع الله على قلبه وسمعه، وختم على بصره غشاوة. فلا تأخذ بالتّسويف والآمال، فإنّ ذلك من مكايد الشّيطان، وحباله وخدعه ووسوسته ونباله. ولا تيأس من روح الله وعنايته، فإنّه لطيف ورؤوف بعباده، وعطوف ورحيم في مملكته وسلطانه، ولا تأخذ ولا تترنّم: بأنّ الأمر قد مضى وقد قضي علينا بالشّقاوة والنّيران، فإنّ كلّ ذلك من الشّيطان الرّجيم ومن إبليس اللّئيم. عصمنا الله تعالى من النّفس الأمّارة بالسّوء، وندعو الله تعالى أن يعيننا على طاعته وعبادته، ويخلّصنا من الزّلات والشّرك، ومن الخواطر والمشاغل. آمين يا ربّ العالمين1.

ادّعاء الإيمان

اعلم: أنّ هذه الآية الشريفة ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ2 - حسب مراتب الإيمان - قابلةٌ للتّطبيق على جميع المؤمنين والمسلمين، وأنّ كلّ إنسان إذا راجع قلبه ومخزن علمه وإيمانه بالله وباليوم الآخر، يجد، وجداناً، أنّه ما آمن به تعالى، فإنّ الإيمان بالاسم الجامع، والإيقان بالله، له الآثار والخواصّ، فمن كان يؤمن بالله تعالى، وبأنّه تعالى هو الجامع الكلّيّ، وهو الكامل على الإطلاق، وأنّه المتحقّق بالحقيقة والذّات، وأنّ الوجود لا يليق إلا بالحضرة الإلهيّة، ومن تجلّى قلبه بالوحدة الذّاتيّة الإطلاقيّة3، وبالواحدات الأسمائيّة والصّفاتيّة والأفعاليّة، كيف يمكن أن يجد نفسه بحذائه تعالى، ويلمس وجوده وراء وجوده، فإذا كان الأمر كذلك حسب البراهين العلميّة والأدلة الإيمانيّة والشّواهد العرفانيّة، فلا يكون مؤمناً بالله، فيستحقّ أن يقال في حقّهم: إنّهم لا يؤمنون، وما كانوا مؤمنين. ومن كان مؤمناً بالله تعالى، وبأنّه لا إله إلا الله، ولا مؤثّر في الوجود إلا هو، وأنّه إليه ترجع جميع الكمالات، وبيده أزمّة الأمور وجميع الإرادات الكلّيّة والجزئيّة، فكيف يمكن أن يذهب إلى الأبواب الباطلة، ويرفع أياديه إلى غيره تعالى، ويطلب من غيره تعالى، فإذا كان الأمر كما تبرهن وتبيّن، يجد أنّه لا يكون من المؤمنين، وينبغي نفي الإيمان عنه. ومن كان مؤمناً بالله تعالى وباليوم الآخر، وبأنّ الدّار الآخرة دارٌ باقيةٌ، والدّار الدّنيا فانيةٌ لا كمال فيها إلا كمالاً وهمياً، فلا يهتمّ إلا بالسّلوك إلى تلك الدّار، بجميع ما يساعده فيها من الخيرات والبركات، وبكسب الحسنات وطرد السّيّئات، حتّى يتحلّى بحلية التّخلية، ويتجلّى بجلاء التّجلية والصّفات الحميدة4. وإذا كان الأمر كذلك، فيجد في وجدانه وفي قلبه أنّه لا يكون من المؤمنين، ولا يستحقّ أن يعبّر عنه بأنّه مؤمنٌ، فيلزم استحقاقه لقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ5. ومن كان يؤمن بالله وباليوم الآخر يصنع لله ولليوم الآخر، ويهتمّ بذلك حتّى يخلو عن الشّرك والرّياء، وينجو من الظّلمات في البرزخ، وفي النّار، ويتخلّص عن السّمعة والعجب والعصبيّة وغيرها، فإذا كان في نفسه من أهل هذه الصّفات والأفعال يصدّق هذه (الآية) الكريمة الجامعة العامّة، ويعتقد أنّها لا تختصّ بالمنافقين ولا بالمسلمين والمؤمنين، بل قلّما يتّفق أن يخرج عنها أحد. والله الموفّق المؤيّد.

* من كتاب بصر الهدى، سلسلة وصايا العلماء، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 3، ص 214 -215.
2- سورة البقرة، الآية 8.
3- الوحدة الذّاتيّة هي وحدة لا تقابل الكثرة، أي لا تكون وحدتها وحدة عددية منشأ الأعداد والتكثر، بل جميع الوحدات العدديّة مع أنه ليس له وحدةٌ عدديّةٌ، فله وحدةٌ ذاتيّة، وهي أصل الوحدة الأسمائيّة. والظّاهر أنّ المراد بتجلّي الوحدات المذكورة على قلب السّالك إنما هو بالأسفار الأربعة باصطلاح العرفاء، وهي كما بيّنها كمال الدين عبد الرزاق الكاشاني: الأوّل: هو السّير إلى الله من منازل النّفس إلى الوصول إلى الأفق المبين وهو نهاية مقام القلب ومبدأ التجلّيات الأسمائيّة والثّاني: هو السّير في الله بالاتّصاف بصفاته والتّحقّق بأسمائه إلى الأفق الأعلى، ونهاية الحضرة الواحديّة، والثّالث: هو التّرقّي إلى عين الجمع والحضرة الأحديّة وهو مقام قاب قوسين الاثنينيّة، فإذا ارتفعت فهو مقام أو أدنى وهو نهاية الولاية، والرّابع: هو السّير بالله عن الله للتّكميل، وهو مقام البقاء بعد الفناء والفرق بعد الجمع. انتهى.
4- التخلية هي أن يتخلّى عن رذائل الأخلاق والصفات.. وأمّا التجلية فهي أن يجلّي الظاهر باستعمال ما ورد في النواميس الإلهية.. بخلع الأسماء والصّفات ويتخلّق بأخلاق الله. كما قالوا..
5- سورة البقرة، الآية 8.

2013-11-27