يتم التحميل...

اعرف نفسك

السيد مصطفى الخميني

اعلم يا أخي في الله ويا محبوبي ويا عزيزي في الدّين والدّنيا: أنّ يَراعي قاصرٌ والقلم فاترٌ، وفكري مبتذلٌ، وفهمي بسيطٌ، واطّلاعي يسيرٌ، وباعي قصيرٌ، ومِمّا يؤسف عليه ابتلائي بالبلايا الكثيرة، واتّصافي بالصّفات السّيّئة،

عدد الزوار: 12

اعلم يا أخي في الله ويا محبوبي ويا عزيزي في الدّين والدّنيا: أنّ يَراعي قاصرٌ والقلم فاترٌ، وفكري مبتذلٌ، وفهمي بسيطٌ، واطّلاعي يسيرٌ، وباعي قصيرٌ، ومِمّا يؤسف عليه ابتلائي بالبلايا الكثيرة، واتّصافي بالصّفات السّيّئة، وبُعدي عن وظائف الدّيانة، وذنبي بالنّسبة إلى المسائل الإلهيّة، وعصياني بالنّسبة إلى شروط الإنسانيّة، ونحمَد الله على كلّ حال، ونشكر(ه) على هذه الخصال، ولست آيساً عن شفاعة الشّافعين ومعونة أهل اليقين ومعاضدة المتّقين بمرافقة المؤمنين، فإنّها من أحسن النّعم الإلهيّة وأرقى النّحلات الرّحمانيّة، رزقنا الله وإيّاك كي ترقى إلى ما هو المأمول في آدم، وإلى ما هو المرجوّ من هذه الصّيصية1، الصّغيرة جرماً، والكبيرة بطناً، والعالية غايةً، والدّانية مبدأً. فعليك بالاهتمام بشأنك، ولا تكن قنوعاً في هذا الميدان الفسيح، ولا صبوراً في هذا الطريق الوسيع، وكن باذلاً جهدك في الإنسان الكبير وفي الكون الجامع الذي إليه المصير بعون الملك القدير، ولا تغفل عن الزّوايا الموجودة في وجودك، والخلاء المتقدّر في سرّك، والعدّة والاستعداد الذي تحت تصرّفك، فإنّ الله فيّاضٌ جوادٌ عالمٌ قادرٌ، يجذبك بجميع الوسائل الإمكانيّة، ويعشقك نهاية العشق الإلهيّة بالحركة الذّاتيّة الموجودة فيك، وبالإمكانات الطّبيعيّة المودوعة لديك، فإنّما المنكوس من اتّبع سبيل الشّيطان، والغير الواصل مَن خضع لغير الإنسان، والمحجوب عن الفطرة المخمورة مَن ذلّ لغير الرّحمن، فإنّه قد سلك سبل المعاندين بالاختيار، وسار في طريق الملحدين الكافرين بالإرادة والإفكار.

الإنسان مسجود الملائكة

اعلم يا أيّها الآدميّ، بل ويا آدم: أنت بحسب الخلقة الأوّليّة، وبحسب الفطرة الإلهيّة مسجود الملائكة أجمعين أكتعين2، فكلهم خاضعون ساجدون، ومسخّرون عندك، حسب مراتب وجودك ومراحل حقيقتك ومنازل مسيرك وسفرك، وقد أمر الله بذلك، وكان الله تعالى ربّك رؤوفاً بك عطوفاً عليك رحيماً رحماناً، اصطفاك خليفةً، وعلّمك ما لم تكن تعلم، واستعرضك كي تجد الملائكة مقامك ومنزلتك، وبعد ذلك كله خضعت الملائكة وسجدت تكويناً لك، وتلك الملائكة الأعلون والأسفلون امتثلوا أمر الله تعالى امتثالاً دائميّاً سرمديّاً، وأطاعوا أمر الله تعالى إطاعةً مسجّلةً في ذواتهم، وانقياداً لا يتصوّر وراءه تكويناً وتشريعاً. فإذا كانت هذه الحقيقة في انتظارك، وتلك البارقة اللّاهوتيّة3 في خميرتك، وهذه المائدة الكلّيّة الجامعة في جوارك، فهل إلى التّخلية عن الرّذائل الذّاتيّة، والتّخلية عن الخبائث الصّفاتيّة، وعن المفاسد الأفعاليّة والأباطيل الأقواليّة، قصور وفتورٌ؟! كلّا إنّه خلاف العدالة، وضدّ الإنصاف والاقتصاد، فإنّ إبليس أبى واستكبر، وتفوّق بإبائه واستكباره على هذه الملائكة وهؤلاء الأماجد والسّابقين، بإضلالك (و) سوقك إلى النّار والشّيطنة والانحطاط والهجرة والمحجوريّة.

لا تكن ساجداً للشّياطين

فيا أخي ويا نفسي وشقيقي: كيف الأمر وأنت ساجدٌ للشياطين، والملائكة سجّدٌ لك، أنت مطيع الأبالسة وملائكة الله تطيعك، أنت منقادةٌ إليك الخلائق الطّاهرة القدّيسة المنزّهة، وتنقاد أنت للجان والشّيطان، عدوّك وعدوّ الله تعالى. فوالله أنت مظهرٌ لا يستحيي من كل شيءٍ، وأنت أرذل من الحيوان وأضلّ سبيلاً، فعليك بالانتباه عن نومة الغافلين، والالتفات إلى منازل السّائرين، والابتعاد عن أن تكون من الكافرين الآبين المستكبرين، ولتخف يا صديقي من حشرك مع الشّيطان والشّياطين، فإنّ الملائكة تجرّك إلى الجنّة، وإبليس يجرّك إلى النّار، وأنت تساعده بترك اتّباع الشّرع، وبامتثال أوامر الهوى والنّفس، فإنّ الخيرات والعوامل الباعثة نحو العواقب الكريمة غير متناهيةٍ، وأمّا الشرور فتنتهي إلى إبليس الذي لا يتمكّن إلا بمعاونتك، أَفَمَا سمعت عن بعضٍ أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "شيطاني آمن بي"4.

إلهي إنّ عبدك المكتفي بهذه الصّحائف والسّطور، بعيدٌ عن كافّة البوارق والنّور، فإليك الابتهال والإنابة والتوبة، فأعنّا يا خير معينٍ5.

كلمتي الأخيرة معك

فعليك يا شقيقي وأخي في الله وفي ديني، النّظرة العميقة في كيفية طينتك الطّيّبة المعجونة بأسماء الله، والمركّبة من صفاته، وكيفيّة المحافظة على تلك الطّينة والفطرة الإلهيّة، وهي فطرة الله التي فطر النّاس عليها، وكيفيّة التّجنّب عن ظلماتٍ بعضها فوق بعضٍ، والموجبة لصيرورة تلك الطّينة المخمورة طينةً وفطرةً محجوبةً بحجبٍ روحانيّةٍ وظلمانيّةٍ، وما ذلك إلا بالتدبّر والتفكّر في المعاشرين وفي حضور المجالس الباطلة والمحافل العاطلة معهم، والتفكّر والتأمّل في مخالفة النّفس، فإنّ في مخالفة النّفس معرفة الرب، كما ورد عن الرّسول الأعظم الإسلاميّ صلى الله عليه وآله وسلم.

ويا روحي وقلبي ويا صديقي وحبيبي: إنّ من اتّبع هدى الله وكرامته وتوجيهاته وإرشاداته القرآنيّة والإلهاميّة، لا خوفٌ عليهم على الإطلاق، لا خوفٌ بالنّسبة إلى المسائل الدّنيويّة، ولا يحزن على الأمور الرّاجعة إلى معيشته وحياته الفرديّة والاجتماعيّة، ولا بالنّسبة إلى البرزخيّة والأخرويّة، فهل ترى في نفسك ذلك إذا خلوت مع الله، وعشت في الانزواء، أم تجد الخوف والحزن، فيعلم منه أنّك لم تتّبع هدى الله، ونعوذ بالله أن تنسلك في قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ6 فنرجو الله تعالى لك ولراقم هذه السّطور عافيةً طيّبةً وحسن الختام7

* من كتاب بصر الهدى، سلسلة وصايا العلماء، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- الصيصية في اللغة: كلّ ما يمتنع ويتحصن به المرء والمراد هنا البدن الإنساني.
2- أكتع مرادف لأجمع ولا يستعمل إلا معها، يقال: رأيتهم أجمعين أكتعين.
3- اللّاهوت: عالم الأسماء والصّفات.
4- راجع: المتقي الهندي، كنز العمال، ج 11، ص 413، الحديث رقم 319 - 36.
5- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 5، ص 403- 404.
6- سورة البقرة، الآية 39.
7- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 5، ص 480-483.

2013-11-27