يتم التحميل...

نظرة المؤمن إلى الموت

الموت والبرزخ

إن ما يدل عليه العقل وتشهد له النصوص الدينية أنه لا بدَّ من وجود حياة أخرى لا يغلب في ساحة منها التعب، يعاقب فيها الظالم ويؤخذ فيها للمظلوم حقه، ويبقى فيها الإنسان مع ما جناه في هذه الدنيا.

عدد الزوار: 92

حقيقة الموت

إن ما يدل عليه العقل وتشهد له النصوص الدينية أنه لا بدَّ من وجود حياة أخرى لا يغلب في ساحة منها التعب، يعاقب فيها الظالم ويؤخذ فيها للمظلوم حقه، ويبقى فيها الإنسان مع ما جناه في هذه الدنيا.

وهذا ما أكده خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم حينما ورد عنه: "ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء، إنما تنقلون من دار إلى دار".

وحقيقة الموت أنه الباب بين الدارين كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام "الموت باب الآخرة".

من هنا فإن من كان موته باباً للثواب فإنه سيشعر به "كأطيب ريح يشمه فينعس بطيبه وينقطع التعب والألم كله عنه" ومن كان موته باباً للعقاب فقد يشعر به "كلسع الأفاعي ولذع العقارب أو أشد".

هل يتمنى المؤمن أن يموت؟

إن تمنّي الموت تابع لأمرين:
الأول: يتعلق باطمئنان المؤمن إلى آخرته السعيدة.
الثاني: يرتبط بطموحه في زيادة حسناته لتكون حياته الآخرة أفضل.

من هنا نفهم سر جواب الإمام الصادق عليه السلام لذلك الرجل الذي قال له: سئمت الدنيا فأتمنى على الله الموت؟ فأجابه عليه السلام: "تمنَّ الحياة لتطيع لا لتعصي، فلئن تعيش فتطيع خير لك من أن تموت فلا تعصي ولا تطيع".

ونفهم أيضاً سر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الرجل المريض الذي كان يتمنى الموت، فقال له: "لا تتمنَّ الموت، فإنك إن تك محسناً تزدد إحساناً إلى إحسانك وإن كنت مسيئاً فتؤخَّر لتستعتب فلا تمنوا الموت".

وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء الصحيح المتعلق بالموت بقوله – فيما ورد عنه: "يدعُوَنّ أحدكم بالموت لضرٍّ نزل به، ولكن ليقل أحيِني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي".

وبنفس هذا المعنى كان يدعو الإمام زين العابدين عليه السلام كما في الصحيفة السجادية، "... وعمِّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك، قبل أن يسبق مقتك إلي، أو يستحكم غضبك علي".

نعم حين يطمئن المؤمن إلى مصيره بعد الموت، ويعلم أن الباب الذي سيفتح له سيكون في أعلى مراتب رضوان الله تعالى فإنه سيتمنّى الموت، لذا قال الله تعالى مخاطباً اليهود: (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين). من هنا نفهم سر سعي المؤمنين المجاهدين حقاً نحو قتل الشهادة، فهم يعرفون مرتبة الشهيد التي تحدث عنها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله الوارد عنه: للشهيد سبع خصال من الله:

"الأولى: أول قطرة من دمه مغفور له كلُّ ذنب.
الثانية: يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين وتمسحان الغبار عن وجهه وتقولان مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك لهما.
والثالثة: يُكسى من كسوة الجنة.
والرابعة: تبتدره خزنة الجنة بكل ريح طيبة أيهم يأخذه معه.
والخامسة: أن يرى منزله.
والسادسة: يقال لروحه: اسرح في الجنة حيث شئت.
والسابعة: أن ينظر في وجه الله، وإنها لراحة لكل نبي وشهيد".

من هذا نفهم سرُّ تمني المؤمنين المجاهدين في سبيل الله القتل، بل أكثر من ذلك، فعن نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرُّها أنها ترجع إلى الدنيا، ولا أنّ لها الدنيا وما فيها إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيُقتل في الدنيا لما يرى من فضل الشهادة".

لأن الشهيد هكذا حاله نهانا الله عن الاعتقاد بأنه ميت فقال عز وجل: (ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون).

حب لقاء الله

إن سعي الشهيد إلى خروج روحه من سجن البدن ليلاقي معشوقه الأبدي، ينطلق من حبُّ لقاء الله الذي نقرأه في سيرة الأنبياء والأولياء العظام فقد ألفت الله تعالى خليله ابراهيم عليه السلام إلى حب لقائه اذ "لما أراد الله تبارك وتعالى قبض روح إبراهيم عليه السلام أهبط الله ملك الموت فقال: السلام عليك يا إبراهيم، قال عليه السلام: وعليك السلام يا ملك الموت أداع أنت أم ناع؟ قال عليه السلام: بل داع يا إبراهيم، فأجب، قال إبراهيم عليه السلام: فهل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فرجع ملك الموت حتى وقف بين يدي الله جل جلاله فقال: إلهي سمعت ما قال خليلك إبراهيم، قال الله جل جلاله: يا ملك الموت إذهب إليه وقل له: هل رأيت حبيباً يكره لقاء حبيبه، إن الحبيب يحب لقاء حبيبه".

وفي قصة معبّرة عن هذا الحب للقاء الله حصلت مع مؤمن من بني اسرائيل في وقتٍ كان ملك الموت مأموراً أن يقبض روحه وروح أحد الملوك الذي أراد أن يركب إلى الأرض فدعا بثياب ليلبسها فلم تعجبه فطلب غيرها حتّى لبس ما أعجبه بعد مرَّات وكذلك طلب دابّة فلم يعجبه حتّى آتى بدوابّ فركب أحسنها، فجاء إبليس فنفخ في منخريه نفخة فملأه كبراً، ثم سار وسارت معه الجنود، وهو لا ينظر إلى الناس كبراً، فجاءه رجل رثُّ الهيئة، فسلّم عليه، فلم يردَّ السلام، فأخذ بلجام دابّته فقال له الملك: أرسل اللجام فقد تعاطيت أمراً عظيماً، فأجابه ذلك الرجل: إنَّ لي إليك حاجة قال: اصبر حتى أنزل، قال: لا، الآن فقهره على لجام دابّته فقال: اذكرها، قال: هي سرٌّ، فأدنا إليه رأسه فسارَّه فقال: أنا ملك الموت، فتغيّر لون الملك واضطرب لسانه، ثم قال: دعني حتّى أرجع إلى أهلي فأقضي حاجتي وأودِّعهم قال: لا والله لا ترى أهلك وثقلك أبداً فقبض روحه فخرَّ كأنه خشبة، ثم لقي مؤمناً في تلك الحال، فسلّم عليه فردَّ السلام فقال: إن لي إليك حاجة أذكرها في أذنك فقال: هات، فسارَّه فقال: أنا ملك الموت، فقال: مرحباً وأهلاً بمن طالت غيبته عليَّ، فوالله ما كان في الأرض غائب أحبُّ إليَّ أن ألقاه منك، عندها عليه ملك الموت أن يذهب لقضاء حاجته ثم بعد ذلك يقبض روحه، لكن ذلك الرجل المؤمن أجابه: مالي حاجة أكبر عندي ولا أحبّ من لقاء الله، قال: فاختر على أيِّ حال شئت أن أقبض روحك فقال: تقدر على ذلك؟ قال: نعم، إنّي أُمرت بذلك، قال: فدعني حتّى أتوضّأ وأصلي ركعتين فاقبض روحي، وأنا ساجد فقبض روحه وهو ساجد.

وقد تجلى حب لقاء الله في مجتمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصحابي الجليل عمرو بن الجموح الذي كان رجلاً أعرج، فلما كان يوم أحد وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشاهد أمثال الأسد، أراد قومه أن يحبسوه وقالوا: أنت رجل أعرج، ولا حرج عليك، وقد ذهب بنوك مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: بخ، يذهبون إلى الجنة، وأجلس أنا عندكم؟ فقالت هند بنت عمرو امرأته: كأني أنظر إليه مولياً قد أخذ درقته وهو يقول: اللهم لا تردني إلى أهلي، فخرج ولحقه بعض قومه يكلمونه في القعود فأبى وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إن قومي يريدون أن يحبسوني هذا الوجه، والخروج معك، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم له: "أما أنت فقد عذرك الله ولا جهاد عليك"، فأبى، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقومه وبنيه: "لا عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله يرزقه الشهادة" فخلوا عنه، فقتل يومئذ شهيداً، فحملته هند بعد شهادته وابنها خلاد وأخاها عبد الله على بعير، فلما بلغت منقطع الحرة برك البعير، فكان كلما توجهه إلى المدينة برك، وإذا وجهته إلى أحد أسرع، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الجمل لمأمور، هل قال عمرو شيئاً؟" قالت: نعم، إنه لما توجّه إلى أُحُد استقبل القبلة ثم قال: اللهم لا تردني إلى أهلي وارزقني الشهادة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "فلذلك الجمل لا يمضي إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبرّه، منهم عمرو بن الجموح".

ولعل اروع صورة في تجلي حب لقاء الله من خلال الشهادة هي في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد معركة أُحُد أنّه لم يُستَشْهَد فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم: "أبشر فإنّ الشهادة من ورائك"، واتت معركة أخرى وانتهت دون شهادته فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاكياً مذكراً: "يا رسول الله أوليس قد قلت لي يوم أُحُد حيث استشهد من المسلمين من استشهد وميزت عني الشهادة، فشقّ ذلك عليّ، فقلت لي: أبشر فإن الشهادة من ورائك".

فأجابه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إن ذلك لكذلك فكيف صبرك إذا"؟

فقال علي عليه السلام: "يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر".

ومرّت السنون وبقي عليّ عليه السلام ينتظر لقاء الله إلى أن دخل المسجد في شهر الله، وفيما هو يصلّي شعر بضربة السيف على رأسه، فقال معبّراً عن ذلك الحبّ: "فزتُ وربّ الكعبة".

وها هو ولده الإمام الحسين عليه السلام ينظر إلى الموت نظرة جمال، فيراه في إحاطته للإنسان كالقلادة على جيد الفتاة، فيقول: "خُطّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب ليوسف..".

وحينما يقترب من رحيل الشهادة ويتعجب من يراه، لما يشاهده من بهائه وهدوئه وسكينته يقول لهم: "صبراً بني الكرام، فما الموت إلا قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إن أبي حدّثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم".

ولذا كان آخر فعل قام به الإمام الحسين عليه السلام قبيل حزِّ رأسه الشريف أنّه ابتسم، كما ورد في بعض الروايات.. ابتسم بعد أن علَّم أهل بيته كيف يبتسمون للموت، حتّى الصغار منهم، فها هو القاسم ابن الحسن الذي لم يبلغ الحِلم سأله عمّه الحسين عليه السلام: "كيف ترى الموت يا عمّ؟" فأجاب: "إنّي أرى الموت أحلى من العسل".

ابتسم الإمام الحسين عليه السلام للموت في كربلاء بعد أن علَّم أصحابه كيف يبتسمون له، فها هو برير قبيل شهادته يضاحك عبد الرحمن الأنصاري، فقال له عبد الرحمن: يا برير، ما هذه ساعة باطل، فقال برير: "لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شابّاً، وإنّما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه، فوالله ما هو إلاَّ أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة، ثم نعانق الحور العين".

رحم الله شهداءنا الذين تعلموا من أمير المؤمين عليه السلام حبّ لقاء الله تعالى، ومن الإمام الحسين عليه السلام كيف يبتسمون للموت، فسطّروا ذلك الحبّ في وصاياهم المعبِّرة.

قرأت في وصيّة أحد شهداء المقاومة الإسلامية في لبنان: "يجب أن أطرق باب الموت، أوليست المنية تداهم الإنسان مرة واحدة، فلماذا لا أذهب وراءها؟! وكم هو جميل وعذْب الموت في سبيل الله.. ما وجدت طريقاً أقصر من الشهادة لأصل إلى الجنّة".


* نداء الرحيل، الشيخ أكرم بركات.

2013-09-19