يتم التحميل...

حين يكون الموت سعادة

محرّم

حين يكون الموت سعادة

عدد الزوار: 34

حين يكون الموت سعادة


لَمَّا أحاط عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ (لَعَنَهُ اللَّهُ) بالإمامِ الحسينِ (عليه السلام) وأصحابهِ وأَيْقَنَ أَنَّهُمْ قَاتِلُوهُ، قَامَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيباً، فَحَمِدَ اللَّهَ وأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ مِنَ الْأَمْرِ مَا تَرَوْنَ، وإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وتَنَكَّرَتْ‏ وأَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا واسْتَمَرَّتْ‏، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ، وإِلَّا خَسِيسُ عَيْشٍ كَالْكَلَإِ الْوَبِيلِ‏. أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ، والْبَاطِلَ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ، لِيَرْغَبِ الْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اللَّهِ، فَإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً، والْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَماً».

لقد خلّدَ اللهُ عزَّ وجلَّ هذه الساعات من الدنيا التي دارتْ أحداثُها في العامِ 61 للهجرةِ النبويّةِ، حيث وقفتْ هذه الثلّةُ القليلةُ من أهلِ الإيمانِ مع إمامِ زمانِها في مواجهةِ الظّلمِ والضّلالِ، ويتوجّهُ الإمامُ (عليه السلام) بخطابِه لهؤلاءِ الخلّصِ من أصحابهِ بأمورٍ:

أولاً: يخبرهم بما يرونَه رأيَ عيانٍ، وأنَّ العدوَّ قد اجتمعَ عليهم يتربّصُهُم، وأنّ شيطانَ الهوى وحبَّ الدنيا قد استحكَم في نفوسِ النّاسِ فاصطفّوا لقتالِ ابنِ بنتِ نبيِّهم.

ثانياً: إنّ للدنيا حالاتٍ، فقد تأتي الدنيا بانتصاراتٍ لأهلِ الحقِّ ويكونُ زمانُها زمانَ الإقبالِ على الهدى، فقد قالَ تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجا. ولكنّ الدنيا قد تتغيرُ وتتبدلُ فبعد أنْ كانَ أهلُ الحقِّ هم أسيادُ الناسِ، وهو ما ينبغي أنْ يكونَ، يُصبحُ هؤلاءِ غرباءَ فيها، بل المعروفُ فيها يُصبحُ منكراً، حيث يُصبحُ الضلالُ سائداً وحيث يُصبحُ أهلُ الباطلِ قادةً وأئمةً للناسِ، فعندئذٍ تُصبحُ الدّنيا مرّةً لا رغدَ فيها.

ثالثاً: إنّ هذه الدنيا قد شارفَتْ على الزّوالِ، فلا ينبغي للإنسانِ أنْ يعتنيَ بما هو قريبُ الزّوالِ، فهي بمقدارِ رشفةِ ماءٍ فلأيِّ شيءٍ يبذلُ الإنسانُ ما أعطاهُ اللهُ لأجلِها، بل إنّ عليه أنْ يبذلَه لاكتسابِ الآخرةِ القادمةِ إليه سريعاً.

رابعاً: يُحدّدُ الإمامُ (عليه السلام) قاعدةً جاريةً على الدوامِ، فهذه الدّنيا هي «مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللَّه ومُصَلَّى مَلَائِكَةِ اللَّه، ومَهْبِطُ وَحْيِ اللَّه ومَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللَّه» وإنّما تكونُ كذلك متى كانَ الحقُّ حاكماً وكانَ الباطلُ زهوقاً، وأمّا عندما يُصبحُ الحقُّ مهملاً ويكونُ الباطلُ هو القاعدةُ المتَّبعةُ بين الناسِ، فإنّ المؤمنَ بين خياري الموتِ والحياِة سوف يرى في الموتِ سعادةً وسوف يرى في الحياةِ ضيقاً وشدّةً، وهذا الأمرُ سوف يدفعُه إلى أنْ يبذلَ نفسَه للانتصارِ للحقِّ ومواجهةِ الباطلِ، فيكونُ في موتِه وشهادتِه قلباً للموازين وتمهيداً لعودةِ الحقِّ إلى مكانتِه التي جعلَه اللهُ فيها.

تقولُ الرّوايةُ إنّهُ بعد أنْ أنهى الإمامُ كلامَه، قامَ زهيرُ بنُ القينِ فقال : «قد سمعنَا - هداك اللهُ يا بنَ رسولِ اللهِ - مقالتَك، ولو كانتْ الدّنيا لنا باقيةً، وكنّا فيها مخلّدين، لآثرنَا النهوضَ معكَ على الإقامةِ فيها».

ثم قامَ هلالُ بنُ نافعٍ البجلي، فقالَ : «واللهِ ما كرِهْنَا لقاءَ ربِّنا، وإنَّا على نيّاتِنا وبصائرِنا، نوالي منْ والاك ونعادي منْ عاداك».

وقامَ بريرُ بنُ خضيرٍ، فقالَ: «واللهِ يا بنَ رسولِ اللهِ لقد منَّ اللهُ بكَ علينا أن نُقاتلَ بين يديكَ فيُقطعُ فيك أعضاؤنا، ثم يكونُ جدُّك شفيعَنا يومَ القيامةِ».

وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين

2018-09-18