يتم التحميل...

التفويض إلى البصير بالعباد

مقتطفات أخلاقية

يختم الحق قوله في: "وأفوض أمري إلى الله" بذكر ( العباد )..ومن ذلك يستشعر أن الحق المتعال ( يصرّف ) شؤون الفرد المفوض للأمر إليه،

عدد الزوار: 26

يختم الحق قوله في: "وأفوض أمري إلى الله" بذكر ( العباد )..ومن ذلك يستشعر أن الحق المتعال ( يصرّف ) شؤون الفرد المفوض للأمر إليه، من خلال ( سيطرته ) على العباد، بمقتضى مولويته المطلق و إحاطته بشؤون الخلق أجمعين..فالحق - الذي فوض إليه العبد أمر الرزق مثلا - هو البصير بكل العباد، فيختار منهم من يكون سببا لسوق الرزق إلى ذلك المفوّض..وهكذا الأمر في التزويج وغير ذلك من شؤون الحياة، الجليلة منها والحقيرة.

الذهول عما سواه
أشار القرآن الكريم إلى حالة الذهول المستغرق الذي انتاب النسوة اللاتي قطّعن أيديهن عندما رأين جمال يوسف (عليه السلام)..فعلم من ذلك أن توجّـه النفس إلى جهة واحدة، يوجب ( انصراف ) النفس عما عداها في تلك الحالة..وبناء على ذلك فان العبد لو أمكنه ( استجماع ) المتفرق من خيوط نفسه المتشعبة نحو الهوى، وتوجيهها نحو كعبة الهدى الإلهي، لتحقق منه ( الذهول ) عما سوى الحق بما لا يقاس به ذهول نسوة يوسف عمن سواه..فأين جمال الخلق من جمال الخالق المستجمع لكل صفات الجلال والكمال ؟!..إن الاعتقاد بهذه الدرجات العليا من السمو الروحي، يوجب ( ارتفاع ) همّـة العبد، وإن كان يائسا - فعلا - من الوصول إلى شيء من تلك الدرجات، لنقصٍ في المقتضيات أو وجودٍ للموانع.

الهوة بين المادة والمعنى
إن هذه الهوة العميقة القائمة بين عالم المادة والمعنى، يجعل الجمع بينهما من أصعب الأمور..فإذا توجّه العبد إلى أحدهما غاب الآخر عن قلبه، ومن هنا عُـبّر عنهما ( بالضرتين ) بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كما ورد في الخبر: "مَـَثل الدنيا والآخرة كمثل رجل له ضرتان، إن أرضى إحداهما أسخطت الأخرى"البحار-ج73ص120..وهذه هي الأزمة الكبرى للسائرين في أول طريق العبودية، بل إن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اشتكوا أيضا من تبدل حالاتهم بالقول: "إذا دخلنا هذه البيوت، وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل والمال، يكاد أن نحول عن الحال التي كنا عليها عندك، فأجابهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):لو أنكم تدومون على الحال التي تكونون عليها، وانتم عندي في الحال التي وصفتم أنفسكم بها، لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء"البحار-ج70ص56..والحل الجامع لهذه المفارقة أن ( يتجلّى ) الحضور الإلهي عند العبد إلى درجة قريبة من حضور المحسوسات عنده، ثم ( تنمية ) هذا الحضور أكثر فأكثر، إلى مرحلة ( اندكاك ) حضور المحسوسات لديه في ذلك الحضور المقدس..فيؤول الأمر إلى أن لا يرى إلا لونا واحدا في عالم الوجود، فيكون كمن مسح لونا باهتا بآخر فاقعٍ، فلا يكون البريق الخاطف للأنظار إلا للثاني الناسخ لما قبله..وهذه هي الحالة التي يعكسها مضمون ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "ما رأيت شيئا، إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه".

دعوة العبد بالأذان
إن نداء المؤذن للصلاة دعوة صريحة ومؤكدة من الحق ( للمثول ) بين يديه، وذلك بالنظر إلى تكرر الفقرات في الأذان، أضف إلى استعمال كلمة ( حيّ ) المشعرة بالتعجيل..وعليه فعدم ( الاستجابة ) للنداء مع الفراغ من الموانع، يُعدّ نوع عدم اكتراث بدعوة الحق الغني عن العباد..ولاشك أن تكرّر هذه الحالة من الإعراض، يعرّض العبد لعقوبة المدبرين - ولو من غير قصد - كمعيشة الضنك التي قد تشمل مثل هذا المعرض عن الذكر..وقد قال الحق تعالى: "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا".

وجل الطائعين
إن من الملفت حقا ذكر الحق لحالة ( الوَجَل ) التي يعيشها المنفق، إذ يقول سبحانه: "والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة"..و ( الخوف ) الذي يعيشه الموفي بنذره، فيقول عز وجل: "يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا"، والحال أن حال الطاعة من الانفاق والوفاء بالنذر، يناسبه الرجاء والارتياح..والسبب في ذلك قد يفهم من ذيل الآية الأولى: {أنهم إلى ربهم راجعون}، إذ أن رجوعهم إلى الحق يعني المساءلة التي لو عمل فيها بمقتضى - العدل لا الفضل - لرُدّ العمل إلى صاحبه، إما ( لخلل ) في حلية المال المُنفق، أو ( لصرفه ) في غير موضعه، أو ( لإبطاله ) بالمنّ والأذى، أو ( لصرف ) ثواب الإنفاق في مصالحة حقوق العباد، وقس عليه باقي موارد الطاعة.

الطموح في الدرجات العالية
إن من الطموح المحمود أن يطلب العبد الدرجات ( العليا ) في العبودية التي يتفضل بها الرب المتعال على عبده، غير الدرجات ( العادية ) المتمثلة بامتثال الأوامر والنواهي..ومن أمثلة ذلك ما ورد في دعاء كميل: "واجعلني من احسن عبيدك نصيبا عندك، وأقربهم منزلة منك، وأخصهم زلفة لديك"، ثم يعقّب ذلك بقوله: "فإنه لا ينال ذلك إلا بفضلك"، وكأنه دفعٌ للاستغراب من طلب هذه المقامات التي لا تمنح إلا للأوحديّ من العباد..و لو لم يمنح الحق هذه الرتب ( العالية ) للعبد - لعدم وجود ما يوجب هذا اللطف - فإن المرتبة ( النازلة ) من ذلك سيكون عظيما، يستحق معه الطلب الأكيد وإن طال المدى..ومن هنا تتجلى أهمية الدعاء في استجلاب العطاءات الكبرى التي ليست في الحسبان، لأنها من الرازق بغير حساب.

الرزق الأعم
ورد في دعاء يوم المباهله: "وأسألك من رزقك بأعمه"..فالرزق المذكور - في سياق بعض الآيات والروايات - ليس محصورا بنوع خاص من الرزق المتبادر في أذهان العامة والمتمثل ( بالمال )، بل هو رزق عام كما في الدعاء المذكور يشمل: المال، والعافية، والعلم النافع، والولد الصالح، والصدقة الجارية، وغير ذلك مما يسترزقه العبد، وقد يجمعها تعالى لأقوام أراد بهم اللطف الأعم، والرزق الأشمل.

قواعد القبض والبسط
إن القبض والبسط من الحالات المتواردة على قلب العبد، ولهما بعض القواعد التي يحسن الالتفات إليها: فمن ذلك أن القبض والبسط ( بـيد ) القابض والباسط يجريهـما على قلب عبده بمقتضى حكمته الغالبة..ومنها إنه لا يمكن إطلاق القول بأن الإقبال خير من الإدبار، لأن بالثاني يدفع حالة ( العُجْب ) المهلكة، فإن أنـين المذنبين قد يكون أحب إليه من تسبيح المسبحين..ومنها أن الإدبار قد يجتمع مع قرب منـزلة العبد من ربه حتى في حالة الإدبار، فيُعطى الرتبـة ( التقديرية ) من دون تحسيس له بذلك، لمصلحة يراها الرب الحكيم..ومنها أن القبض يعـارض ( هوى ) النفس، وفي ذلك تكـفير لسيئاته وخاصة مع تأذي صاحبه من طول فترة الإدبـار..ومنها أن القبض والبسط من حالات العـبد وخصوصياته، فلا ينبغي أن يشغل نفسه ( بما يخصه ) عما ( يخص الحق ) وهو القيام بوظائف العبودية..ومن مجموع ما ذكر يعلم أن على العبد أن يقوم مقام العبد، سواء أورث ذلك إقبالا أو إدبارا، إذ ليس الإقبال بغية مستقلة للعبد، وإلا صارت عبادته طلباً للحظوظ النفسانية التي تخل بالإخلاص عند الدقة والتأمل..وليعلم أخيرا أن هنالك بعض الذنوب الموجبة للقبض، بل بعض المباحات المعبر عنها بمثيرات الهموم، التي نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن استعمالها كما ورد في: البحارج76-ص232.

فتح الشهية قبل الإطعام
إن عمل المبلغ في هداية الخلق يتمثل أولاً في ( فتح ) شهيّتهم لتقبّل الهدى الإلهي، وإقناعهم بضرورة الإصغاء لما يتلى عليهم من آيات الله تعالى..فما فائدة تقديم الطعام لمن لا يرغب فيه، إما لعدم ( ميله ) إلى ذلك الطعام، أو لعدم ( إحساسه ) بالجوع أصلاً ؟!..ومن هنا جَعَل الحق تأثير إنذار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - بما أوتي من مدد الهي وخلق عظيم - منوطاً بالإتباع والخشية، فقال: "إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب"..فمن ليس في مقام ( الإتباع ) - وهو الرغبة في سلوك طريق الحق - كيف يتحقق منه السلوك عملا ؟.

ارتباط الأبدان بالقلوب
إن هناك ارتباطا واضحا بين عالم الأبدان والأرواح، والدليل على ذلك في عالم ( التكوين )، حمرة الخجل وصفرة الوجل كما يمثل في محله..والأمر كذلك في عالم ( التشريع )، فإن للمحرمات والمكروهات والواجبات والمستحبات المرتبطة بالأبدان - ككيفية الأكل والنوم والمعاشرة الزوجية وغير ذلك - آثارها البالغة في السلوك الروحي..وقد ربطت الروايات المختلفة مثلا بين السلوك ( الروحي ) والأكل، في مثل ما روي محذرا: "إياكم وفضول المطعم، فإنه يسم القلب بالفضلة، ويبطئ بالجوارح عن الطاعة، ويصمّ الهمم عن سماع الموعظة"البحار-ج72ص199..أو"فإنه أصلح لمعدتك وبدنك، وأزكى لعقلك"أو"من إقتصد في أكله كثرت صحته، وصلحت فكرته"..أو ( كالطهارة ) الروحية والاغسال الواجبة، إذ مُـنع المجنب من بعض الصور العبادية، ولعله لأجل الحـزازة التي لا ترتفع إلا بالاغتسال.

هذا عطاؤنا فأمنن أو أمسك
إن من الممكن القول أن الأئمة (عليه السلام) يشتركون مع سليمان (عليه السلام) في هذه المقولة: "هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب"..( فالملك ) المعنوي - الذي لا ينبغي لأحد من بعدهم - ( عطاء ) من الحق بغير حساب، فإمساكهم للعطاء أو بذله لا يؤثر في ملكه تعالى..وعليه فما المانع في سياق هذا العطاء من إعمال الشفاعة في ( أقصى ) درجاتها الممكنة، في ( أدنى ) القابليات الموجودة في العصاة من المخلوقين ؟..وقد ورد عن الباقر (عليه السلام) أن أرجى آية في القرآن قوله تعالى: "ولسوف يعطيك ربك فترضى"..ثم قال: الشفاعة، والله الشفاعة، والله الشفاعة..وقد فسر الصادق (عليه السلام) رضا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية نفسها بقوله: "رضا جدي أن لا يبقى في النار موحد"نور الثقلين-ج5ص594.

التنـزل إلى عالم الغافلين
إن للغافلين عن الحق عوالمَ خاصة، لا ينبغي التنـزل إليها من قِبَـل الذاكرين لله تعالى..فإن عوالمهم شبيهة جدا بعالم الطفولة، فتراهم يأنسون بما يعترفون أنه لعب فيذهبون إلى ( الملعب )، وبما يعترفون أنه لهو فيذهبون إلى ( الملهى )..فأداة اللهو لديهم يكبر حجماً قياسا إلى ما يلهو به الطفل، وطريقة اللعب تبدو اكثر جدية قياسا إلى الطريقة الساذجة التي يلعب بها الطفل..والتنـزل إلى عوالمهم يكون إما ( بالأنس ) بهم مطلقا، أو ( بالمشاركة ) في لهوهم ولعبهم..وهناك سبيل آخر للتنـزل يتمثل في ( الغضب ) والدخول في الخصومة معهم، تجعل صاحبها يتعامل - شاء أم أبى - بأسلوب تخاصم الغافلين..وقد ورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال: "ما تسابّ اثنان إلا انحط الأعلى إلى مرتبة الأسفل"البحار-ج78ص335.

مودة ذوي القربى
عندما يراجع المتأمل آيات أجر الرسالة، يلاحظ أنها مذيلة بأمور ثلاثة..الأول: أن أجر الرسالة يتمثل بمودة ذوي القربى لقوله تعالى: "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى"، الثاني:أن ثمرة أجر الرسالة إنما تعود للمرسل إليهم لقوله تعالى: "ما سألتكم من أجر فهو لكم"، الثالث:أن سؤال الأجر إنما هو ممن يريد اتخاذ السبيل إلى الله تعالى لقوله تعالى: "ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا"..فيستفاد من مجموع ذلك: أن مودّة ذوي القربى بدرجة من الأهمية جُعلت ( أجرًا ) للرسالة، وذلك لأنها مقدمة لفهم الرسالة وللعمل بها، وأن الفائدة - بذلك - إنما ( تعود ) إلى أهل المودة، وأن ذوي القربى هم ( السبيل ) إليه تعالى.

الحركة ثم البركة
إن الحق أمر مريم (عليه السلام) بهزّ جذع النخلة ليتساقط عليها الرطب الجنيّ..ومن ذلك يُعلم أنه لابد للعبد من ( الحركة ) ليتحقق من الحق ( البركة )..فرغم أن مريم (عليه السلام) كانت في ضيافة الحق ورعايته - مع ما فيها من عوارض الحمل والوضع - إلا أنها مأمورة أيضا ببذل ما في وسعها، وإن كان بمقدار هز الجذع على سهولته.

الحقيقتان المتمايزتان
عندما يترقى العبد في سلم التكامل، يصل إلى درجة لا يرى في الوجود إلا حقيقتين متمايزتين وهو وجود ( الحق ) وما يرتبط به، ووجود ( الأغيار ) وما يتعلق بهم..وكل ما سوى الحق له لون واحد متسم بالبطلان، وإن لم يكن كذلك في النـظر القاصر، إذ أن كل شيء ما خلا الله باطل، وهي الحقيقة التي توصل إليها من كان في الجاهلية، واستحسنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منه إذ قال: "وإنها اصدق كلمة قالته العرب"البحارج7ص294..فمثلا الالتفات إلى ( الـذات ) وإلى ملكاتهـا الفاضلة، وإلى ( العبادات ) الصادرة منها، يُـعدّ التفاتا إلى ما سوى الملك الحق المبين، شأنه في ذلك شأن الالتفات إلى باقي أفراد المتاع الباطل، إذ أن كل ما ذكر من الأغيار، أفراد لحقيقة واحدة، في مقابل الحق المتعال..فالالتفات إلى غير الحق له أثر واحد ثابت، ويترتب عليه أثر الإعراض عن الحق بدرجة من درجات الإعراض عن الحق، وإن كان المُلتَفَت إليه حسنا في حد نفسه، كالصالحات من الأعمال والزاكيات من الأفعال.

وجدان حالة العبودية
إن من أعظم رتب العبودية، أن يجد الإنسان نفسه عبدا لله تعالى - بكل ما تحمله كلمة العبودية من معنى - كإحساسه بباقي صفاته الوجدانية كالأبوة والزوجية وغيرها..وهذه حالة وجدانية لا نظرية، قد لا تعتري حتى المعتقد ( بعبوديته ) للحق طوال حياته مرة واحدة..فإذا كان العبيد بين يدي الخلق لهم إحساس باطني متميز عن الأحرار - هو الذي يحركهم للقيام بوظائف العبودية تجاه مواليهم - فكيف إذا أحس العبد بهذا الشعور، بالنسبة إلى من الوجود ( منه وبه وله وإليه ) ؟!..عندئذ يتحول وجوده إلى وجود متعبد بين يدي الحق بظاهره وباطنه، تعكسه هذه الفقرة من الطلب في دعاء كميل: "اللهم اجعل لساني بذكرك لهجا، وقلبي بحبك متيّما".

الإحتفاف بالشهوات والشبهات
كما أن عالم القلب محفوف ( بالشهوات ) التي تخيّم على القلب فتسلبه إرادته، فكذلك عالم الفكر محفوف ( بالشبهات ) التي تحوم حول الفكر فتسلبه بصيرته..وللشيطان دور في العالمين معاً، فيزيّن الشهوات للقلب بمقتضى ما ورد في قوله تعالى: "لأزينن لهم في الأرض"، كما يزين زخرف القول للفكر بمقتضى قوله تعالى: "يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا"..ولا يبعد أن تكون بعض المذاهب الفكرية التي حّرفت أجيالا بشرية على مر العصور كالشيوعية مثلاً، وليدة مثل هذا الإيحاء الشيطاني لقادة هذه الأفكار الباطلة، بل لأتباعهم المتفانين في نصرة تلك المذاهب..والقرآن الكريم يشير إلى حقيقة هذا الإيحاء عند مجادلة المؤمنين بقوله: "وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم"..وإلا فكيف نفسر ( نشوء ) مذاهب بمبادئها وقادتها وأنصارها واستمرارها قرونا طوالا، وكأن هناك يداً ( واحدة ) هي المسيطرة على مجرى الأحداث ؟!..ومن هنا يعلم أيضاً ضرورة الاستعاذة الجادة بالحق، سواء في مجال دفع الشهوات عن القلب، أو دفع الشبهات عن الفكر، لئلا يتحول العبد ياتباع خطوات الشياطين، إلى إمام من الأئمة الذين يدعون إلى النار.

التفاعل الموجب للحزن
كثيرا ما تتفاعل أنفسنا مع بعض الذكريات المحزّنة، أو الخواطر المشوّشة، وبالتالي نوقع أنفسنا ( باختيارنا ) في دائرة التوتر والقلق..فعلى العاقل أن يضع جهاز مراقبة في نفسه، لمنع توارد مثل هذه الخواطر المقلقة، أو بالأحرى منع استقرارها في النفس..فإن الخواطر قد تتوارد على القلب من دون اختيار، وليس في ذلك ضير - وخاصة في أول الطريق - بل البأس كل البأس في التفاعل مع ( الهاجس ) على أنه حقيقة، ومع ( المستقبل ) على أنه حاضر، ومع ( الموهوم ) على أنه متيقن.

اجتياز المشاعر الباطلة
إن العبد قد يعيش بعض المشاعر الباطلة في نفسه كالحسد والحقد وغير ذلك، فيوجب له ( اليأس ) والتذمر لما آل إليه أمره، ( فيترك ) بسبب ذلك السير التكاملي نحو الحق، والحال أن مثل تلك المشاعر قد ( تتوارد ) على النفس وتتجول في جنباتها من دون استقرار وثبات، فيكون مثلها كمثل الأجنبية التي ترد الدار من دون أن تستقر أو تتفاعل مع صاحبها، فلا يذم صاحب الدار على مجرد هذا الاجتياز، الذي لم يستتبع أية صورة من صور الفساد.

تمني الخلاص
إن الذي ( يتمنىّ ) الحياة خارج السجن، لابد وأن ( يعمل ) ما يوجب له الخروج من السجن..فإن مجرد ( معرفته ) بما هو فيه لا توجب له ( الخلاص )، وإن كانت هذه المعرفة - في حد ذاتها - من معدات الخلاص، وهذا خلافا للجاهل بحقيقة مسجونيته، وذلك كمن يولد في السجن، فلا يكاد يصدق بمكان أرحب منه..وعليه فإن المؤمن العالم بحقيقة الدنيا وضيقها، يسعى جاهدا للخروج منها بروحه، وإن بقي فيها ببدنه، مصداقا لقوله (عليه السلام): "صحبوا الدنيا بأبدان، أرواحها معلقة بالمحل الأعلى"..ومن المعلوم أن هذا الإحساس يجعل صاحبه يعيش عوالم رحبة وإن ضاقت به الأرض، إذ كيف تضيق الأرض بمن يعيش بروحه في الملأ الأعلى ؟!..ومن هنا يعلم أيضاً السر في أن المؤمن لا تنتابه حالات الانهيار التي تصيب أهل اللذائذ، وإن كان في أشق الظروف وأمرّها.

روح العبادة
إن روح العبادة هي ( الالتفات ) إلى الغير بشتى صور الالتفات، وإن لم نعتقد ( ربوبية ) الملتَفَت إليه، ومن هنا أعتبر الإصغاء للناطق كالعابد له، لأنه في مظان الطاعة له لاحقاً، فإن روح العبادة هي الطاعة قوة أو فعلاً..وقد حذّر القرآن الكريم من الشرك بكل صوره وأشكاله، واعتبر الهوى إلها متخذا من دون الله تعالى، وذلك لالتفات العبد إلى هواه وطاعته له..وإلا فَمَن الذي يعبد الهوى بالمعنى الظاهري للعبادة كعبادة الأوثان والأصنام ؟!..وبناء على ما ذكر فما القيمة الكبرى لعبادة من ( نعتقد ) بربوبيته، مع عدم ( الالتفات ) إليه لا إجمالاً ولا تفصيلاً ؟!..وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "أما يخاف الذي يحوّل وجهه في الصلاة، أن يحوّل الله وجهه وجه حمار"البحار-ج75ص468..فإذا كان تحويل الوجه الظاهري عن المولى في معرض هذه العقوبة القاسية، فكيف بتحويل الباطن عنه ؟!.

الإحساس بالتقصير العظيم
إن من الضروري الإحساس - ولو بين فترة وأخرى - بالتقصير العظيم في حق المولى الكريم، كما يشير إليه تعالى بقوله: "وما قدروا الله حق قدره"..فكل لحظة يلهو فيها العبد عن ذكر ربه، لهي لحظة سوء أدب بين يديه، إذ كيف ( يلهو ) العبد والله تعالى ( مراقبه )، أم كيف ( يسهو ) وهو ( ذاكره ) ؟!..فلو ترادفت لحظات الغفلة في حياة العبد - كما هو الغالب - لوجب أن يتعاظم شعوره بالتقصير، ويشتد حياؤه منه.

تقديم القربان
تتوقف ( حيازة ) بعض درجات القرب العالية من الحق، على ( تقديم ) قربان يتمثل في شيء من الخوف والجوع، ونقص في الأموال والأنفس والثمرات..فالعبد - الذي تولى الحق تربيته - يجد في نفسه حالة من التكامل والرقي بعد كل وجبة بلاء، تزول محنته ويبقى أثره، وهذا ما نلحظه في حياة الأنبياء (عليه السلام)، فلكل نبي بلاء مختص به: كأيوب وإبراهيم ويعقوب (عليهم السلام )..وتصل قمة البلاء في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أوذي بما لم يؤذ أحد قبله، كما تتمثل قمة العطاء في تقديم القربان - عن طواعية واختيار - كما كان الأمر كذلك في سيد الشهداء (عليه السلام)..وعليه فإن على المؤمن السالك إلى الحق، أن يستعد لصنوف البلاء، أسوة بمن مضى قبله ممن هم أفضل منه، ولو كان الإعفاء من البلاء لطفا، لكان الأنبياء أولى بهذا اللطف.

الطُّعم لصيد أكبر
إن من الضروري أن نعلم أن بعض المحرمات - على بساطتها - بمثابة طعم لصيد أكبر..فالسمكة الكبيرة تصطاد بدودة صغيرة، والعبد قد يدخل السجن الكبير من الباب الصغير..فالنظرة المحرمة إلى المرأة وأشباه ذلك من الذنوب التي نستصغرها، بمثابة الدودة الصغيرة التي توقع آكله في الشباك، فينتقل من بيئته الآمنة، إلى حيث الهلاك الذي لا نجاة منه..ومن هنا عُـبّر عن بعض الذنوب أنه سهم من سهام إبليس، وما السهم إلا عود دقيق يوجب الهلاك العظيم.

حجب النور
وردت في بعض الأدعية عبارة حجب النوركما في المناجاة الشعبانية..فكيف يكون النور حجابا وبالنور تكشف الحجب ؟!..والجواب عن ذلك هو أن التأمل في ( النور ) قد يشغل الإنسان عن ( منوّر النور )..والحال أن النور ليس إلا أثرا من آثار المنور، كما ورد في ذيل دعاء عرفة فإن"التردد في الآثار يوجب بعد المزار"..فالمطلوب من العبد هو التفاعل مع النور بمقدار ما يوصله إلى منوّر النور، لا ( الوقوف ) عند النور والانشغال ببريقه، وإن كان هو خيرا من الظلمة..هذا إذا كانت الإضافة بيانية كما هو الظاهر في أحاديث الإسراء، وأما لو كانت لامية فإن في ذلك إشارة إلى ما يحجب عن النور من موجبات الظلمة.

الضيافة في العبادة
إن هناك وجهُ شبهٍ أكيدٍ بين الحج والجهاد والصيام..فالعبد في تلك المواسم الثلاث، في حال عبادة ( مستمرة ) وممتدة، خلافا لعبادات أخرى واقعة في ( برهة ) من الزمان كالصلاة والزكاة..ومن هنا كان العبد في ضيافة المولى في الحالات المذكورة كلها وبامتداد أوقاتها، وتبعاً لذلك كان مأجورا في كل تقلباته، كالأكل والنوم حتى النَفَس الذي ورد أنه تسبيح حال الصيام..فالكريم كل الكريم هو الذي يكرم ضيفه في كل أوقاته، بالضيافة اللائقة بذلك الوقت.

تكريم حجر وتقديس حجة
إن الطواف حول البيت، فيه تكريم لأحجار منتسبة إلى الحق المتعال، وكل ( تقديس ) بأمره فهو طاعة له يترتب عليه الأجر العظيم..وزيارة قبور المعصومين (عليه السلام) فيها تقديس لحجج منتسبة إلى الحق..وشتان بين تكريم ( حجر ) و تقديس ( حجة )، كالبون الشاسع بين كتاب للهٍ صامتٍ وآخرَ ناطق..ولعله من أجل ذلك، دلّت الروايات على أن الحق ينظر يوم عرفة إلى زوار قبر الحسين (عليه السلام)، قبل النظر إلى زوار بيته الحرام.

الوجل بعد الذكر
إن وَجَل القلب عند ذكر الحق لا يلازم ( الخوف ) والرهبة فحسب، بل قد يقترن ( بالإجلال ) والتعظيم وخاصة بعد الغفلة، ولهذا وقع بعد الذكر الرافع لتلك الغفلة..مَثَل ذلك مَثَل من كان في ضيافة عظيم تشاغل عنه الضيف، وفجأة أطلّ ذلك العظيم عليه - وهو في غفلة عنه - فإن شعوراً بالوجل سينتاب الضيف، لا لخوفه منه - إذ هو آمن من سخطه في ضيافته - بل لأجل التقصير في إجلاله وتعظيمه..فالعبد قد يعيش حالة رتيبة من الغفلة، يقطعها الذكر ( المفاجئ ) عند تلاوة آياته، فينقلب إلى عبد وَجِل، مصداقا لقوله تعالى: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم".

التفاعل غير المجاورة
إن التفاعل الروحي مع الفعل ( كالدعاء ) أو المكان ( كالمسجد ) أو الزمان ( كشهر ) رمضان أو الحالة ( كالحج )، يحتاج إلى نوع امتزاج واندماج مع ما ينبغي التفاعل معه، كتفاعل سائلين في قارورتين إذا صبتا في قارورة واحدة..أما مجرد مجاورة قارورة لأخرى، لا يكفي لإحداث مثل هذا التفاعل..والذي يحصل مع عامة الخلق هو الحالة الثانية، فإنهم يجاورون الطاعات مجاورةً لا تفاعلاً، فتراه في جوف الكعبة ببدنه وكأنه في عقر داره بقلبه..فمَثَله كمَثَل من وضع قارورة داخلَ أخرى، بمالا يستتبع أي تفاعل أو اندماج، وإن تمت المجاورة الموهمة للتفاعل الكاذب.

نعيم الآخرة في الدنيا
إن من أهم صور النعيم في الآخرة هو ما يصفه القرآن بقوله: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة"..وذلك نظرا لما يلازمه من أنواع ( التجلّيات ) الجلالية والكمالية، و( كشف ) الحجب، وبذل ( الألطاف ) الخاصة..وليعلم أن حقيقة النظر إلى الحق المتعال، أمرٌ لا تستوعبها النفوس الساذجة، وذلك لأنها تحتاج إلى بلوغ روحي خاص قلّ من يصل إليه..وعليه فلو أمكن للعبد أن يصل إلى هذه المرحلة من التلذذ بالنظر إلى الرب المتعال - وهو في الحياة الدنيا - فإنه يحوز على ألذ متع الآخرة، قبل أن ينتقل إليها، إذ أن جوهر الجنة مرتبة الرضوان وما يستلزمه من الدرجات، وما دام العبد واجداً للجوهر، فلا ضير من تأخر العوارض الأخرى إلى أجل معلوم..فهو في حالة التذاذ دائم - دنياً وبرزخاً وعقبًى - وإن اختلفت درجة الالتذاذ بحسب المرحلة التي هو فيها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

بلاء عالم التفكير
إن الإبتلاءات التي تعرض للمؤمن في عالم الذهن والتفكير لمن ( أعظم ) أنواع البلاء، وذلك لشدة حاجته إلى صفاء في ذهنه، ليتفرّغ للتفكير فيما يعنيه من أمر آخرته ودنياه..فإذا ( كدّر ) الفكر شيء من مكدرات الأذهان: كالوسوسة، والتفكير القهري، والتوجس من الأوهام، والقلق من المجهول، ( افتقد ) العبد سيطرته على النفس المتلاطمة بأمواج ما ذكر..وهذا بخلاف الإبتلاءات المتعلقة بعالم الأبدان - كالمرض والفقر - فإنها قد لا تشوّش العبد المراقب لقلبه، وذلك لأن البلاء متوجه ( للبدن ) ومراقبة الحق إنما هو ( بالقلب )..فمثل ذلك كالبصر السليم في البدن السقيم، وسقم البدن لا يمنع الإبصار مع سلامة البصر.

العبادة في الراحة
قد يستفاد من قوله تعالى: "فلما تولى إلى الظل قال رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير"، أن الراحة و ( هدوء ) البال - حال الدعاء - لمن دواعي التوجه في الدعاء..فإن موسى (عليه السلام) آثر الدعاء في الظل تحت الشجرة - كما في الحديث - حيث التخلص من حرارة الشمس، أو زحمة الخلق، أو غير ذلك من المقارنات..فلا ضير على المؤمن في مثل الحج أو غيره، أن يريح نفسه من بعض ( المشاق ) المانعة له من التوجه إلى الحق المتعال، ولهذا لم يرجُح الصيام لمن يُضعفه عن الدعاء في يوم عرفة..ومن ذلك يفهم ضرورة ترتيب سلم الأولويات في الواجبات والمستحبات معاً، لئلا يبطل المهم أثر الأهم..ومعرفة هذا الترتيب تتوقف على قابلية الاستلهام، الرافع للإبهام في كل مراحل السير إلى الحق المتعال.

الرزق المادي والمعنوي
كما أن الأرزاق ( المادية ) بيد الحق يصرّفها كيفما شاء وأينما أراد، فكذلك الأرزاق ( المعنوية ) المتمثلة بميل القلوب إلى الخير ونفورها من الشر، من الهبات الإلهية العظمى التي يختص بها من يشاء من عباده..والعبد المرزوق هو الذي وهب الثاني وإن حرم الأول، إذ به يحقق الهدف من الخلقة وهو عبودية الواحد القهار..وقد أشار الحق للرزقين معاً في قوله تعالى: "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات"، مقدما هويّ القلوب وهو الرزق المعنوي، على رزق الثمرات وهو الرزق المادي..ومن الملفت أن هذا الرزق المعنوي الخاص الذي طلبه إبراهيم الخليل (عليه السلام)، قد ( شمل ) الكثيرين ببركة دعوته، وهو ما يتجلى لنا في توجُّه الخلق بشتى صنوفهم - من الطائعين والعاصين - إلى بيته الحرام منذ زمانه إلى يومنا هذا..وكأن هناك من يتصرف في قلوبهم، فتجعلها تهوي إليه ولو من شقة بعيدة.

علاج الشرود الذهني
يقول الشهيد الثاني في أسرار الصلاة لعلاج ( الشرود الذهني ): لكن الضعيف لا بد أن يتفرق فكره بقليل ما يسمع أو يرى..فعلاجه قطع هذه الأسباب بأن يغض بصره، أو يصلي في بيت مظلم، أو لا يترك بين يديه ما يشغل حسه، أو يقرب من حائط عند صلاته حتى لا تتسع مسافة بصره، ويحترز من الصلاة على الشوارع، وفي المواضع المنقوشة المصنوعة، وعلى الفرش المزينة..ولذلك كان المتعبدون يتعبدون في بيت صغير مظلم، سعته بمقدار ما تمكن الصلاة فيه، ليكون ذلك أجمع للهمّ.

أثر التحليق الروحي
إن من ( آثار ) التحليق الروحي - عند تحققه - هو أن يرى ( صغر ) ما دون الحق في عينه..فمَثَله كمثل الطير الذي حلّـق في أجواء عليا، فيرى كل عناصر الأرض وهي أصغر بكثير من حجمها وهو ينظر إليها عندما يدبّ على الأرض..وعليه فإن صِغَـر الدنيا في عين صاحبها، ( علامة ) صادقة لتحليق روح صاحبها في أجوائه العليا، وأما الذي يدعي التحليق، أو يتوهّم حصول مثل هذه الحالة في نفسه - وهو مُعجب بشيء من المتاع - فليعلم أنه قد ضلّ سعيه، وغلب عليه وهَـمُه، ولا زال متثاقلاً إلى الأرض لا محلّـقاً في السماء.

حقيقة الخلوة والاعتزال
إن حقيقة الخلوة والاعتزال ليست ( بالهجرة ) من المكان، أو ( الهجران ) للخلق، بل الخلوة بالحق تتحقق بترك الأغيار طرًّا حتى النفس، والتي هي من أكبر الأغيار..فالمشغول برغبات نفسه - حتى في جلب المنافع الباقية لها - غافل عن الحق، فضلا عن تحقيق الخلوة معه، ولو تحققت منه هذه الخلوة الحقيقية في العمر مرة واحدة، لأحدث قفزة كبرى في الطريق، جابرا بذلك تخلفه عن ركب السائرين إليه..ومن أفضل مواضع الخلوة هذه، هو السجود الذي يمثّل الذروة في ترك الأغيار ( حساً ) إذ لايرى أحدا في حالة السجود، ( ومعنىً ) لأنه أقرب ما يكون إلى ربه..وهذه هي الحركة التي اختارها الحق المتعال، عندما أمر الملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام) في بدء الخلق البشري، ومنها انشقت مسيرة السعادة والشقاء.

إنكار المقامات الروحية
إن من الخطأ بمكان أن ينكر الإنسان المقامات الروحية العالية، التي يمكن أن يصل إليها العبد بتسديد من ربه..هذا ( الإنكار ) لو اقترن أيضا باستصغار قدر أهل المعرفة، قد ( يعرّض ) العبد لسخط المولى الجليل، وبالتالي ( حجبه ) عن الدرجات التي كان من الممكن أن يصل إليها، لولا ما صدر منه من سوء الأدب بحق أولياء الحق، لأن الاستخفاف بأولياء الحق يعود إلى الحق نفسه، لأنهم من شؤونه.

الخير الكثير
أطلق الحق تعالى وصف الخير الكثير، على الحكمة التي أعطيت للقمان الحكيم..وهي تحتاج إلى قلب ( مطهّر ) من الدنس، لتتلقى تلك الجوهرة القيّمة، إذ من الحكمة أيضا لحاظ السنخية بين الظرف والمظروف، فإن المظروف المطهّر لا يستقر إلا في الظروف الطاهرة..ومن الموانع لتلقي هذه الحكمة: الشرك في العمل، وعدم العمل بما يقتضيه العلم، وتوارد الخواطر والأوهام بكثافة في النفس بما يفقدها السلامة والاستقرار، فتكون مرتعا ( للشياطين ) المانعة من إلهامات ( الملائكة ) الموكلة بذلك..ومجمل القول أن على العبد أن يعمل بما يوجب اختيار الحق له أهلاً لتلّقي حكمته، فيُمنح مثل هذه الهبات العظمى، وقد ورد في الخبر: "وإن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده، شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهم العلم إلهاماً"البحار-ج25ص127.

الحذر من زوال النعم
ينبغي التأمل في مضمون الدعاء الوارد: "اللهم ارزقني عقلا كاملا، وعزماً ثاقبا، ولبا راجحا، وقلبا زكيا، وعلما كثيرا، وأدباً بارعاً، واجعل ذلك كله لي، ولا تجعله عليّ"البحار-ج87ص325..ففيه تحذير بأن هذه النعم - على جلالتها - ليست في صالح العبد دائما، وذلك نظرا إلى: ( إمكان ) سلبها فتكون الحجة على العبد أبلغ، أو( تعريض ) صاحبها للعجب والغرور، أو عدم ( شكر ) تلك النعم بما يناسبها، أو ( استعمال ) ذلك فيما من شأنه أن يبعده عن ربه..وغير ذلك من آفات النعم التي ينبغي أن يحسن جوارها، إذ أنها وحشية تنسل عند الغفلة عنها.

الاختبار الدقيق للقلب
إن من الاختبارات الدقيقة للقلب، هو إرساله في ما يهواه من دون تكلف، ليعلم ( محطات ) هبوطه..( فاختيار ) القلب لمواقع الهوى الذي يلائمه، هو الذي ( يعكس ) توجّه القلب، ومستوى ارتفاعه أو انحطاطه، وإن بلغ صاحبه من العلم النظري ما بلغ..فالقلب المـُغرم بالشهوات - عند إرساله من دون تدخل العقل في إقناعه بخلاف ميله - لهو قلب بعيد عن مدارج الكمال، لأن هذا الانتخاب التلقائي للقلب يدل على قبلته الطبيعية، وهي التي تحدد تلقائيا مسار العمل بالجوارح، وإن تكلف صاحبها خلاف ذلك..ولو ترك القلب على رسله فيما يهوى ويكره، لقاد بالعبد إلى الهاوية، فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق.

ظلم من لا ناصر له
إن من أسباب الإرباك الشديد والمفاجئ في حياة بعضهم، هو ( ظلمهم ) لمن هو دونهم، وعلى الأخص الذين لاناصر لهم إلا الله تعالى..بل إن من صور البلاء هو الابتلاء بضعفاء الخلق، فكما أنهم ( آلـة ) للتسخير والاستثمار وقضاء المآرب، فكذلك هم من موارد ( تحمّل ) الظلامة..فليكن الحذر من الجهة الثانية، غالباً على الركون إلى الجهة الأولى، لفناء المنافع في الأول وبقاء التبعات في الثاني.

المتعة بلا لذة الحس
كثيرا ما يجد الناس متعة كبرى في الجلوس مع من يهوون، وإن لم يتخلل ذلك أية لذة ( حسيّة ) من مأكل أو مشرب أو غير ذلك، كسكون الأم إلى ولدها بعد طول غياب، وكارتياح عشاق الهوى إلى بعضهم يصل إلى حد الجنون كما هو مدون في تاريخ الأمم المختلفة..فيا تُرى ما هو حال العبد الذي ترقّى في عالم العبودية بما جعله يأنس بمصاحبة الحق ؟!..ومن العجب أن ينكر المعتقدون بالحق لذة ( المصاحبة ) هذه، وهم يرون ما يشبه ذلك في حياة البشر مع بعضهم البعض كالنماذج التي ذكرناها أولاً، غافلين عن هذه الحقيقة الواضحة: وهي أنه لو تحققت اللذائذ النفسية في عالم ( الحس )، فكيف لا تتحقق في عالم ( المعنى ) مع أنها أوفق به لكونها من سنخه ؟!..إذ أن مجرد الارتياح والسكون إلى من يهواه القلب، لمن أعظم روافد التلذذ الذي يفوق حتى التلذذ الحسي..وقد ذكرنا آنفا لذة عشاق الهوى، بمجرد الجلوس المجرد من أية متعة أخرى.

الإحساس بالطرد
يصل العبد بعد مرحلة من ( تراكم ) الذنوب إلى مرحلة الإحساس بالطرد - ولو المرحلي - من ساحة قدسه، وعلامة ذلك ما ذكر في مناجاة الإمام السجاد (عليه السلام): من إلقاء النعاس عند الصلاة، وسلب المناجاة عند إرادة المناجاة، وإزالة القدم عن مجالس التوابين..فعلى العبد أن ( يستقصي ) أسباب ذلك بوسوسة وقلق شديدين..ويذكر الإمام (عليه السلام) في الدعاء نفسه بعض الأسباب: كالاستخفاف بحقه تعالى، والإعراض عنه، والدخول في مقام الكاذبين، وانتفاء الشكر، والفقدان من مجالس العلماء، والدخول مع الغافلين، والألفة مع البطّالين، وقلة الحياء من الحق.

الطمع في مودة القلوب
إن الذي يطلب توجّـه القلوب إليه - طمعا في مودة القلوب لا مقدمة لسوقها إلى الحق - ينازع المولى في أعزّ ممتلكاته..فما دام القلب ( حرم ) الحق وعرشه، فليس من الأدب أبدا أن يسعى العبد ( لاجتذاب ) أزمّـة القلوب، منافسةً للحق في سلطانه..فهذا نوع غصب وسرقة قد تكون أشد ضررا من سرقة الأموال وغصبها، إذ أنها تحـدّ فيما يختص به الجبار الذي لا يقوم لغضبه شئ في الأرض ولا في السماء.

معاملة الناطق
ينبغي معاملة بعض الأمور ( الصامتة ) ظاهرا معاملة الموجودات ( الناطقة ) واقعا، وكأنها حية تستشعر ما يقال لهـا..كما وردفي خطاب الإمام السجاد (عليه السلام) لشهر رمضان: "السلام عليك يا أكرم مصحوب"و"السلام عليك من أليف آنس مقبلا"وللهلال في كل شهر: "أيها الخلق المطيع الدائب"وكخطاب الكعبة: "الحمد لله الذي عظمك وشرفك وكرمك"..والقرآن الكريم مما ينبغي أيضا معاملته بهذه المعاملة أيضا، فيحدثّه العبد - إذا أحس بتقصير في تلاوته - معتذرا من عدم الوفاء بحقه، ليتجنب بذلك شكوى القرآن يوم القيامة، إذا كان في بيت تهمل فيه قراءته.

البلاء بعد التوفيق
ليتوقع العبد شيئا من البلاء بعد كل توفيق، كما يتوقع شيئا من التوفيق بعد كل بلاء، كموسم الحج، أو شهر رمضان، أو طاعة مقترنة بمجاهدة..والسر في هذا التعثر والسقوط الذي يعقب بعض التوفيق هو: إما ( غيظ ) الشياطين وإرادتهم الانتقام منه حسدا لبني آدم فبكيدون له المكائد بعد كل توفيق، أو ( إرادة ) الحق لاختبار صدق العبد في الوفاء بعهد العبودية..فإن العبد في تلك المواسم يعاهد ربه على أمور كثيرة ثم لا يجد المولى له عزماً، رغم كل النفحات التي أرسلها على عبده من دون استحقاق يذكر !!..وبذلك يدرك العبد أن ما طلبه من الحق في تلك الحالات، إنما هو مجرد أمانيّ لم يشفعها ( بالطلب ) حقيقة، فإن التمنّي حقيقة تغاير الطلب كما هو واضح.

الأمور العلمية المذهلة
إن الانشغال بالأمور العلمية الذي يوجب الذهول عن الحق، إنما هو ( حجاب ) للعبد وإن كان فيما يخص الحق كالعلوم المرتبطة بالدين..فمَثَل هذا العبد كمَثَل من وفد على السلطان، وانشغل بقراءة ما كتب عنه في مكتبته، تاركا الأنس به في ساعة لقائه..نعم لابأس بذلك في الساعات التي لم تخصص للقاء السلطان، أو لم يؤذن له بذلك، فيكون الوافد عليه ساعيا بين مكتبته وقاعة ضيافته، وهذه هي من أفضل برامج الاستزادة منه..ومن هنا عُلم أن أفضل ما يكون فيه العبد:إما ( عبادة ) بين يدي المولى، أو ( طلب ) علمٍ نافعٍ يقرّب إليه، أو ( قضاء ) حاجةِ من أمر المولى بصلته.

المحاكمة عند الفرح
ينبغي للمراقب أن يحاكم نفسه في ساعة ( الإنبساط ) التي لا يخلو منها أحد..فإذا كان ذلك ( لإقبال ) دنياً، أو ( تيسير ) شهوةٍ، فلا ينبغي الاسترسال في ذلك السرور، مصداقا لقوله تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".

انتهاء موسم القرب
يتأثر البعض كثيرا عند انتهاء موسم الضيافة الإلهية كشهر رمضان والحج، لإحساسهم بالخروج من دائرة الضيافة..والحال أن المقربين قد لا تشتدّ وحشتهم بتلك المثابة، لأنهم وإن خرجوا من دائرة ( الضيافة ( العامة )، إلا أنهم باقون في دائرة الضيافة ( الخاصة )، وذلك لوجود العلاقة المتميزة لهم مع الحق المتعال قبل موسم الضيافة وبعده..ولهذا ينادون ربهم في كل ليلة: "ولك في هذا الليل نفحات وجوائز وعطايا ومواهب، تمنّ بها على من تشاء من عبادك"..ومن هنا يُعلم حقيقةَ أن السالك إلى الحق، لا يتأثر سلوكه كثيرا بحسب الزمان والمكان، خلافا لعامة الخلق الذين يعيشون حالاتِ ( تذبذبٍ ) عاليةٍ، بحسب عوارض الزمان والمكان، بما يسوقهم إلى الخير تارة وإلى الشر تارة أخرى.

أشد أنواع العذاب
إن من أشد أنواع العذاب على المستأنس بألطاف الحق، هو( الإدبار ) القلبي، الذي طالما يعرض على قلب المؤمن، فيعيش عندها حقيقة الوحدة والوحشة التي تنتاب السجين عادة..هذا الإحساس يجعله يتحاشى بحذر شديد ( موجبات ) الإدبار، كالهارب من الحريق بعد اكتوائه بناره..كما يعيش السرور الذي لا يوصف عند خروجه من سجن المحجوبية عن الحق المتعال، ومن هنا يسعى مثل هذا العبد - جاهدا - في العمل بحذافير الشريعة بأحكامها الأربعة، لا طلبا للأجر فحسب، وإنما تحاشيا لما أسميناه بسجن ( المحجوبية ) عن الحق.


* الشيخ حبيب الكاظمي

2016-01-22