يتم التحميل...

تنمية الإيمان في نفس الطفل

تربية الأبناء

من واجبات الوالدين في القيام بالمهمة التربوية تنمية المشاعر الايمانية والخلقية في نفس الطفل. يجب على الآباء والأمهات المسلمين حسبما تصرّح به الأحاديث أن يربّوا اطفالهم على الإيمان، ويوقظوا فيهم فطرة عبادة الله بواسطة العبادات التمرينية...

عدد الزوار: 12

قال الله تعالى في كتابه العظيم: ﴿... الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ(آل عمران:17).

تنمية الإيمان

من واجبات الوالدين في القيام بالمهمة التربوية تنمية المشاعر الايمانية والخلقية في نفس الطفل. يجب على الآباء والأمهات المسلمين حسبما تصرّح به الأحاديث أن يربّوا اطفالهم على الإيمان، ويوقظوا فيهم فطرة عبادة الله بواسطة العبادات التمرينية، فيشجعوهم على إتباع الأوامر الإلهية، والإرتباط بالخالق العظيم.

الحقائق غير القابلة للقياس

ينبغي أن نقدم أمام البحث تمهيداً ييسّر لنا الدخول إلى صلب الموضوع. إن الحقائق التي توجد في العالم يمكن تقسيمها تقسيماً علمياً الى طائفتين:

الطائفة الأولى
:
وتشمل الموجودات التي استطاع العلماء من قياسها بالوسائل والآلات الدقيقة والقوية في ظل التقدم العلمي الذي يحرزه الإنسان يوماً بعد يوم، وإخراج نتائج تلك الموازنات بصورة أرقام مضبوطة أو تقريبية.

والطائفة الثانية: تشمل الحقائق الموجودة الأخرى التي لا يملك العلم البشري مقدرة علمية تجريبية عليها، فهي لا تخضع للقياس، ولا يستطيع العلماء مقايستها بواسطة مقاييس مضبوطة. إن عدد الحقائق التي لا تقبل القياس العلمي في جميع الموجودات بصورة عامة وفي تكوين الإنسان بصورة خاصة كبيرة جداً ويرى العلماء والباحثون ان تلك الحقائق أهم بكثير من الحقائق القابلة للقياس.

"... ولقد جلب الكم، المعبر عنه باللغة الحسابية، العلم للانسانية في حين أهمل النوع.. ولقد كان تجريد الأشياء من صفاتها الأولية أمراً مشروعاً، ولكن التغاضي عن الصفات الثانوية لم يكن كذلك.. فالأشياء غير القابلة للقياس في الإنسان أكثر أهمية من تلك التي يمكن قياسها.. فوجود التفكير هام جداً مثل التعادل الطبيعي الكيميائي لمصل الدم"1.

فالسل والسرطان مثلا مرضان خطيران، وداءان وبيلان للانسان. كل واحد منهما يكفي لاضعاف المصاب به، ونحول جسده، وتدمير حياته. لقد اكتشف الأطباء جميع الأعراض المميزة لهذين المرضين بالأدوات والوسائل العلمية، وتوصلوا الى طرق الوقاية منهما في المختبرات بفضل الأجهزة الدقيقة، فاستطاعوا معرفة انتشار المرض، والظروف المساعدة لذلك، والخسائر التي يتضمنها، وكلّ ما يرتبط به بصورة مضبوطة.

والحسد أيضاً داء خطير كالسل والسرطان، وربما كان الضرر الناشيء منه أشد من الأضرار الناشئة من ذينك المرضين بكثير، إذ أنه يترك آثاراً سيئة على جسد المصاب به وروحه. إنه يفسد العقل، ويقتل الإنسانية، ويبعث الانسان على الاجرام والخيانة، يذهب بالصفاء والنشاط، ويسلب الراحة والنوم، ويؤدي الى تسمم الجسم في نهاية المطاف فيدمر حياة صاحبه. هذا المرض ليس قابلا للفحص والقياس في المختبرات، إنه لا يملك ميكروباً خاصاً، ولا يمكن مشاهدته تحت المجاهر القوية. الحسد عبارة عن حالة نفسية، وإحساس باطني... إنه حقيقة لا تقبل الانكار، تتضمن عشرات العوارض على جسد المصاب به وروحه... ومع ذلك فلا يمكن قياس ذلك بواسطة الآلات والأجهزة العلمية.

إن حوادث الاخفاق والفشل، والانهيار الروحي، والعقد النفسية، ومظاهر القلق والإضطراب تضعف الجسم كمرض الملاريا، وتتضمن عشرات العوارض المختلفة. إن مرض الملاريا يمكن فحصه ومعرفته بواسطة الأجهزة العلمية، أما الإخفاقات والعقد النفسية فإنها ليست قابلة للفحص بالوسائل العلمية المادية.

الجماليات
تصوروا غصناً جميلاً من الورد يتباهى في زاوية الحديقة، ويُعجب الناظرين، ويبعث اللذّة والسرور في نفوسهم من مشاهدته، ويبهرهم جماله ولطافته. للوردة حساب خاص ولجمالها حساب آخر. الوردة من الموضوعات العلمية وجمالها من المسائل العاطفية. يستطيع العلماء المتخصصون من قياس الوردة، ومعرفة مكوناتها وعناصرها الطبيعية، وإعطاء أرقام صحيحة ومضبوطة عنها. أما جمال الوردة فلا يخضع للقياس. تلك الحقيقة المدهشة، والجاذبية الخاصة التي تجمع الناس حول الوردة وتبعثهم على استلطافها والتلذذ برؤيتها لا يمكن أن تخضع لفحوص العلماء في المختبرات. الجمال تفهمه عواطف الإنسان، وتحسّه مشاعر بني البشر، فلا يدركه العقل أو العلم، ولا الفحص والاختبار. إن المسائل العلمية هي التي تكون قابلة للفحص والقياس، وعواطف الإنسان ومشاعره تخرج من ميدان العلوم التجريبية، ولا يمكن للأجهزة والوسائل العلمية ضبطها.

ومقام آخر نلاحظه في لوحة رسام ماهر أجادت يد الفن صنعها ورسمها... إنها تُقدر بآلاف الدنانير، وربما تصرف آلاف الساعات من العمر الثمين للأشخاص في مشاهدة تلك اللوحة والاستمتاع بجمالها. إن ما يخضع للقياس والنظر العلمي من هذه اللوحة لا يزيد على 10 غرامات من اللون الأحمر، و100 غرام من اللون الأخضر، و50 غرام من اللون الأزرق ممزوجة حسب مقادير معينة، وشيء من القماش والخشب... وكلّ ذلك لا يساوي اكثر من بضعة دراهم، غير أن في هذه اللوحة الثمينة عنصراً آخر يجعل ثمنها يرتفع إلى آلاف الدنانير، هذا العنصر ليس علمياً أو عقلياً وليس عنصراً كيمياوياً أو مختبرياً، انه لا يقاس بالأجهزة والأدوات العلمية... إنه عنصر الجمال واللطافة، وهذا يجب أن يعرض في سوق الذوق، والطلب عليه يتمثل في العواطف والمشاعر. إن العناصر الكيمياوية والمواد الطبيعية للوحة قابلة للقياس والحساب العلمي، أما جمالها فلا يقاس في المختبرات.

إن حقيقة الإيمان الساطعة، والأخلاق الفاضلة كالإيثار، والشجاعة، والكرم، والعفة، والرأفة، والمحبة وأمثالها، وكذلك السيئات الخلقية كالحسد، والتكبر، والحقد، والجشع ونظائرها من المسائل النفسية، ترتبط بمشاعر الناس وعواطفهم. إن السجايا الفاضلة والبذيئة حقائق تترك آثارها الطيبة أو الخبيثة على روح الإنسان وجسده ومع ذلك فهي غير قابلة للقياس بالوسائل المادية والأجهزة العلمية. إن وجود حقيقةٍ ما يختلف عن إمكان قياسها، يجب أن ننظر إلى هذه الحقائق بعين البصيرة ونعترف بوجودها وإن عجزت الوسائل العلمية عن قياسها وضبطها.

"تبدو الوسيلة العلمية للنظرة الأولى غير قابلة للتطبيق على تحليل جميع وجوه نشاطنا، ومن الواضح أننا نحن المراقبين غير قادرين على تتبع الشخصية البشرية في كل منطقة تمتد إليها، لأن فنوننا لا تفهم الأشياء التي لا أبعاد لها ولا وزن، وإنما هي تصل فقط للمناطق التي تقع في الاتساع والزمن... إنها غير قادرة على قياس الغرور والحقد والحب والجمال أو احلام العالم وإلهام الشاعر، ولكنها تسجل بسهولة النواحي الفسيولوجية النتائج المادية لهذه الحالات النفسانية.. إن النشاط العقلي والروحي يعبران عن نفسيهما بتصرف معين، أو عمل معين، أو موقف معين، نحو إخواننا في البشرية حينما يلعبان دوراً هاماً في حياتنا... ولكن من المحقق أن إتسام الأشياء بالمراوغة ليس معناه عدم وجودها"2.

"ليس من الضروري أن تكون الحقيقة واضحة بسيطة. بل انه ليس من المحقق أن نكون دائماً غير قادرين على فهمها. وعلاوة على ذلك فإنها تفترض آراء مختلفة لا حدود لها.. إن حالة الشعور، وعظمة الكتف، والجرح، هي أيضاً أشياء حقيقية. كما أن الظاهرة لا تدين بأهميتها إلى سهولة تطبيق الفنون العملية حين دراستها. وإنما يجب أن ترى وهي تؤدي وظيفتها، لا بالنسبة للمراقب ووسائله وإنما بالنسبة للكائن الحي. فحزن الأم التي فقدت طفلها، وجزع النفس الحائرة في (الليل البهيم) وعذاب مريض السرطان، كل أولئك حقائق واضحة على الرغم من أنها غير قابلة للقياس"3.

الانتصارات العلمية
يتميز عصرنا هذا بالإكتشافات العلمية الدقيقة، والتوصل الى رفع الستار عن الأسرار الكونية المودعة في الطبيعة. فقد فحص العلماء الذرات الصغيرة الأرضية، والاجرام السماوية العظيمة، ووقفوا على حلّ كثير من الرموز التي كانت مجهولة لدى السابقين. في المدنية العصرية خرج العلم من مرحلة التصور والتخيل إلى مرحلة التجربة والحس، وأخذت المختبرات العلمية تجيب عن مواليد الطبيعة بلغة الأرقام المضبوطة.

لقد أحدث العلم الحديث انقلاباً عظيماً في جميع شؤون الحياة وأرسى أسس المدنية المعاصرة. فاستطاع الإنسان أن يتغلب بسلاح العلم على الطبيعة ويكشف النقاب عن المجهولات واحدة تلو الاخرى، ويطلع على زوايا الطبيعة المظلمة وأسرارها تدريجياً. لقد عرف الانسان بسائط هذا العالم ومركباته وعن طريق معرفة العلل والمعلولات استكشف دور كل منها في العالم الحي والميت... لقد عبر الحدود المحرمة للذرة، وفجّر نواتها، واستغل طاقتها الهائلة... وتغلب على مدار جاذبية الأرض وقذف بصواريخه الى خارج ذلك المدار. انه يفكر في تسخير الأجرام السماوية، ويأمل في أن يأتي اليوم الذي يجد نفسه فيه مسيطراً على الكرات الفلكية بقوة العلم.

هذه الانتصارات جميعها، استطاع الإنسان إحرازها عن طريق العلم، العلم المستند الى التجربة، العلم المحسوس، العلم المختبري، العلم الذي يستند الى المحاسبة والقياس. لقد سيطرت العلوم التجريبية بفضل التقدم الذي أحرزته على أفكار الناس وعقولهم، ودعتهم الى إنشاء الجامعات على أساس هذه العلوم... وشيئاً فشيئاً قصرت عقول الناس على الحقائق القابلة للقياس، وتُركت الحقائق غير القابلة للقياس بيد النسيان والاهمال. لقد سيطرت العلوم التجريبية على عقول بعض البسطاء وغرّتهم الى درجة أنهم أنكروا جميع الحقائق التي لا تخضع للحسّ، فأنكروا وجود الله، وسخروا من الإيمان به وبالأنبياء، وزهدوا بأمر التكامل الروحي والتعالي المعنوي، وهذا هو نقص كبير في المدنية المعاصرة.

قصور العلم
 لقد اعترف مسؤسسوا المدنية الحديثة بصورة صريحة بأن المعلومات البشرية في هذا العالم الفسيح ضئيلة ومحدودة جداً. وإن العلماء المعاصرين يذعنون الى قصور العلم عن معرفة ملايين الحقائق الخفية والمودعة في وجود الإنسان والكون.

"يقول أديسون: إن من بين 1% من مجموع الحقائق لا تعرف سوى جزء من المليون جزء منها. وأما نيوتن فقد قال: ان العلم العام يشبه خليجاً لم ألتقط أنا وزملائي سوى بعض الحصى الظريفة من ساحله المترامي"4.

ولو فرضنا جدلاً أن الإنسان استطاع في يوم ما أن يدرك بفضل التقدم العلمي الهائل جميع الحقائق العقلائية التي تتصل به وبالكون الفسيح، وتمكن من إخضاعها لمقاييس ثابتة، فيجب أن نقول أنه أدرك جانباً واحداً من حقائق الكون والإنسان ولا يزال يجهل كل شيء عن الجانب الآخر، لأن الحقائق لا تنحصر في المسائل العقلائية، ولا يمكن معرفة جميع الأشياء بالاستدلال العقلي، والمنطق العلمي. إن المسائل العاطفية والحقائق غير العقلائية تشكل ركيزة مهمة من كيان الإنسان، ولا طريق للعقل والمحاسبات العلمية اليها. وعلى الرجال المثقفين والواعين أن يخلصوا أنفسهم من أسر الغرور العلمي إذا أرادوا أن يدركوا الحقيقة كما هي، وأن يعيروا أهمية تذكر للحقائق الاشراقية والواقعيات النفسية غير القابلة للقياس إلى جانب اهتمامهم بالحقائق العلمية والقياسية حتى يستفيدوا الفائدة القصوى من هاتين الطاقتين العظيمتين في سبيل تحقيق التكامل الفردي والإجتماعي.

"في حياة العلماء والأبطال والعظماء صورة لا تقبل النفاذ من الطاقة المعنوية. هؤلاء الأفراد يشبهون القمم العالية وسط الوديان، وهم يرشدوننا إلى المستوى الذي نستطيع بلوغه من التكامل، ويشيرون إلى عظمة الهدف الذي يرغب الشعور الإنساني في تحقيقه. هؤلاء فقط يستطيعون أن يعدّوا لنا الغداء المعنوي الذي نحتاجه لحياتنا الباطنية".

"توجد في النفس الانسانية عوامل لا يمكن وصفها بعبارات وألفاظ، وهي عبارة عن الاشراق والميول الغريزية، والإحساس المتيافيزيقي. إن المقدرة الفردية والوطنية قد تنبع من هذه الثروات المعنوية. هذه الطاقات المعنوية التي لا توصف تنعدم في الأمم التي تريد أن تصف كل شيء بمعادلات واضحة، وهي منعدمة في فرنسا في الوقت الحاضر، لأنّ الفرنسيين يرفضون كل ما هو خارج عن الحدود العقلانية، ويجهلون حقيقة الأشياء التي تعجز الكلمات عن بيانها".

"إن الذين يرغبون في إحراز الكمال المحدّد للإنسان يجب عليهم أن يتخلوا عن الغرور الفكري، ويهتموا بتنمية الشعور الجمالي والحس الديني في نفوسهم، إن حب الجمال وحب الخالق لا يمكن الوصول اليه عن طريق معادلة رياضية، ذلك أن الشعور الجمالي لا يحصل إلا بالجمال نفسه. إن حب الجمال يرفع صاحبه الى مستوى عال جداً، لأنه يجذب قلوبنا نحو الشجاعة والإستقامة والجمال المطلق والله تعالى. وعلى أجنحة المعرفة فقط تستطيع النفس الإنسانية أن تصل إلى التكامل المنشود".

الإيمان بالله
لقد اهتم الإسلام في تعاليمه القيمة بجميع الجوانب العقلائية والعاطفية للبشر. فدعا الناس من جهة الى التعقل والتفكر، وحثهم على العلم والمنطق... ومن جهة أخرى تحدّث عن تزكية النفس والتكامل الروحي. إن الدين الإسلامي يطفح بالقوانين والنظم العقلية القائمة على الاستدلال والبرهان، ولكن ليس الإسلام كله عبارة عن المسائل العقلانية والحقائق الخاضعة للقياس، إن روح الإسلام أسمى من العقل، وأعلى من المحاسبات العلمية.

إن الإيمان بالله الذي هو الركيزة الأولى لدين الله يحصل بسلوك مرحلتين:

الأولى عقلية وهي إثبات وجود الله.

والثانية
أسمى من الأولى وهي الإيمان بالله.

في المرحلة الأولى يستفيد القرآن الكريم من قوة العقل ويدعو الناس الى التفكر في خلق الله وفي النظام الدقيق الذي يسود الكون كي يصلوا من هذا الطريق الى وجود الخالق الحكيم العالم، مستخدمين في ذلك الأدلة والبراهين العقلية والعلمية. أما الإيمان بالله فإنه لا يحصل بمجرد النظر في قانون العلّية بمنظار العقل فحسب، بل يجب أن يسمو هذا الحساب العلمي إلى درجة أرقى، وينفذ من العقل الى الروح ويستقر في القلب... عند ذاك تخرج هذه الحقيقة من صورة الاستدلال العقلي الجاف الى حالة من الشوق والاندفاع... الى الحب الإلهي الذي ينفذ في جميع ذرّات وجود الإنسان. يجب أن يتكامل ذلك المنطق العقلي في الضمير الباطن ويتحول الى إيمان حقيقي وإذعان لا يوصف.

وكتطبيق للفكرة المارّة الذكر نمثّل بالصلاة...

الصلاة والاستقرار النفسي
الصلاة من الفرائض الإسلامية المهمة، وتشتمل على الجانبين العقلي والاشراقي. أما الجانب العقلي المنظم فيتمثل في: الغسل، الوضوء، السواك، المضمضة، الاستنشاق (من حيث النظافة)، إباحة ماء الوضوء واللباس، ومكان الصلاة (من حيث النظام المالي في المجتمع)، الترتيب بين أجزاء الصلاة (من حيث التعوّد على النظام)، عقد الجماعة (من حيث تشديد أواصر الصفاء بين أفراد المجتمع)، القيام، القعود، الركوع السجود (من حيث الحركات الرياضية المتزنة)، قراءة الفاتحة والسورة وسائر الأذكار (من حيث الإيحاءات النفسية)... وأمور أخرى مشابهة وهي أمور محسوسة وظاهرة للعيان وقابلة للحساب العلمي أما روح الصلاة وحقيقتها فلا تدرك بالمحاسبة العلمية. إن روح الصلاة تتمثل في القرب من الله والارتباط الروحي بالخالق. الصلاة معراج المؤمن ومدعاة الصفاء الباطن، تبعث الاستقرار والهدوء النفسي في نفس المصلي، إنها أفضل الملاجيء المعنوية للمصلّين الخاضعين الخاشعين، وإن الحالة الوجدانية والسمو النفسي الذي يحصل للمصلي لا يوصف بلسان العقل، ولا يخضع للمحاسبة العلمية. وحقيقة الصلاة التي لا توصف هي التي تطهر الضمير الباطن من كل انحراف أو إجرام، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ(العنكبوت:45).

إن طاقة الإيمان الجبارة، والقدرة التي توجدها في نفس المصلي المؤمن عظيمة إلى درجة أنها تستطيع أن تسيطر على الغرائز الثائرة، وأن تقف أمام الإفراط في الميول، وتطهر الإنسان من الرجس والدنس، وتمنعه من الإنحراف حتى في الحالات التي لا يوجد أحد يراقبه.

المناجاة
إن الحالة الروحية للرجال الأصفياء، والثورة الباطنية للعارفين، ومناجاتهم بين يدي الله تعالى في ظلمة الليل البهيم حقائق لا توصف ولا تقاس ولكنها أساس أعظم التحولات الروحية والكمالات النفسية. فالشجاعة وضبط النفس، وصفاء القلب، وحب الخير، والتضحية... كل ذلك يحصل في ظل الإيمان وبواسطة الاشعاع النفسي: ﴿... الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ(آل عمران:17).

"تظهر الحاجة الى الله تعالى في صورة الدعاء والمناجاة فالدعاء عبارة عن استغاثة ملهوفٍ، واستعانة متأزمٍ، ونشيد للحب، وليس عبارة عن عبارات لا نفهم معانيها إن أثر الدعاء إيجابي في الغالب. وكأن الله يستمع لنداء الإنسان ويجيبه بصورة مباشرة... تقع حوادث فجائية، يعود التعادل الروحي الى توازنه، تفقد الحياة وجهها الخشن الظالم وتلين، تنبع قدرة عجيبة من أعماقنا وتتصاعد. إن الدعاء يمنح الإنسان مقدرة لتحمل الآلام والمصائب وعندما تنعدم الكلمات المنطقية لتهدئة الانسان، فإنه هو الذي يبرز ليبعث الطمأنينة في نفسه، ويمنحه القوة للوقوف أمام الحوادث".

"تختلف دنيا العلم عن دنيا الدعاء ولكنهما لا تتباينان، كما أن الأمور العقلائية لا تتباين مع الأمور غير العقلائية، هذه المظاهر مهما خفيت عن الادراك فإننا يجب أن نعترف بوجودها"5.

لقد ورد التعبير في القرآن الكريم عن الحقائق الدينية غير المشهودة والتي لا تقبل القياس بكلمة الغيب ويجب على المؤمنين أن ينصاعوا لها: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ(البقرة:3).

لا شك في أن الشطر الأكبر من الأنظمة الدينية من عبادات ومعاملات وعقوبات قابل للإدراك العقلي والمحاسبة العلمية، أما القسم الأصغر من الحقائق الدينية فهو فوق مستوى العقل... في حين أن قيمة جميع الأمور القياسية في الدين ترتكز على أساس الجانب غير القياسي. إن الأساس الأول والأهم للدين يتمثل في الإيمان بالله، وبديهي أن ذات الله تعالى، والحالة النفسية التي تظهر في الإيمان به كلتاهما من الغيب.. وهما تسموان عن القياس، وترتفعان عن مستوى العقل. وكذلك أساس النبوة فإنه يرتكز على الوحي، والوحي أيضاً حقيقة غير قياسية. كذلك المعاد يوم القيامة فإنه من أركان الإيمان في حين أن أعماقه وأبعاده لا تقاس.

إن من يحاول أن ينظر الى الدين من زواية العقل فقط، ويرغب في أن يقيس جميع العقائد والأحكام الإسلامية بالمعايير العلمية لم يدرك حقيقة الدين ولم يفهم شيئاً عن الروحانية الإلهية والهدف الإسلامي المقدس. فكما أن الجمال الحقيقي للوحة زيتية فاخرة لا يمكن أن يقاس بالأصباغ المكونة لها، أو التحليل الكيمياوي لمكوناتها، كذلك الجمال الروحي للدين ونور الإيمان الباهر لا يمكن أن يخضع للتحليل العلمي.

مشعل الإيمان الوضاء
تبرز الفطرة التوحيدية والمشاعر الخلقية في ضمير الطفل قبل أن يكمل عقله ويتضح لإستيعاب المسائل العلمية، ويكون مستعداً لتقبل الأساليب التربوية. على الوالدين أن يهتما بقيمة هذه الفرصة المناسبة ويستغلا تفتّح مشاعر الطفل ويقظة فطرته الإيمانية فيعملا منذ الطفولة على تنمية الإيمان بالله في نفسه، هذا الأمر يجعل الطفل متجهاً في طريق الطهارة والإيمان قبل أن يتفتح عقله وينضج لاستيعاب الحقائق العقلائية وإدراك المسائل العلمية.

إن الإنسان يتجه الى خالق الكون بفطرته قبل أن يستخدم الأدلة العقلية لإثبات وجود الله. إنه لا حاجة للأدلة العقلية المحكمة في إيجاد الحسّ الإيماني في الطفل، فالمعرفة الفطرية المودعة فيه تكفي لتوجيهه نحو الإيمان بالخالق العظيم. ومن السهولة بمكان جعله انساناً مؤمناً بالاستناد الى طبيعته الفطرية. وما يقال عن عدم حاجة تنمية الإيمان في نفس الطفل الى الأدلة العقلية، يقال عن عدم حاجة تنمية الصفات الفاضلة فيه... كالصدق، والاستقامة، والحنان، وأداء الواجب، والإنصاف، ومساعدة الآخرين، فبالامكان تعويده على تلك السجايا الحميدة بمجرد توجيهه في طريقها.

إن التنمية الصحيحة للمشاعر أساس التكامل النفسي. والوصول الى السعادة والكمال المحدد للإنسان لا يكون بدون تنمية الإيمان والفضائل. علماً بأن ركائز ذلك يجب أن تصب في أيام الطفولة.

"يجب أن يتنبه الآباء والمربون الى أن الدين أعظم العوامل المساعدة في سبيل تربية الطفل، وان الإيمان مشعل وضاء ينير أحلك الطرق، ويوقظ الضمائر ويعدل الإنحرافات"6.

"ان ما يدفع الإنسان الى مصيره النهائي يكمن في المشاعر لا العقل. فالنفس تقبل التكامل بواسطة الألم والشوق اكثر من مساعدة العقل. وفي هذا السير العنيف عندما يصبح العقل حملاً ثقيلاً تلجأ النفس الى الجوهرة الثمينة التي تنطوي عليها وهي عبارة عن الحب".

"إن كثيراً من الأشخاص المعاصرين يقتربون الى الحياة الحيوانية الى درجة أنهم يحصرون اهتمامهم بالقيم المادية ولذلك فإن حياتهم أخس من حياة الحيوانات، لأن القيم المعنوية فقط هي التي تستطيع أن تمنحنا النور والسرور"7.

"ليس المبدأ الأول عبارة عن تنمية القوى العقلانية، بل البناء العاطفي الذي تستند اليه جميع العوامل النفسية. ليست ضرورة الشعور الخلقي بأقل من ضرورة السمع والبصر. يجب أن نتعوّد على أن نميز بين الخير والشر بنفس الدقة التي نميز بها بين النور والظلمة، والصوت عن السكوت... ومن ثم يجب علينا أن نعمل الخير ونحذر الشر".

"إن النمو القياسي للروح والجسد لا يحصل بغير تزكية النفس. هذا الوضع الفسيولوجي والنفسي وإن بدا غريباً في نظر علماء التربية والاجتماع المعاصرين لكنه يصنع الركن الضروري للشخصية، وفي نفس الوقت فهو المطار الذي تحلق منه النفس"8.

دين تجاه الأطفال
إن تنمية الإيمان والفضائل في نفس الطفل حق له على عاتق أبيه، وقد وردت روايات كثيرة في هذا الصدد:

1- يقول الإمام السجاد عليه السلام: "وإنك مسؤول عما ولّيته من حسن الأدب والدلالة على ربه"9.

2- قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "حق الولد على والده إذا كان ذكراً أن يحسن اختيار أمّه، ويحسن اسمه، ويعلمه كتاب الله ويطهره"10.

3- وعن النبي صلّى الله عليه وآله أيضاً: "إن المعلم إذا قال للصبي بسم الله كتب الله له وللصبي ولوالديه براءة من النار"11.

4- وفي الحديث عن الإمام العسكري عليه السلام: أن الله تعالى يجزي الوالدين ثواباً عظيماً.

فيقولان: يا ربنا أنى لنا هذه ولم تبلغها أعمالنا؟

فيقال: "هذه بتعليمكما ولدكما القرآن وبتبصيركما إياه بدين الإسلام"12.

حق المعلم
1- كان عبد الرحمن السلمي يعلم ولداً للإمام الحسين عليه السلام سورة الحمد، فعندما قرأ الطفل السورة كاملة أمام والده، ملأ الإمام عليه السلام فم معلمه دراً بعد أن أعطاه نقوداً وهدايا آخر: فقيل له في ذلك. فقال عليه السلام: "وأين يقع هذا من عطائه"13 يعني تعليمه.

لقد استأثر موضوع التربية الدينية للاطفال بقسط وافر من اهتمام الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله، إلى درجة أنه كان يتبرأ من الآباء الذين يهملون القيام بذلك الواجب، ولا يرضى بانتسابهم له. وهذا ما يظهر من الحديث الآتي:

2- "روى عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه نظر الى بعض الأطفال فقال: ويلٌ لأولاد آخر الزمان من آبائهم! فقيل: يا رسول الله من آبائهم المشركين؟ فقال: لا، من آبائهم المؤمنين لا يعلمونهم شيئاً من الفرائض وإذا تعلم أولادهم منعوهم ورضوا عنهم بعرَضٍ يسيرٍ من الدنيا، فانا منهم بريء وهم مني بُراء"14.

ضرورة التربية الإيمانية
لقد اكد علماء الغرب على أهمية التربية الدينية، وضرورة ذلك لضمان سعادة الأطفال وحسن تربيتهم.

"يقول ريموند بيج: لا شك في أن المهمة الأخلاقية والدينية تقع على عاتق الأسرة قبل سائر المسائل، ذلك أن التربية الفاقدة للأخلاق لا تعطينا سوى مجرمين حاذقين. ومن جهة أخرى فإن قلب الإنسان لا يمكن أن يعتنق الأخلاق من دون وجود دافع ديني، ولو حاول شخص أن يتفهم الأصول الخلقية بمعزل عن الدين فكأنه يقصد تكوين موجود حي لكنه لا يتنفس".

"إن أول صورة يرسمها الطفل في ذهنه عن الله تنبع من علاقاته مع والديه. وكذلك أول فكرة ترتسم في مخيلته عن الطاعة والسماح والاستقامة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بسلوك الأسرة... كل هذه المسائل يجب أن تتم في الأعوام فقط بيدي استعداداً لضبط ما يدركه اكثر من أي وقت آخر.

"لا يملك الوالدان الفرصة المناسبة لتربية نفس الطفل وتنقية أفكاره فحسب، بل عليهما أن يعرّفا الله لأطفالهما بأحسن صورة وقوة، وبكل إرادة ومتابعة. وهما في هذا السبيل يستطيعان أن يستعينا بمصدرين فياضين، أولهما الدين والثاني الطبيعة"15.

أثر الإيمان في الطفل
إن الطفل الذي يتربى على أساس الإيمان منذ البداية يمتاز بارادة قوية وروح مطمئنة، تظهر عليه أمارات الشهامة والنبل منذ الصغر، وتطفح كلماته وعباراته بحقائق ناصعة وصريحة.

وكمثل على ذلك نأخذ الصدّيق يوسف، فقد كان ابن النبي يعقوب. هذا الطفل المحبوب تلقى درس الإيمان بالله من أبيه العظيم، ونشأ طفلاً مؤمناً في حجر يعقوب... لقد نقم إخوته الكبار منه وصمّموا على إيذائه، فأخذوا الطفل معهم الى الصحراء وبعد أساليب مؤلمة ووحشية فكروا في قتله، ثم انصرفوا عن هذه الفكرة الى القائه في البئر... وكانت النتيجة أن بيع الطفل الى قافلة مصرية، وبصدد معرفة عمره عندما ألقي في البئر يقول أبو حمزة: "قلت لعلي بن الحسين عليهما السلام: ابن كم كان يوسف يوم ألقوه في الجب ٌ فقال: ابن تسع سنين"16.

ماذا يتوقع من طفل لا يتجاوز عمره التسع سنوات في مثل هذه الظروف الحرجة والمؤلمة؟ أليس الجواب هو الجزع والاضطراب؟!! في حين أن قوة الإيمان كانت قد منحت يوسف حينذاك مقدرة عجيبة، ففي الحديث: "لما أخرج يوسف من الجب واشتري قال لهم قائل: استوصوا بهذا الغريب خيراً. فقال لهم يوسف: من كان مع الله فليس في غربة"17.

ونظير هذا نجده في قصة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله مع مرضعته حليمة السعدية. تقول حليمة: لما بلغ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الثالثة من عمره قال لي:

أماه، أين يذهب إخوتي نهار كل يوم؟

فأجابته: يخرجون الى الصحراء لرعي الأغنام.

قال: لماذا لا يصحبوني معهم؟

فقلت له: هل ترغب في الذهاب معهم؟

قال: نعم.

فلما أصبح دهنّته وكحّلته وعلّقت في عنقه خيطاً فيه جزَع يمانية، فنزعها ثم قال لي: "مهلاً يا أماه، فإن معي من يحفظني"18.

الإيمان بالله هو الذي يجعل الطفل في الثالثة حراً وقوي الإرادة بهذه الصورة.

المبادرة الى تنمية الإيمان
تشبه روح الطفل في تقبلها للتعاليم الدينية والاخلاقية الأرض الخصبة القابلة لاحتواء البذرة في باطنها. وعلى الوالدين أن يبادرا إلى زرع بذور الإيمان والفضائل في نفس الطفل وأن لا يفرّطا بشيء من الفرصة السانحة لهما. من الضروري أن يبكر المربي في تنشئة الطفل نشأة دينية صالحة.

"عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: بادِروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم اليهم المرجئة".

إن تزكية النفس والاهتمام بالجوانب المعنوية من الواجبات اليومية لجميع الأفراد. ومن اللازم في سبيل الوصول الى الكمال الانساني اللائق به أن يهتم كل فرد منا بالجوانب الروحية الى جانب النشاطات المادية واشباع الغرائز، ويفكر كل يوم في إحراز التقدم المعنوي والكمال الروحي.

قد جاء عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الصدد: "للمؤمن ثلاث ساعات: فَساعةٌ يناجي فيها ربه، وساعة يَرمُّ معاشه، وساعة يخلّي بين نفسه وبين لذتها فيما يحلّ ويجمل"19.

أساس تقدم الإنسان
إن السعي وراء الطعام وجلب اللذائذ خاصة مشتركة بين الانسان والبهائم، أما ما يكون مائزاً للانسان، وأساساً لتقدمه فهو الجوانب الروحية التي يمكنه إحرازها، والكمالات العقلية والعاطفية التي يستطيع بلوغها.

قال أبو عبد الله عليه السلام: "إقصر نفسك عما يضرها من قبل أن تفارقك، واسع في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك، فإن نفسك رهينة بعملك"20.

محاسبة النفس
كما أن حفظ الصحة يحتاج الى النشاط الإقتصادي المستمر والرقابة الصحية، كذلك الحفظ على سلامة الروح يحتاج الى الجهد المتواصل. فمن يرغب في تكامل نفسه ويهتم بصفاء باطنه، عليه أن يراقب أقواله وأفعاله مراقبة دقيقة، ولا يحوم حول الذنب والاجرام، ولا يعوّد لسانه على الكلمات البذيئة. عليه أن يحاسب نفسه كل يوم على ما صدر منه من حسنات وسيئات فيستمد العون من الله تعالى في المزيد من الحسنات، والإقلال من السيئات.

"عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: ليس منا من لم يحاسب نفسه في يوم"21.

إن المقر الأصيل للإيمان عبارة عن أعماق قلوب الناس وزوايا أرواحهم. والشخص المؤمن هو الذي يؤمن بخالق الكون، ويعتقد بتعاليم الأنبياء، ولكن بالنظر إلى التماثل الموجود بين الروح والجسد، وتأثير كل منهما في الآخر فمن الضروري أن تظهر آثار ذلك الإيمان على جوارحه. ومن هنا نجد الروايات الإسلامية تعرف الإيمان كمجموعة من الإعتقادات القلبية، والإقرار باللسان، وظهور أثر ذلك على الجوارح أيضاً.

وكما أن قيام أستاذ بعملية التدريس، ومزاولة جرّاح للعمليات الجراحية يقوّي الجذور العلمية في باطن كل منهما، كذلك العبادات الجسدية والأذكار فإنها مدعاة لتركز الإيمان واستحكامه (وجد علماء النفس من التجارب العديدة التي أجريت على عملية التعلم أن هذه العملية تسير وفقاً لقوانين معينة. وأول من وضع هذه القوانين في صيغة شاملة هو العالم الشهير ثورندايك. وأهم تلك القوانين ثلاثة: أحدها قانون التدريب. ويعني به أن كلّ تجربة تمر بذهن الإنسان أو مسألة علمية تطرق باله تزداد قوة باستعمالها، وتضعف باهمالها. ومن هنا قيل: الدرس حرف والتكرار الف).

وبهذا الصدد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الإيمان ليبدو لمعة بيضاء، فإذا عمل العبد الصالحات نما وزاد حتى يبيضّ القلب كله"22.

إن ما لا شك فيه هو أن الاستمرار في العبادة والحصول على حالات من الخضوع والخشوع والاستغفار بين يدي الله تعالى أعظم العوامل لترسيخ أسس الإيمان وإضاءة القلب وبعث النور فيه.

المناجاة في السحر
يتلخص جانب من تعاليم الإسلام في منهاجٍ التكامل النفسي في العبادات والمناجاة مع الله. هناك بعض العبادات والأذكار في صورة صلوات واجبة ومندوبة مشرّعة بكيفيات خاصة، وهناك عبادات غير مقيدة بكيفيات معينة بل تندرج ضمن إطار واسع هو ذكر الله والدعاء. لا بد من الجهر في بعض العبادات تحقيقاً لبعض المصالح، وفي قبال ذلك يرد التأكيد على التخفّي في عبادات أخرى. قال الإمام الصادق عليه السلام: "قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أعظم العبادات أجراً أخفاها23".

فعندما يسدل الليل أستاره ويغط الناس في النوم، ويسود الكون ظلام وسكون، يقوم المؤمنون للتضرع بين يدي الله تعالى... ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ(السجدة:16). العشق الإلهي يلتهب في أعماقهم ويُضاء سراج الإيمان في قلوبهم، فينهضون بشوق ورغبة شديدين، ويتوضأون ويتجهون نحو الله تعالى بكل خضوع وخشوع، يستغفرون ربهم، وينيبون اليه، يذرفون الدموع، ويفقدون الوعي، يتذكرون زلاتهم، ويعتذرون إلى الله تعالى، ويعاهدونه على عدم العود اليها، ويستمدون العون منه في جميع أمورهم.

الآثار النفسية للمناجاة
هذه الحالة النفسية التي طرأ على الرجال الإلهيين في اعماق الليل حقيقة يعجز العلم عن وصفها، ولا يستطيع العقل إدراكها... أما آثارها العظيمة فتبدو من جميع ذرات وجود الرجل... فتقيم ثورة في روحه وجسده، وتسيطر على جميع قواه، وتبعث الطمأنينة الى قلبه، وتمنحه الشهامة والشجاعة، تكبح غرائزه الثائرة، وتمنعه عن الاجرام والتلوث بالذنب تمنحه روح التضحية والإيثار.. وبصورة موجزة تجعله إنساناً كاملاً وتوقظ فيه جميع الفضائل الحميدة والسجايا الخلقية... هذه الحالة المعنوية اللامعة، وهي حقيقة التقوى التي تهدف اليها تعاليم الإسلام القيمة.

"عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: ﴿اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ(آل عمران:102) قال: يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر" فالتقي الحقيقي هو الذي يطيع أوامر الله تعالى دائماً ولا يعصيه، ويذكر خالقه على كل حال.

"لقد اشربت الإنسانية بالوحي الديني اكثر مما أشربت بالتفكير الفلسفي... فقد كان الدين هو أساس الأسرة والحياة الاجتماعية في المدنية القديمة. فما زالت الكتدرائيات وبقايا المعابد التي أنشأها أسلافنا تغطي ارض أوروبا.. بالطبع، ان معناها قلما يكون مفهوماً في الوقت الحاضر.. ومهما يكن من أمر فإن الاحساس الديني لا يزال حتى اليوم نشاطاً لا مفر منه بالنسبة لشعور عدد من الأفراد، كما أنه يظهر نفسه بين الأشخاص المثقفين ثقافة عالية.

"وللنشاط الديني جوانب مختلفة مثل النشاط الأدبي.. وهو يتكون في أبسط حالاته من تطلع مبهم نحو قوة تفوق الأشكال المادية والعقلية لعالمنا.. إنه نوع من الصلاة غير المنطوقة، إنه بحث عن جمال اكثر نقاء من الجمال الفني أو العلمي، وهو مماثل لنشاط الجمال".

"ما زال الجمال الذي ينشده المتصوفون اكثر غنى واتساعاً من المثل الأعلى الذي ينشده الفنان.. إنه لا شكل له، ولا يمكن التعبير عنه بأية لغة، ويختفي بداخل اشياء العالم المنظور، وقلما يظهر نفسه. ويتطلب السمو بالعقل نحو الذات العلية التي هي مصدر جميع الأشياء، نحو قوة، بل مركز القوى، نحو الله جل جلاله ففي كل حقبة من حقب التاريخ وفي كل شعب من الشعوب، أشخاص يتمتعون بهذا الأحساس العجيب في درجة عالية.."24.

العبادات التمرينية
لضمان التربية الدينية للأطفال يجب أن يكون هناك تماثل بين أرواحهم وأجسامهم من الناحية الإيمانية. ولهذا فإن الإسلام أوجب على الوالدين من جهة أن يعرّفا الطفل بخالقه ويعلماه الدروس الدينية المتقنة، ومن جهة أخرى أمرهما بتدريب الطفل على العبادات والصلاة بالخصوص.

1- عن معاوية بن وهب قال: "سألت أبا عبد الله عليه السلام: في كم يؤخذ الصبي بالصلاة ٌ فقال: بين سبع سنين وست سنين"25.

2- عن النبي صلّى الله عليه وآله قال: "مُروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً"26.

3- يذكر الإمام الباقر عليه السلام في حديث طويل واجبات الوالدين في إلهام أطفالهما بالقضايا الدينية حسب التدرج في السن، فيجب عليهما أن يعلما الطفل كلمة التوحيد لثلاث سنين، وفي الرابعة يعلماه الشهادة بالرسالة، وفي الخامسة يوجهاه الى القبلة ويأمراه بالسجود... "فإذا تمّ له ست سنين عُلّم الركوع والسجود حتى يتم له سبع سنين. فإذا تمّ له سبع سنين قيل له: اغسل وجهك وكفيك، فإذا غسلهما قيل له: صل"27.

دعاء الطفل
إن العبادات التمرينية للطفل، ودعاءه ووقوفه بين يدي الله تعالى، يترك أثراً عظيماً في نفسه. قد لا يفهم الطفل العبارات التي يؤديها في اثناء الصلاة، ولكنه يفهم معنى التوجه نحو الله، ومناجاته، والإستمداد منه، بكل جلاء. إنه ينشأ مطمئن البال مستنداً الى رحمة الله الواسعة وقدرته العظيمة. هذا الإطمئنان والاستناد، والإلتجاء نحو القدرة اللامتناهية اعظم ثروة للسعادة في جميع أدوار الحياة، فهو يستطيع في الظروف الحرجة ان يستفيد من تلك القدرة العظيمة ويطمئن إليها، ويبقى محتفظاً بتوازنه واعتداله في خضم المصاعب والمشاكل... ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(الرعد:28).

"لتحصيل الكمال النفسي لا يلزم أن لا يكون الإنسان عالماً أو ذكياً، بل يكفي أن يكون مختاراً لذلك... يكفي أن يختلي كل فرد منا كل يوم صباحاً ومساءاً لبضع دقائق، بعيداً عن الضوضاء ويجعل ضميره حكماً في تصرفاته فيعرف أخطاءه ويخطط لسلوكه. وفي هذه الفرصة يجب أن يتوجه الى الدعاء إن كان يعرف ذلك فللدعاء أثره حتى ولو لم يكن هذا الأثر ذلك الذي نريده. ولهذا يجب تعويد الأطفال منذ البداية على أن يقضوا فترات قصيرة في سكوت وهدوء خاص للدعاء ومن توفق لذلك مرة واحدة يستطيع أن يصل الى العالم الهادىء الذي يفوق الصور والكلمات المألوفة متى شاء.. عند ذاك يزول الظلام تدريجياً، ويظهر إشعاع خلاق يهدي صاحبه إلى الطريق الأمثل"28.

مثال الإنسان الكامل
إن أعلى مثال للإنسان الكامل، والفرد المؤمن نجده في مولى الموحدين علي بن ابي طالب عليه السلام، ذلك الرجل العظيم، تلك الشخصية الفذة التي عجز الدهر أن يلد مثله، ذلك الإنسان الذي لم يستطع تعاقب الأعوام والقرون أن يمحو حرفاً واحداً من اسمه الكبير، أو يسلّمه الى عالم النسيان.

علي بن أبي طالب مع ألمع النجوم الساطعة في سماء الإنسانية. إن حياته تكشف لنا عن جانب عظيم من التقوى والفضيلة، والعدالة والشجاعة والتضحية والجود، والثبات والاستقامة، وبصورة موجزة جميع الفضائل والسجايا الحميدة. لقد سلك علي عليه السلام جميع مدارج الكمال ونال الشرف العظيم في هذا المجال.

لقد تربّى علي عليه السلام في حجر الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله. وخضع منذ الصغر للرقابة التربوية الدقيقة المليئة بالدفء والحنان والعطف من قبل النبي العظيم. وقد منحه جميع ما يحتاجه طفل لائق في تربيته وتنمية روحه وجسمه... فنشأ عليه السلام عظيماً من كل جانب.

كان عمر علي عليه السلام عشر سنوات عندما بعث الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله بالدعوة الإسلامية. فعرض الرسول الإسلام على الصبي الفطن العاقل ودعاه لاعتناق ذلك الدين السماوي. فآمن علي عليه السلام وصار هو وخديجة زوجة النبي صلّى اله عليه وآله وسلّم أول مسلمين اتبعا محمدا واعتنقا دينه وقبلا دعوته...

في المراحل الأولى من الدعوة لم يكن ليطرق الأسماع نبأ الدين الجديد فكان الجميع يجلهون عن دين الله الذي أتى به محمد صلّى اله عليه وآله وسلّم كل شيء.. إلا أنهم كانوا يرون شاباً يقف للصلاة بين يدي الله، ويقف الى يمينه صبي، ومن خلفهما امرأة فإذا ركع الشاب ركعا معه، وإذا سجد سجدا وفي بعض المرات رأى أحد كبار العرب هذا المنظر وتعجب منه فقال للعباس بن عبد المطلب الذي كان حاضراً هناك: أمر عظيم!

فقال العباس: أمر عظيم! أتدري من هذا الشاب ٌ هذا محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب ابن أخي أتدري من هذا الغلام؟ هذا علي بن أبي طالب إبن اخي أتدري من هذا المرأة ٌ هذا خديجة بنت خويلد. إن إبن أخي هذا حدثني أن ربه رب السماوات والأرض، أمره بهذا الدين الذي هو عليه. لا والله ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة29.

إن دافع علي عليه السلام لهذه المؤاساة هو الإيمان بالله. لقد سيطر الحبّ الإلهي على جميع جوانحه وجوارحه، فيؤمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ويعتنق الدين الذي بشر به، ويدافع عن ذلك الدين دفاعاً مستميتاً... في ذلك الظرف الحاسم والجو الخطر تتجه الأخطار والمشاكل المتوالية نحو النبي وتهدده فينبري علي للدفاع عنه مستخدماً جميع قواه وطاقاته. وكلما كثر المسلمون وزاد عددهم، وأقبلوا على اعتناق دين الله زرافات ووحداناً، ازداد حنق المشركين وعداءهم، ومضوا في التصميم لدحر الدين الجديد وقتل النبي المبشر به أكثر. فيضطر الرسول الأعظم صلّى اله عليه وآله وسلّم للهجرة الى المدينة، فيهاجر علي أيضاً، يلازم النبي في مشاكله قبل الهجرة وفي غزواته بعدها، مدافعاً عن دين الله، ومنافحاً عن رسوله العظيم... ثم هو يقول: "والله ما زلت أضرب بسيفي صبياً حتى صرت شيخاً"30.

شجاعة علي عليه السلام
لقد كانت تضحيات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام تسير جنباً الى جنب مع شجاعته وشهامته، وتبرهن على ثباته واستقامته حتى قال: "ما ضعفتُ ولا جبنتُ"31. إن من ينشأ على الإيمان والإستقامة، ويستند في جميع أموره الى القدرة الإلهية اللامتناهية لا يخاف أبداً ولا يجبن في موقف مهما كان حرجاً.

لقد شهدت أيام خلافة الإمام عليه السلام في الكوفة موجة من الإضطربات والفتن، وفي بعض الأحيان كان يصمم الحزب المجرم المتمثل في الخوارج في وضع خطة لاغتيال الإمام، ومع ذلك فقد كان يخرج في أواخر الليل الى نقطة هادئة من المدينة ويناجي ربه. وكان يخرج قنبر الخادم الوفي وراءه حاملاً سيفه مختفياً عن أنظار الإمام. وفي إحدى الليالي نظر علي عليه السلام خلفه فرأى قنبر...

فقال له: يا قنبر ما لكَ؟

قال: جئت لأمشي خلفك، فإن الناس كما تراهم يا أمير المؤمنين فخفت عليك.

فقال له الإمام: إن أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئاً إلا بإذن الله عز وجل، فارجع. فرجع32.

الإيمان والنفس المطمئنة
إن علياً عليه السلام رجل الله، ومعتمد على ذات الله عز وجل. ومن كان معتمداً على الله كان ذا نفس مطمئنة وروح هادئة، لا طريق للاضطراب والقلق الى ضميره. إنه يختلي بربه كل ليلة، في مكة والمدينة، في الكوفة والبصرة، في المدينة والصحراء... الأمر سواء عنده. إنه يخصص أينما كان ساعة من أواخر الليل لمناجاة ربه، والتكلم معه بخشية وتضرع، وبكاء وخشوع... يتكلم بكلمات منبعثة من أعماق القلب، ويسأل الله العون والمدد لجعل قلبه النير اكثر اشعاعاً، وضميره الطاهر أكثر صفاءً.

لقد كانت الصورة الباطنية والتحولات الروحية التي تطرأ على الإمام علي عليه السلام في مناجاته مع ربه على درجة من الدقة والعمق بحيث يعجز العقل عن إدراكها، ويقصر اللسان عن وصفها. وكان يصادف أن يطلع عليه أحد فيرى ما هو فيه من الفناء في ذات الله والتوجه نحوه فيصف بعض ذلك بعبارات تقصر ع 2009-08-27