يتم التحميل...

لماذا أصبح العامُ الهجريُّ مبدأ للتاريخ

الهجرة النبوية والمؤاخاة

إِن الاسلام أكمل الشرائع السماوية قاطبة، وقد جاء الى البشرية بماتتضمنه شريعة موسى وعيسى عليهما السلام ولكن بصورة أكمل وبصيغة تطابق مع جميع الظروف والأوضاع.

عدد الزوار: 27

إِن الاسلام أكمل الشرائع السماوية قاطبة، وقد جاء الى البشرية بماتتضمنه شريعة موسى وعيسى عليهما السلام ولكن بصورة أكمل وبصيغة تطابق مع جميع الظروف والأوضاع.

ومع أن السيد المسيح عليه السلام وميلاده المبارك يحظى بالاحترام عند المسلمين إِلا أنّ ميلاده عليه السلام لم يُتخذ لديهم مبدأ للتاريخ، والتوقيت.

وكانت العرب قد جعلت عام الفيل مبدأً لتاريخها، وكانت تقيس حوادثها واُمورها إِليه فترة من الزمن، ومع أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان قَد وُلِدَ في ذلك العام نفسه، إِلا أن المسلمين لم يتخذوه مع ذلك مبدأً للتاريخ، لأنه لم يكن ينطوي على ما يتصل بقضية الإيمان والاسلام.

ولاجل هذا أيضاً لم يتخذوا عام البعثة مبدأً لتاريخ المسلمين أيضاً لأن عدد المسلمين لم يكن يتجاوز في ذلك اليوم ثلاثة أشخاص، إِذن فلم يكن في أي واحد من تلك الحوادث ما يعطي مبرراً قوياً لاتخاذه مبدأً للتوقيت والتاريخ، إذ لا بد ان يكون ما يتخذ لذلك قضية مصيرية بالغة الأهمية.

ولكنه في السنة الاولى من الاعوام الهجرية حقق المسلمون انتصاراً عظيماً وباهراً، وقد اُسست فيه حكومة مستقلة وتخلّص المسلمون من التشرذم والتبعثر، وتمركزت قواهم وعناصرهم في نقطةٍ واحدةٍ، وبيئةٍ حرةٍ لا أثر فيها للكبت والاضطهاد، من هنا جعلوا ذلك العام (أي العام الذي تحققت فيه هجرة النبيّ العظيم) مبدأً لتاريخهم، واخذوا يقيسون اليه- وحتى الآن- كل ما يحدث ويقع من خير وشر، لتحديد تاريخ وقوعه.

من هنا يكون قد مضى على عام هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله من مكة الى المدينة الف واربعمائة وتسعة اعوام.1

الهجرة النبوية مبدأ لتاريخ المسلمين كافة
ولقد جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله التاريخ الهجريّ بنفسه.وانّ أيَّ إِعراض وتجاهلٍ لهذا التاريخ، واختيار تاريخٍ آخر مكانه إِعراض عن سنة رسول الاسلام الكريم صلّى اللّه عليه وآله، ومخالفة لما رسمه للمسلمين في هذا المجال.إِن وجود تاريخ معين ثابت (مؤلّفٍ من السنة والشهر واليوم) في الحياة الإجتماعية البشرية، من الاُمور الضرورية بل هو في غاية الضرورة والحيوية، من أجل أن لا تتوقف عجلة الحياة الإجتماعية البشرية عن الدوران والحركة بسبب فقدان مقياس زمني ثابت ومعلوم للامور والحوادث.

وتلك حقيقة لا حاجة إِلى اقامة البرهان عليها لأنَّ الاستدلال عليها يكون مثل الاستدلال على الامور البديهية.

فهل يكون تنظيم المعاهدات، والمواثيق السياسية والعسكرية، والاتفاقيات والعقود الاقتصادية وتحويل وتسديد السندات والحوالات التجارية ودفع الديون وكتابة الرسائل العائلية من دون ذكر تاريخ معين فيها أمراً مفيداً؟ كلا حتماً، ودون ريب.

فعندما سأل بعض الصحابة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله عن علة اختلاف أشكال القمر، وانه لماذا يكون هلالاً تارة ثم بدراً اُخرى. ثم يعود إِلى سيرته الاُولى هلالاً، نزل الوحيُ الالهي، يبيّنُ بعض حكمة هذه الظاهرة الطبيعية اذ قال تعالى: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾. 2

أي ان اختلاف اشكال القمر وهيئاته انما هو لاجل ان يعرف الناسُ به الوقت والتاريخ فيعرفوا في أي يوم من الشهر هم، في مبدئه أو منتصفه، أو منتهاه، ولكي يعرفوا بواسطة ذلك مواعيد واجباتهم الشرعية والاجتماعية، ويعرف الدُّيّان موعد تسلّم دُيونهم، ويعمَدُ المَدِينون إِلى دفع ما عليهم في وقته، ويقوم المؤمنُون بفرائضهم المقيَّدة بالازمنة والاوقات كالصوم والحج وما شابه ذلك.

من هنا لا مجال للنقاش في احتياج كل اُمة إِلى تاريخ معينٍ ثابتٍ محدّد تجعله ملاكاً للتوقيت، ومداراً لتحديداتها الزمنية.

إِنما الكلام هو في ما ينبغي إتباعه والجري عليه من التواريخ، وتنظيم المستندات والمكاتبات والمواعيد وفقاً له.

وبعبارة اُخرى: إِن الكلام إِنما هو في ما ينبغي جعله مبدأً للتاريخ يقاس به كل العُقودِ والاتفاقات من حيث الزمان، والتوقيت.

فما الذي يصلح او ينبغي إِتخاذه مبدأً للتاريخ للامة الاسلامية؟

الجواب:
إِن الاجابة على هذا السؤال واضحة جداً، وتلك الاجابة هي: اذا كانت لاُمة من الامم حوادث لامعة وسوابق مشرقة في حياتها، وثقافة خاصة بها، ودينٌ ومسلكٌ مستقلّ وشخصيات علمية وسياسية بارزة، واحداث ووقائع عظيمة مثيرة، تبعث على الفخر والاعتزاز، ولم تكن كنبتة وحشية نبتت عفواً واعتباطاً من غير قانون ولا جذور كبعض الجماعات والشّعوب الجديدة الظهور التي لا ترتكز الى اُصول ثابتة معلومة.

فان على مثل هذه الاُمة أن تتخذ من أعظم حوادثها الاجتماعية والدينية مبدأً لتاريخها الذي تقيس، وتنظم عليه بقية حوادثها وأعمالها التي سبقت تلكم الحادثة العظمى، أو التي وقعت او تقع بعدها.

ومن هنا تكون قد اكسبت شخصيتها وكيانها قوةً اكبر، وصانت نفسها من التبعية للشعوب والاُمم الاخرى، والميعان والفناء فيها.

وإِذ لم يكن في تاريخ الاُمة الإسلامية شخصية أعلى شأناً من شخصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، كما لم يكن هناك حادثة أعظم، وانفع من حادثة الهجرة النبوية المباركة، لأن هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله فتحت- في الحقيقة- صفحةً جديدةً في حياة البشرية، فقد خرج رسول الاسلام واتباعه من بيئة مكة الرازحة تحت الكبت، الى بيئة مناسبة حرة مكنتهم من إِحداث انطلاقةٍ كبرى لم يشهد التاريخُ البشريُّ برمّته له مثلاً.

فقد استقبل اهلُ المدينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ومن هاجر معه من المسلمين الى يثرب استقبالاً حاراً، ووضعوا تحت تصرّفه كلَّ ما توفر لديهم من الامكانات والقوى، فلم يمض زمن إِلا وتمتع الاسلام بفضل هذه الهجرة المباركة بتشكيلات سياسية وعسكرية، واتخذ صورة وشكلَ حكومة قوية لها وزنُها، وشأنُها، وجانبُها المرهوب في شبه الجزيرة العربية، وسرعان ما نشر رايته على البسيطة كلها تقريباً، وأسس حضارةً عظمى لم تر البشرية لها نظيراً.

فاذا لم تحدث تلك الهجرة المباركة المعطاء لقُضي على الاسلام في محيط مكة، وحُرمَ العالم الانساني من هذا الفيض العظيم.

من هنا، ولأجل هذا اتخذ المسلمون هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مبدأً لتاريخهم، ودأبوا على ذلك الى الآن حيث ينقضي أكثر من ألف وأربعمائة عام، أي أن هذه الامة الكبرى تركت وراءها إِلى هذا اليوم أربعة عشر قرناً من الأمجاد والمفاخر، وهي الآن على أعتاب القرن الخامس عشر؟. 3

1- زمن تأليف هذ الكتاب.
2- البقرة 189 ومطلعها: "يسألونك عن الأهلة قل: هي مواقيت..".
3- سيد المرسلين / المحقق السبحاني ج2_ لماذا أصبح العامُ الهجريُّ..

2012-01-24