يتم التحميل...

الغيبة من (الأربعون حديثاً)

العلاقة مع النفس

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه.عن رسول الله صلى الله عليه وآله:إن الجلوس في المسجد إنتظارَ الصلاةِ عبادة ما لم يُحدِث. قيل: يا رسول الله وما يحدث؟ قال: الإغتياب

عدد الزوار: 48

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه".

عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "إن الجلوس في المسجد إنتظارَ الصلاةِ عبادة ما لم يُحدِث. قيل: يا رسول الله وما يحدث؟ قال: الإغتياب".

ما هي الغيبة؟
المستفاد من الروايات أن الغيبة هي: "ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه مما يعد نقصاناً في العرف، بقصد الإنتقاص والذم".

ففي رواية عن أبي ذر رضوان الله تعالى عليه: "قلت: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: ذِكرك أخاك بما هو فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته" 1.

وورد في الحديث النبوي الشريف: "هل تدرون ما الغيبة؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذِكرك أخاك بما يكره..." 2.

والمقصود من الأخ هو الأخ في الإيمان لا النسب، و"ما يكره" تعبير عن كل ما فيه نقص عرفاً.

وما ذُكر في التعريف "بقصد الإنتقاص والذم" مستفاد من مضمون الرواية وإن لم تذكر ذلك بشكل صريح، ففي بداية رواية أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله: "والغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها، ثم قال: ... وأكل لحمه من معاصي الله" فلا يسمى أنه أكل لحمه إلا إن قصد الإنتقاص، أما لو قصد الشفقة مثلاً فليست هي أكل للحمه ولا يحتاج إلى طلب المغفرة وهي بالتالي ليست غيبة. ولكن ينبغي الإلتفات إلى أن إشاعة الفاحشة محرمة حتى وإن لم تكن غيبة.

وليس شرطاً أن تكون الغيبة باللسان، فيمكن أن تشمل ذكر عيبه من خلال الكتابة أو الإشارة أو غيرها من وسائل التعبير، ما دام ذاكراً للعيوب قاصداً للإنتقاص، وهو واضح في رواية عائشة قالت: "دخلت علينا امرأة فلما ولّت أومأتُ بيدي أنها قصيرة، فقال  "صلى الله عليه وآله اغتبتيها
" 3.

صورة الغيبة الحقيقية
إن حرمة الغيبية تعد من بديهيات الفقه، وهي من المعاصي الكبيرة والموبقات المهلكة. إن لهذه الخطيئة الكبيرة في عالم الغيب وراء حجاب الملكوت، صورة قبيحة وبشعة تفضح الإنسان في الملأ الأعلى أمام الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين. هذه الصورة البشعة التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ(الحجرات:12).

إن لأعمالنا صوراً وأشكالاً تناسبها ستظهر بتلك الصور والأشكال لتعود إلينا في العالم الآخر،والمغتاب يضاهي الكلاب الجارحة في افتراسه لأعراض الناس ولحومهم، وسيظهر بهذه الصورة  كلب ينهش لحم ميت  في نار جهنم.

وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما رجم الرجل في الزنا، قال رجل لصاحبه: "هذا أُقعِص4 كما يُقعَص الكلب، فمرّ النبي معهما بجيفة، فقال: إنهشا منها، فقالا: يا رسول الله ننهش جيفة؟ فقال: ما أصبتما من أخيكما انتن من هذه" 5.

إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد شاهد بما لديه من قوة نور البصيرة النبوية الغيبية عمل المغتابين وعرف أن جيفة الغيبة أشد نتانة من جيفة الميتة، والصورة الحقيقية للغيبة أشد قبحاً وفظاعة من صورة الميتة المتفسخة. وفي رواية أخرى أن المغتاب يُأكل من لحمه يوم القيامة فعن أمير المؤمنين‏ عليه السلام: "اجتنب الغيبة فإنها إدام كلاب النار، ثم قال: يا نوف كذب من زعم أنه ولد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة" 6.

ومعنى الروايتين أن المغتاب سيصاب بأمرين في جهنم:

فمن جهة يكون على صورة الكلب فيأكل الجيفة، ومن جهة أخرى يكون على صورة الميتة تأكله كلاب جهنم أيضاً، وفي عالم الآخرة يمكن أن يكون للموجود أكثر من صورة وشكل كما هو محقق في محله.

خطورة الغيبة
الروايات في خطور الغيبة أكثر من مجال هذه الصفحات، وسنقتصر على ذكر بعضها:

- الخروج من ولاية الله: عن الإمام الصادق عليه السلام: "ومن اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية الله تعالى داخل في ولاية الشيطان"7.

إن من يخرج من ولاية الله تعالى ويدخل في ولاية الشيطان، لا يمكن أن يكون من أهل النجاة والإيمان.
إن من يؤمن بالله ويصدق بيوم الجزاء ويعتقد أن أعماله ستطارده يوم القيامة وتحشر معه، لا يقترف موبقة كبيرة، تقوده إلى شر المصائب التي هي نار جهنم. فالمغتاب آمن بلسانه ولكنه لم يخلص في قلبه كما هو مستفاد من رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذموا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم..."8.

-أربى الربا: وفي رواية عنه صلى الله عليه وآله، أنه خطب يوماً فقال: "إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم من ست وثلاثين زنية، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم"9.

- أدنى الكفر: عنه صلى الله عليه وآله: "أدنى الكفر أن يسمع الرجل من أخيه كلمة، يحفظها عليه يريد أن يفضحه بها أولئك لا خلاق لهم".

- مشكلته مع الناس: إن هذه المعصية أشد من كافة المعاصي، وآثارها أخطر من آثار الذنوب الأخرى، لأنها بالإضافة لكونها تجاوزاً لحدود الله تعالى، تمس حقوق الناس أيضاً. ولا يغفر الله للمغتاب حتى يرضى صاحب الغيبة، فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله في وصيته لأبي ذر رضوان الله تعالى عليه: "يا أبا ذر إياك والغيبة، فإن الغيبة أشد من الزنا. قلت: ولمَ ذاك يا رسول الله؟ قال: لأن الرجل يزني فيتوب إلى الله فيتوب الله عليه، والغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها" 10.

فلو مات الإنسان وعليه حقوق للناس، فأمره صعب جداً، لأن علاقة الإنسان في حقوق الله تكون مع الكريم الرحيم الذي لا يتطرق إلى ساحته القدسية شي‏ء من البغض والضغينة والعداوة والتشفي، ولكنه في حقوق العباد قد يرتبط بإنسان فيه تلك الصفات الفاسدة ولا يتجاوز عنه بسرعة أو لا يرضى عنه نهائياً.

عقوبة الغيبة
وأما عقوبة الغيبة، فبالإضافة إلى صورته التي سيكون عليها في ذلك العالم والتي أشرنا إليها فيما سبق، يكفي أن نقرأ الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "لما أسري بالنبي صلى الله عليه وآله، قال: يا ربّ ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمد، من أهان لي ولياً فقد بارزنيبا لمحاربة وأنا أسرع شي‏ء إلى نصرة أوليائي"11.

فمن عقاب المغتاب
- فضحه في الآخرة قبل وضعه في النار: عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "... ومن مشى في غيبة أخيه وكشْفِ عورته"12.

وعنه صلى الله عليه وآله: "من اغتاب امرءً مسلماً... وجاء يوم القيامة يفوح من فيه رائحة انتن من الجيفة يتأذى به أهل الموقف"13

- فضحه في البرزخ: فقد روي أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله في بيان حال المغتاب في البرزخ الرواية التالية: "مررت ليلة أسري بي على قومٍ يخمشون وجوههم بأظافيرهم، فقلت: يا جبرئيل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم"14.

- فضحه في الدنيا: إن بعض مراتب الغيبة يدفع بصاحبها على الفضيحة في هذا العالم أيضاً، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذموا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته"15.

إن الله تعالى غيور على المؤمنين، فهتك سترهم وكشف عوراتهم هتكاً لناموس إلهي وكرامته. فلو تجاوز الإنسان الحدود باستهتاره، وهتك حرمات الله، رفع عن لطفه وعنايته وستره وفضحه في هذا العالم أمام الناس قبل أن يفضحه في الآخرة أمام الملائكة والأنبياء والأولياء؟.

- إحباط أعماله ومحو حسناته: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد"16.

وعنه صلى الله عليه وآله: "يؤتى بأحدٍ يوم القيامة يُوقف بين يدي الرب عز وجل ويدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته فيه، فيقول: إلهي ليس هذا كتابي "فإني" لا أرى فيه حسناتي. فيقال له: إن ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس. ثم يؤتي بآخر ويدفع إليه كتابه، فيرى فيه طاعات كثيرة، فيقول: إلهي ما هذا كتابي فإني ما عملت هذه الطاعات. فيقال له: إن فلاناً اغتابك فدفع حسناته إليك"17.

هذه هي الأخبار المأثورة في خصوص الغيبة. في حين أن عناوين أخرى من المعاصي المذكورة في الروايات تنطبق على الغيبة أيضاً وتشملها، فتتبعها تلك الآثام أيضاً مثل: إهانة المؤمن وإذلاله واحتقاره وتعييره وإحصاء عثراته والطعن فيه. وكل من هذه الأمور سبب مستقل لهلاك الإنسان.


المفاسد الإجتماعية للغيبة
إن الغيبة بفسادها هي أقبح وأعظم من كثير من المعاصي، لأنها بالإضافة لكل ما ذكرناه من كونها مفسدة للإيمان والأخلاق والظاهر والباطن وتتسبب بفضيحة الإنسان في الدنيا والآخرة... هي بالإضافة إلى كل ذلك تشتمل على مفاسد إجتماعية أيضاً ولها تأثير سلبي جداً على المجتمع، ولنعرف ذلك علينا أن نطلع على المجتمع المثالي الذي يريده لنا الله سبحانه وتعالى:

إن من شروط تحقق المجتمع الصالح، توحيد الكلمة وتوحيد العقيدة والإتفاق في الأمور الهامة، والحد من ظلم الجائرين الباعث على فساد البشر ودمار القيم الفاضلة.

وهذا الأمر لا يتحقق إلا في ظل وحدة النفوس واتحاد الهمم والتآلف والتآخي والصداقة القلبية والصفاء الباطني والظاهري. بحيث يصبح المجتمع كأنه شخص واحد، والأفراد فيه بمنزلة الأعضاء والأجزاء لهذا الجسد. وتسير كل الجهود والمساعي باتجاه الهدف الإلهي الكبير، وهذه الحالة لو ظهرت في طائفة أو جماعة من الناس لتغلبوا على جميع الطوائف والأمم كما يتضح عند دراسة التاريخ والفتوحات الإسلامية العظيمة. فعندما تمتع المسلمون بشي‏ء من الوحدة واقترنت مساعيهم بشي‏ء من خلوص النية، استطاعوا أن يحققوا في فترة قصيرة إنجازات عظيمة هزموا الجبابرة وانتصروا على الجيوش.

لذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وآله قد أجرى عقد الأخوة في الأيام الأولى بين المسلمين، فسادت الأخوة كما تفيد الآية الكريمة:﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(الحجرات:10).

وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام يقول لأصحابه: "إتقوا الله وكونوا إخوة بررة في الله متواصلين متراحمين. تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا أمرنا وأحيوه"18.

وعنه عليه السلام: "يحق على المسلمين الإجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم الله عز وجل ﴿رُحَمَاء بَيْنَهُمْ..."19.

وعنه عليه السلام: "تواصلوا وتبارّوا وتراحموا وكونوا إخوة بررة كما أمركم الله عز وجل"20.

ومن الطبيعي أن ما يناقض هذه الأخوة ويدفع نحو التمزق يعتبر مناقضاً لأهداف الشريعة ومبغوضاً عند الله تعالى. والغيبة إذا أشيعت فهي سبب للضغينة والحسد والعداوة والبغض وترسيخ جذور الفساد في المجتمع وضعضعة وحدة المجتمع وتضامنه، وفي النهاية لن تورث المجتمع إلا القبائح والفساد، فهي على طرف النقيض من التآلف والتآخي وسبب لقطع بركات تلك الحالة التي أسسها النبي صلى الله عليه وآله من بداية الإسلام.

التوبة والإستدارك
يجب على كل مسلم غيور ملتزم، لصيانة نفسه من الفساد وللمحافظة على المجتمع الإسلامي ووحدته ولتحكيم عقد الأخوة، أن يبتعد عن هذه الرذيلة، ويتوب إلى الله تعالى من هذا العمل البغيض، ويستدرك هذه الغيبة ليتخلص من آثارها السيئة.

عليه أن يسترضي من اغتابه إن كان الإسترضاء ممكنا ولم يلزم منه أي محذور، ولم يكن يفضي إلى مشكلة بينه وبين هذا الإنسان، فيستحله ويطلب منه المسامحة، ولكن لربما الإسترضاء في بعض الحالات يزيد الأمور سوءاً ويتسبب بمشاكل جديدة، تزيد بحالة التشنج والتفرقة، ففي مثل هذه الحالة يترك الإسترضاء وطلب الحلية والمسامحة، ويستعيض عنه بالإستغفار للإنسان الذي اغتابه، فيكون طلب المغفرة له من الله تعالى بمثابة الكفارة على الغيبة التي ارتكبتها بحقه. ثم عليه أن ينعش من جديد في قلبه جذور الصداقة والاتحاد، حتى يصبح من الأعضاء الصالحين في المجتمع.

كيف نعالج هذه الموبقة
إن معالجة هذه الخطيئة العظيمة وغيرها من الخطايا تكون من جهتين: العلم النافع، والعمل.

العلم النافع: أن يفكر الإنسان في الآثار المفيدة التي تتربت على معالجة هذه الموبقة، ويقارنها بالمضاعفات السيئة والآثار الشنيعة التي تترتب على الغيبة، فيعرض كلا الأمرين على العقل ويستهديه لما فيه الحسن والخير والصلاح.

لا يمكن للإنسان أن يعادي نفسه ويتسبب لنفسه بالضرر من خلال ارتكاب المعاصي، ولكن يقترفها بسبب جهله وغفلته عن أسبابها ونتائجها. وتوهمه حصوله على الفوائد والمنافع إذا ارتكبها. كإرضاء رغباته وتضييع الوقت واللهو وإشفاء الغيظ ممن يحسده...

فعليك أن تقف عند آثار الغيبة الشنيعة التي ذكرنا قسماً منها فيما سبق، وتأخذ كل ذلك بعين الإعتبار لتقارن بين حسنات الكف عن الغيبة وسيئات الإنهماك بها. إن هذا التفكر سيوصلك إلى نتائج طيبة.

إن من آثارها الشنيعة في هذا العالم غير ما ذُكر سقوط الإنسان من أعين الناس، وفقدان الثقة به. فإن طبائع الناس مجبولة على حب الكمال والجمال والحسن، والنفور من كل نقص وقبح وانحطاط. فالناس يميزون ويفرقون بين من يتجنب هتك أستار الناس وكشف أعراضهم وأسرارهم، وبين غيره، بل حتى الذي يقوم بالغيبة يجد في قرارة نفسه أن من يتجنب الغيبة أفضل منه وأكمل.

ومن المحتمل أن تؤدي الغيبة إلى سوء العاقبة، لأنها إن ترسخت في النفس تركت آثاراً سيئة كالضغينة والعداوة تجاه المستغاب، وهذه الصفات ستزداد بشكل تدريجي، حتى إذا دنا أجله وانكشفت عنه الحجب ورأى المقامات الشامخة للذين اغتابهم، قد تتوجه كراهته للحق تعالى، لأن الإنسان بطبيعته يعادي محب عدوّه، ويبغض محب مبغضه. فيخرج من الدنيا وهو كاره للحق والملائكة ويمنى بالخذلان الأبدي والشقاء الدائم.

فعليك إذن أن تصادق عباد الله الذين تشملهم رحمة الله ونعمه، ويتزينون بالإسلام والإيمان ولتحبهم في قلبك، وإياك أن تعادي محبوب الحق تعالى. لأنه تعالى يعادي أعداء أحبته، وسيبعدك عن ساحة رحمته. خصوصاً إذا عرفت أن عباد الله المخلصين مجهولون بين سائر عباده، ومن الممكن أن يعود عداؤك لمؤمن وهتك حرمته وكشف عورته إلى هتك حرمة الله تعالى ومعاداته! "ويل لمن شفعاؤه خصماؤه".

فهذه الربع ساعة من الثرثرة واللغو في الحديث لأجل تحقيق رغبة وهمية هل تستحق أن تعاني لأجلها تلك الآلاف من سنين المعاناة  على الأقل ، أو ربما الخلود المؤبد في النار.

وتأمل في الروايات التي تخبرك بأن حسناتك ستنتقل إلى ذاك الشخص الذي تستغيبه، وسيئاته ستنتقل إليك، فأنت في الحقيقة عاديت نفسك بالإستغابة بدل أن تعاديه، وأضريت بنفسك بدل أن تضره.

وأما من الناحية العملية: فلا بد من كف النفس عن هذه المعصية ولو لبعض الوقت ولفترة محددة تجددها بعد ذلك، مهما كان صعباً، ولجم اللسان، والمراقبة الكاملة للنفس، ومعاهدة النفس بعدم اقتراف هذه الخطيئة، ومراقبتها والحفاظ عليها ومحاسبتها، وتستطيع إصلاح نفسك بفترة قصيرة، حتى تصل لمرحلة تحس فيها بالتنفر من الغيبة بطبيعتك، بل تحس بأن راحة النفس ومتعتها بترك الغيبة.

الأفضل ترك الموارد الجائزة للغيبة
هناك بعض الحالات التي استثناها الفقهاء  رضوان الله تعالى عليهم من حرمة الغيبة واعتبروا أن الغيبة فيها غير محرمة تبلغ في بعض كلماتهم عشرة حالات.

وهذه الموارد بعضها يجوز فيها الغيبة وبعضها يجب. ولسنا بصدد عرض هذه الموارد لأنه بحث فقهي، وما يجب أن نلتفت إليه هنا أن مكائد النفس دقيقة وخفية فيمكن أن تخدع الإنسان عن طريق الشرع وتوقعه في الهلكة، فتأخذ هذه الموارد التي يجوز فيها الغيبة كغطاء وتبرير للوقوع في الحرام، فيسمح لنفسه بالبحث عن عيوب الناس وإشاعتها في المجتمع. فعلينا أن نتحرك في هذا الموضوع بغاية الدقة، ولا ننخدع عن طريق الشرع.

ففي الحالات التي يجب فيها الغيبة كغيبة الإنسان المتجاهر بالفسق إذا توقف ردعه على استغابته، فاستغابته هنا واجبة من باب النهي عن المنكر. فلا بد من ارتكابها، ولكن يجب أن يتأمل الإنسان بأن الدافع النفسي لغيبته هو النهي عن المنكر، أم أنه أهواء شيطانية ورغبة نفسية بسبب عداوته وحب التشفي منه؟ فإن كان الهدف هو النهي عن المنكر والدافع الإلهي فعمله من العبادات، وكانت غيبته إحساناً وإنعاماً على المغتاب وإن لم يعرف ذلك. ولكن إذا كان الدافع هو الأهواء الفاسدة فلا بد من تخليص النية عن هذه الشوائب والإخلاص لله سبحانه وتعالى.

وأما في الحالات التي تجوز فيها الغيبة ولا تجب، فالأفضل أن لا يرتكبها أساساً، حتى لا تكون عناوين الجواز مجرد تبرير للوقوع في الغيبة من جهة، وحتى لا تتعود نفسه على الغيبة من جهة أخرى  حتى في الموارد الجائزة  ، فإن تعويد النفس على الغيبة في الموارد الجائزة يضر بها، ويجعلها تميل نحو الشرور والقبائح، ومن المحتمل أن ينجر بشكل تدريجي إلى الوقوع في الغيبة في الحالات المحرمة أيضاً.

الاستماع للغيبة حرام
كما أن الإستغابة حرام فكذلك الإستماع للغيبة حرام، وهو من الكبائر أيضاً، ويظهر من بعض الروايات أن حكم الإستماع كحكم الإستغابة حتى في مثل التسامح من المغتاب.

فعن علي عليه السلام: "السامع أحد المغتابَين"21.

بل يظهر من الروايات وجوب رد الغيبة، وهو غير النهي عن الغيبة، والمقصود منه الإنتصار للغائب بما يناسب. ففي وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: "يا علي من اغتيب عنده أخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ينصره خذله الله في الدنيا والآخرة"22.

*الأخلاق من (الأربعون حديثاً)،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية،ط 2 ،2007م ،ص125-138



1- وسائل الشيعة، المجلد الثامن، باب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 16.
2- وسائل الشيعة، المجلد الثامن، الباب 152 من أبواب أحكام العِشرة، الحديث 9.
3- المحجة البيضاء، المجلد 5، صفحة 256.
4- القعص: القتل.
5- المحجة البيضاء، المجلد الخامس، ص‏253.
6- وسائل الشيعة – المجلد الثامن باب 125 من أبواب أحكام العشرة, الحديث 16.
7- بحار الأنوار المجلد 75 باب الغيبة الحديث 12.
8- أصول الكافي، المجلد 2، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب عثرات المؤمنين، حديث 2.
9- المحجة البيضاء، المجلد الخامس، ص‏264.
10- وسائل الشيعة، المجلد 8، الباب 152 من أبواب أحكام العِشرة، حديث 9.
11- أصول الكافي المجلد 2 كتاب الإيمان والكفر باب من آذى المسلمين حديث 8.
12- عقاب الأعمال ص 340.
13- وسائل الشيعة، المجلد 8، الباب 152 من أبواب أحكام العِشرة، حديث 13.
14- المحجة البيضاء، المجلد الخامس، ص‏251.
15- أصول الكافي المجلد 2 كتاب الإيمان والكفر باب من آذى المسلمين حديث 2.
16- المحجة البيضاء، المجلد الخامس، ص‏264.
17- جامع الأخبار، ص‏171.

18- أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، حديث.
19- أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، حديث 4.
20- أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، حديث 3.
21- غرر الحكم، المجلد الثاني، ص‏12.
22- وسائل الشيعة، المجلد الثامن، الباب 156، من أبواب أحكام العِشرة، الحديث 1.
2009-08-03