يتم التحميل...

وجه إعجاز القرآن وكونه كتاباً خارقاً للعادة

القرآن معجزة النبي (ص)

إنّ السيرة النبوية قديمها وحديثها، ضبطت إعتراف مجموعة كبيرة من فُصحاء العرب بهذا الأمر، ونحن نأتي ببعض ما ظهرناعليه.إعتراف الوليد بن المُغيرة ريحانة العرب:كان رسول الله لا يكف عن الحطّ من آلهة المشركين، وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً ومن حُكماء العرب...

عدد الزوار: 22

في إثبات إعجاز القرآن إعتراف بُلغاء العرب بإعجاز القرآن البياني
إنّ السيرة النبوية قديمها وحديثها، ضبطت إعتراف مجموعة كبيرة من فُصحاء العرب بهذا الأمر، ونحن نأتي ببعض ما ظهرنا عليه.


إعتراف الوليد بن المُغيرة ريحانة العرب
كان رسول الله لا يكف عن الحطّ من آلهة المشركين، وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً ومن حُكماء العرب1، يتحاكمون إليه في أُمورهم، وينشدونه الأشعار، فما اختاره من الشعر كان مقدَّماً ومختاراً. وقد كان من المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

ويروي التاريخ أنّ الوليد الّذي يصفه العرب بريحانتهم وحكيمهم  سمع الآيات التالية من النبي الأكرم: ﴿حَم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَ قَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَ الأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّة بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّار(غافر:1-6). فلما سمع ذلك قام حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: "والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإِنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لُمْثمِر، وإِنّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقْ، وإِنّه لَيْعلو وما يُعْلى عليه".ثم انصرف إلى منزله2.

ولعلّ الوليد أوّل من تنبّه إلى عظمة القُرآن وآي الذكر الحكيم، وهو من بُلغاء عصر الوحي وزمن نزوله، ومن شيوخ قُريش وعوارف العرب في الأدب الجاهلي، والخبراء بصناعة الإنشاء، ومن هذه المنطلقات جاءت كلمته المأثورة تلك، سبيكة مرصعة، تعدّ أول تقريض ناله القرآن من خبراء عصره ومصره، وإنْ حمله المحدثون إلينا عارياً عن التفسير. ولعمري إنّها شهادة من الخبير العدو، الّذي التجأ إلى الإعتراف بدافع من ضميره، وإن أثر عنه تفسير آخر للقرآن الكريم دفعه إليه تعلقه بدين آبائه وسنن قومه، سيوافيك نقله. ولأجل كونِ هذه الكلمة من أُستاذ البلاغة، كلمةً شارحةً لوجهة إعجاز القرآن في عصر الرسالة، نشرح بعض جملها.

1ـ قوله: "ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ". معناه أنّ المعروف من كلام الإنس المنثور، سبك العبارات غير مقيدة بالأسجاع والقوافي، فإذا أتوا بهما على عفو الخاطر، لم يلتزموا بها متقاربة قصيرة الخطوات، بخلاف كلمات الجن الّتي سمعوها على ألسنة الكهنة كعبارات مجملة صغيرة الحجم، كثيرة المقاطع مقرونة بأسجاع وقوافي، وعليها مسحة من غرابة الألفاظ ومجانسة الحروف وغموض المعاني.

فَلَوَّح الوليد إلى أنّ هذا القرآن ليس من هذا القبيل; لا هو على أساليب كلام الناس، ولا على أساليب كلام الكهنة المترجمة للغة
الجن والشياطين، ولا مزيجاً من هذا وذاك.

2ـ قوله: "إنّ له لحلاوة": يريد أنّه شهي جذّاب للنفوس، جلاّب للميول، خلاّب للعقول، ترتاح إليه الأرواح.

3ـ قوله: "وإنّ عليه لطلاوة"، أي إنّه محلّى بألفاظ جميلة وأنغام مقبولة.

4ـ قوله: "إنّ أعلاه لمثمر وأسفله لمغدق"، يريد أنّ القرآن كشجرة كبيرة، غصونها زاخرة بالثمار وجذورها مستحكمة واسعة الإنتشار في أعماق الأرض3.

2ـ إعتراف عُتبة بن ربيعة
حين أسلم حمزة بن عبد المطلب، ورأت قريش أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون، قام عُتبة بن ربيعة يوماً في نادي قريش، ورسول الله حينها جالس في المسجد وحده، وقال: "يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأُكلّمه، وأعرض عليه أُموراً، لعلّة يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، ويكفّ عنّا؟".

فقالوا: "بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلّمه".

فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله، فقال: "يابن أخي، إنّك منّا حيث علمت، من السّطّة4 في العشيرة، والمكان في النسب، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فَرَّقْتَ به جماعتهم، وسَفَّهْتَ به أَحلامهم، وعِبْتَ به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أُموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها".

فقال له رسول الله: "قل يا أبا الوليد، أَسْمَعْ". فاقترح عليه أُموراً5.

فلما فرغ عتبة من كلامه، قال رسول الله: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟".

قال: "نعم".

قال: "فاسمع مني".

قال: "أَفعل".

فقال: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * حَم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْم يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَ قَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّة مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَ فِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنَا وَ بَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُون * ...(فصّلت:1-5).

ثم مضى رسولُ الله فيها يقرأُها عليه، و "عتبة" منصت لها، ملقياً يديه خلف ظهره، معتمداً عليهما، مذهولاً، إلى أن انتهى رسول الله إلى آية السجدة منها6 فسجد.

ثم قال: "قد سمعت يا ابا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك".

فقام عُتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: "نحلف بالله، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الّذي ذهب به".

فلما جلس، إليهم قالوا: "ما وراءك يا أبا الوليد"؟.

قال: "ورائي أنّي قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أَطيعوني واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الّذي سمعت منه نبأٌ عظيم. فإنْ تصبه العرب فقد كُفِيتموه بغيركم. وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أَسْعَدَ الناس به".

قالوا: "سَحَرَكَ والله يا أَبا الوليد بلسانه".

قال: "هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم"7.

3- تأثير آيتين
إنّ حلاوة القرآن كانت بمكانة ربما يؤثّر سماع آيتين أو أكثر في نفس السامع، بحيث يخضع له وللجائي به غبّ سماعه منه، ويرفض الوثنية، وينخرط في صفوف الموحدين، وينتظم في عدادهم، وما ذاك إلاّ لأنّه يجد من صميم ذاته أنّه كلام سماوي لا غير. ويدلّ على ذلك ما نسرده عليك من تاريخ دخول الخزرجيين في الإسلام.

كان بين الأوس والخزرج حروب طاحنة، وكانوا لا يضعون السلاح لا باليل ولا بالنهار، وكانت آخر حرب سجلت بينهم يوم "بعاث"، وكان النصر حليف الأوس على الخزرج، ولأجل ذلك خرج أسعد بن زرارة وزكوان الخزرجيَّينْ، إلى مكة في عمرة رجب، يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زُرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه، فقال له:

"إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب، وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم".

فقال عتبة: "بعدت دارنا عن داركم، ولنا شغل لا نتفرغ لشيء".

قال: "وما شغلكم وأنتم في قومكم وأمنكم".

قال له عتبة: "خرج فينا رجل يدعي أنّه رسول الله، سَفّه أحلامنا، وسَبّ آلهتنا، وأفسد شبابنا،، وفرّق جماعتنا".

فقال له أسعد: "من هو منكم"؟.

قال: "ابن عبد الله بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً".

فلما سمع ذلك أَسعد، قال: "فأين هو"؟.

قال: "جالس في الحجر، وإنّهم لا يخرجون من شِعْبِهِمْ إلاّ في الموسم، فلا تسمع منه ولا تكلّمه، فإنّه ساحر يسحرك بكلامه".

وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد: "فكيف أصنع وأنا معتمر، لا بُدَّ لي أَن أطوف بالبيت".

فقال: "ضع في أُذُنَيْكَ القُطُن".

فدخل أسعد المسجد، وقد حشا أُذنيه من القُطن، وطاف بالبيت، ورسول الله جالس في الحجر، مع قوم من بني هاشم. فنظر إليه نظرة، فجازه. فلما كان في الشوط الثاني، قال في نفسه: "ما أَجد أَجْهَلَ مني. أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أعرفه، حتى أرجع إلى قومي فأُخبرهم"، ثم أخذ القُطُن من أُذنيه ورمى به. فلما وصل إلى رسول الله، قال له: "أَنْعِمْ صباحا".

فرفع رسول الله رأسه إليه، وقال: "قد أَبْدَلَنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم".

فقال له أسعد: "إنّ عهدك بهذا القريب. إلى مَا تدعو يا محمد"؟.

قال: "إلى شهادة أنّ لا إله إلاّ الله، وأَنّي رسول الله".

ثم قرأ هاتين الآيتين:﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ألاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَ لاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ لاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَ لاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَ إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(الأنعام:151ـ152).

فلما سمع أسعد، قال: "أشهد أن لا إله إِلاَّ الله، وحده لا شريك له، وأَنَّكَ رسولُ الله. بأبي أنت وأُمّي، أنا من أَهل يثرب ومن الخزرج، وبَيْنَنا وبَيْنَ إخواننا من الأَوس حبال مقطوعة، فإنْ وصلها الله بك، فلا أجد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي، فإنْ دخل في هذا الأمر، رجوت أن يُتِمَّ الله لنا أمرنا فيك... فالحمد لله الّذي ساقنا إليك، والله ما جئت إلاّ لنطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل ما أتيت له".

ثم أقبل زكوان، فقال له أسعد: "هذا رسول الله الّذي كانت اليهود تبشرنا به، وتخبرنا بصفته، فَهَلُمّ فأَسلم". فأَسلم زكوان. ثم قالا: "يا رسول الله، إبعث معنا رجلاً يعلمنا القُرآن، ويدعو الناس إلى أَمرك".

فأمر رسول الله معصب بن عُمير وكان فتى حدثاً مُتْرَفاً بين أَبويه، يكرمانه ويفضلانه على أولادهم، ولم يخرج من مكة، فلما أسلم جفاه أبواه، وكان مع رسول الله في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد، وقد كان يعلم من القرآن كثيراً أمره بالخروج مع أسعد وزكوان، فخرج معهما إلى المدينة، وقدما على قومهما وأخبراهم بأمر رسول الله وخَبَره، فأجاب من كلّ بطن، الرجل والرجلان8.


ترى أنّ سماع الآيتين يصنع من الكافر الوثني مسلماً موحّداً، شهماً هماماً، يفدي بنفسه وماله في طريق دينه، وما ذاك إلاّ لتيقّنه من أنّ القرآن كلام سماوي خارج عن طوق قدرة البشر. وقد كان النصر حليف بعيث رسول الله، وما كان ذاك، إلاّ لأنّه كان يقرأ ما نزل من القرآن وَحَفِظَهُ، حتى أنّ أُسيد بن الحضير رئيس الخزرجيين لما سمع منه قوله سبحانه: ﴿حَم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيّاً لِقَوْم يَعْلَمُونَ(فصلت:1-3)، ظهرت أَمارات الإيمان في وجهه، فبعث إلى منزله من يأتيه بثوبين طاهرين، واغتسل، وشهد الشهادتين، ثم قام وأخذ بيد مُصعب وقال: "أَظْهِر أَمرَكَ ولا تهابَنَّ أَحداً".

ولما كان للقرآن تأثيره العجيب في نفوس الشباب، إحتالت قريش في اللَّبس على الناس باللجوء إلى جملة من الأعمال الوقائية، لِتَصُدَّ تأثير القرآن في النفوس المتهيئة لقبول الحق، تعرّض لها التاريخ والسير النبوية، أهمها:

1 ـ منع الناس، وخاصةً الشخصيات والوجهاء، من سماع القرآن ومقابلة الرسول.
2 ـ عزو القرآن إلى السحر.
3 ـ دعوة القصاصين لسرد أخبار الأُمم.
 

وكلُّ ذلك يدلّ على أنّ القرآن كان كلاماً ممتازاً فائقاً كلام البشر، له تأثير فريد في النفوس بحيث يجذب إليه الناس بمجرّد سماعهم، بلا اختيار. وفيما يلي بيان هذه الأعمال:

1 ـ منع سماع القرآن
يحكي لنا القرآن أنّ المشركين تواصوا بترك سماع القرآن والإلغاء عند قراءته في قوله: ﴿وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرَوُا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون(فصلت:26). أي عارضوه باللّغو بما لا يُعْتَدُّ به من الكلام، حتى لا يصل كلامه إلى أسماع الآخرين.

ومع ذلك كله فأولئك الذين كانوا مبدءاً لردع الشباب عن سماع القرآن، قد نقضوا عهودهم، لشدّة التذاذهم من سماعه.

فهؤلاء ثلاثةٌ من بُلغاء قريش وأَشرافهم وهم أبو سفيان بن حرب، وأبو جهل بن هشام، والأخنس بن شريق، خرجوا ليلة ليستمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلّي من الليل في بيته، فأخذ كلُّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر، تفرّقوا، فجمعهم الطريق فتلاقوا وقال بعضهم لبعض: "لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً" ثم انصرفوا.

حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كلُّ رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثلما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا.

حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كلّ رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: "لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود"، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرّقوا9.

فلو كان القرآن كلاماً، يشبه كلام الإنس ويوازنه ويعادله، لم يكن هناك أي وازع لهؤلاء الصناديد الذين يعدّون في الطليعة والقمة من أعداء النبي، أن يهجروا فرشهم، ويُقلوا دفء دُثُرهم، ويبيتوا في الظلام الحالك على التراب، حتى يستمعوا إلى كلامه ومناجاته في أحشاء الليل في صلاته ونسكه، وما هذا إلاّ لأنّ القرآن كان كلاماً خلاّباً، لعذوبة ألفاظه وبلاغة معانيه، رائعاً في نظمه وأُسلوبه، لم يكن له نظير في أوساطهم، ولا في كلمات بُلَغائهم وفُصَحائهم، وهم الفُصحَاء والبُلغاء ومن يشار إليهم في تلك العُصور.

ومن الحبائل الّتي سلكوها لصدّ تأثير القرآن، منع متشخصي المشركين من لقاء الرسول، خصوصاً من كان لإسلامه تأثير خاص في إيمان قومه بدين الرسول.

ومن تلك الشخصيات الطفيل بن عمر الدوسي، فقد قدم مكة ورسول الله بها، فمشى إليه رجال من قريش وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً، فقالوا له: "يا طُفيل إنّك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الّذي بين أَظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرّق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنّما قوله كالسحر، يفرّق بين الرجل وأبيه، وبينه وأخيه وزوجته، وإنّا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا، فلا تكلِّمَنَّه، ولا تَسْمَعَنَّ منه شيئاً".

يقول الطفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أَجْمَعْتُ أَن لا أسمع منه شيئاً ولا أَكلَّمه، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفاً، فَرَقاً من أَنْ يَبْلُغني شيء من قوله، وأنا لا أُريد أَنْ أَسمعه.

قال: فغدوت إلى المسجد، فاذا رسول الله قائم يصلي عند الكعبة.

قال: فقمت منه قريباً فأبى الله إلاّ أن يُسْمِعني بعض قوله فسمعت كلاماً حسناً، فقلت في نفسي: "واثكل أُمّي، والله إنّي لرجل لبيب، شاعر، ما يخفى عَلَيّ الحَسَن من القبيح، فما يمنعني أن أَسمع من هذا الرجل. فإن كان الّذي يأتي به حسناً قَبِلته وإن كان قبيحاً تَرَكْتُه". فمكثت حتى انصرف رسول الله إلى بيته، فاتبعته، حتى إذا دخل بيته، دخلت عليه، فقلت:

"يا محمد إنّ قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوّفونني أمرك حتى سددت أُذُنَيَّ بكُرسف، لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلاّ أن يسمعني قولك، فسمعته قولاً حسناً، فاعرض عَلَيَّ أمرك".

قال: فعرض عَلَيَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام وتلا عَلَيَّ القرآن. فلا والله ما سمعت قولاً قطّ أحسن منه ولا أمراً أعدل منه.

قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق10.
 

وممّا نقل في هذا المجال أنّ الأعشى، أحد شعراء العرب، الطائر الصيت، بلغ إليه الإسلام، فخرج يريده، فمدح النبي بقصيدة أدرج فيها كثيراً من تعاليم الإسلام، مستهلها:

أَلم تَغْتَمِض عيناك ليلة أرمدا   وبت كما بات السيلمُ مُسَهَّداً

إلى أن قال:

 

نبياً يـــــرى ما لا تـــرون، وذكــــره

أغار لعمري في البلاد وأنجـــــدا 

فإيـــــــــاك والميـتـات لا تقربنـــــها

ولا تأْخُذَن سهماً حديداً لتفصـــدا

وذا النُّصـب المنصـوبَ لا تنســــكنَّهُ

ولا تعبد الأوثان، والله فاعـبــــدا

ولا تقربـن حــــرّة، كان ســــــرُّهــا

عليك حراما، فانكحن أو تأبّــــــدا

وذا الرحـــم القربـــى فـــلا تقطعنّـه

لعاقبة ولا الأســــــير المقيّــــــدا

وسبّح على حين العشيات والضُحى

ولا تحمد الشيطان والله فاحمـــدا











فلما ورد الأعشى مكة، اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره، فأخبره أنّه جاء يريد رسول الله ليسلم فقال له: يا أبا بصير، إنّه يحرّم الزنا.

فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر مالي فيه أرب.

فقال له: يا أبا بصير، فإنّه يحرّم الخمر.

فقال الأعشى: أمّا هذه فوالله إنّ في النفس منها لعلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأُسلم، فانصرف. فمات في عامه ذلك، ولم يعد إلى رسول الله11.

2ـ عزو القرآن إلى السّحر
أدرك فُصحاء قريش وبُلَغاؤهم أنّ القرآن لا يشبه كلام الإنس، وهو فوق كلامهم، ولما كان مقتضى العجز، اعتناق الدين الّذي كان النبي يدعو إليه، خدعوا عقولهم وعقول قومهم بتفسيره بالسحر، بحجة أنّ السحر يفرّق، والقرآن أيضاً فرّق بينهم. وهذا هو ريحانة قريش، الوليد بن المغيرة، وقد اجتمع مع رؤساء قريش في دار الندوة، فقال لهم:"إنّكم ذوو أحساب وذوو أحلام، وإن العرب يأتونكم، فينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا أمركم على شيء واحد. ما تقولون في هذا الرجل؟".

قالوا: "نقول:

1- إنّه شاعر".

فعبس عندها، وقال: "قد سمعنا الشعر، فما يشبه قوله الشعر". فقالوا:

2- "إنّه كاهن".

قال: "إذاً تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكَهَنة". قالوا:

3- "إنّه لمجنون".

فقال: "إذاً تأتونه، فلا تجدونه مجنوناً". قالوا:

4-"إنّه ساحر".

قال: "وما الساحر"؟.

قالوا: "بشر يحببون بين المتباغضين، ويبغِّضون بين المتحابين".

قال: "فهو ساحر".

فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبي إلاّ قال:

"يا ساحر، يا ساحر".

واشتدّ على النبي ذلك، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ذَرْني وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَ بَنِينَ شُهُوداً * وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقْهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ(المدثر:11ـ25).

وفي رواية، بعدما وصف الوليد ما سمع من كلام محمد، بقوله: "ما هو من كلام الإنس الخ.." ذهب إليه أبو جهل، فقعد إلى جنبه حزيناً، فقال له الوليد: "ما لي أراك حزيناً يابن أخي".

قال: "هذه قريش يعيبونك على كبر سنك، ويزعمون أنَّك زيّنت كلام محمد".

فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه، فقال: "أتزعمون أنّ محمداً مجنون، فهل رأيتموه يخنق"؟.

فقالوا: "اللهم لا".

قال: "أتزعمون أنّه كاهن، فهل رأيتم عليه شيئاً من ذلك"؟.

قالوا: "اللهم لا".

قال: "أتزعمون أنّه شاعر، فهل رأيتموه أنّه ينطق بشعر قطّط"؟.

قالوا: "اللهم لا".

قال: "أتزعمون أنّه كذّاب، فهل جَرّبتم عليه شيئاً من الكذب"؟.

قالوا: "اللهم لا".

فقالت قريش للوليد: "ما هو؟".

فتفكّر في نفسه، ثم نظر وعبس، فقال: "ما هو إلاّ ساحر. ما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله، وولده وموإليه؟. فهو ساحر، وما
يقوله سحر يُؤْثَر"12.

إنّ تفسير القرآن بالسحر، وتوصيف الداعي بالساحر "كما نقله القرآن في غير واحد من آياته" أدلّ دليل على أنّ فُصَحاء العرب وجدوا العجز في أنفسهم ورأوا أنّ الهزيمة في حلبة السباق معقودة بنواصيهم، فما وجدوا مخلصاً لتعمية من يفد على مكة في أيام الحج من عرب الجزيرة إلاّ بتفسيره بشيء ينطلي على طباع السُّفهاء وأذهان السذج من الناس، وهو أنّه سحر والجائي به ساحر، بحجة الإشتراك في الأثر.

وعلى ضوء ذلك تعود كلُّ الشرائع السماوية سحراً والأنبياء سحرة، بحجة أنّهم كانوا يفرّقون بشرائعهم بين أفراد الامة الواحد13.

وكيف يكون القرآن سحراً، والسحر لا يبقى بعد موت الساحر، ولا يؤثّر في أقوياء النفوس، وها هو القرآن قد مَرَّ عليه حتى اليوم أربعة عشر قرناً، ولما يزل غضّاً طرياً كما كان، لم يتضاءل نوره وأثره بمرور الزمان، وتوالي الأعقاب في الأحقاب، كما خضع له أعاظم أهل الفكر والتعقل من البشر.

 


3ـ دعوة القصاص لسرد الأساطير
وقد عمد رؤساء قريش، لإحباط تأثير القرآن الكريم ـ بعد أن رأوا أنّ الناس يدركون بفراستهم وفطنتهم أنّ للقرآن جاذبية غريبة لم يسبقه كلام في الحلاوة، ولا حديث في العذوبة، ولا عبارات في العمق، يتقبّله كل قلب واع، وتسكن إليه كل نفس مستعدة عمدوا إلى تخطيط تدبير آخر، ظنّاً منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه، ألا وهو معارضة القرآن الكريم، بدعوة النضر بن الحارث ليسرد للناس أخبار ملوك الفرس وقصصهم وحكايتهم وأساطيرهم، وما طلبوا منه القيام بهذا العمل إلاّ ليلهي به الناس عن الإصغاء إلى القرآن الكريم.

فقام بهذا العمل ولكن كانت خطتهم، خطة حمقاء إلى درجة أنّها لم تدم إلاّ عدّة أيام، لأنّ قريشاً سئمت من أحاديث النضر، وتفرّقت عنه14.

*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص245-258
 

1- وهو عمّ أبي جهل بن هشام.
2- مجمع البيان، ج 5، ص 387.
3- يقال غدق المطر، إذا كثر قطره. وأغدقت الأرض، إذا أخصبت. وأغدق العيش، إذا أتّسع. وفي بعض المنقولات: "مُعْذِق" بالذال.
4- السّطّة: الشرف
5- منها أن يتنازل عن دعوته فتتخذه العرب ملكاً، وتجمع إليه أموال طائلة، وغير ذلك.
6- سورة فصلت الآية 28.
7- السيرة النبوية، لابن هشام، ج 1، ص 293 ـ 29.
8- اعلام الورى لاعلام الهدى ن ص 37 ـ 38.
9- سيرة ابن هشام، ج 1، ص 315.
10- السيرة النبوية، لابن هشام، ج 1 ص 382 ـ 383.
11- السيرة النبوية لابن هشام: ص 386. وأضاف الشهرستاني في كتابه "المعجزة الخالدة" ص 21: واجتمعت عليه قريش لما سمعت بخبره وبمدحه النبي الأُمي في قصيدة دالية، جاء بها ليجعلها تقدمة إيمانه وإذعانه، وقالوا للأعشى: "إنْ أنشدته هذه القصيدة لم يقبلها منك". ولم يزالوا يخدعونه ويمنعونه حتى سافر إلى اليمامة، وقال: "أقضي أياماً هناك ثم أعود إليه".
12- مجمع البيان، ج 5، ص 386 ـ 387.
13- قد ورد تفسير القرآن بالسحر، والداعي بالساحر، في عدّة آيات منها في الأول الصافات: الآية 15، الأحقاف: الآية 7، سبأ: الآية 43. وفي الثاني: يونس: الآية 3، ص: الآية 4.
14- لاحظ السيرة النبوية، ج 1، ص 300و358.

2009-07-24