يتم التحميل...

الإمامة ومهمة بيان الدين بعد النبي

الإمامة والخلافة

ان إحدى الأبعاد التي ترتبط بالإمامة هي مسألة الحكم، أي ما هو التكليف الذي تصير إليه الحكومة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم . فهل تناط إلى الأمة، فيعهد إليها وجوب انتخاب الحاكم من بينها، أم أنّ النبي عيَّن بنفسه الحاكم الذي يخلفه من بعده؟ لقد دأبوا مؤخرا على طرح المسألة بهذه الصيغة، ممّا قاد إلى أن تتجه الأذهان بالضرورة إلى نظرية أهل السنة...

عدد الزوار: 22

....ان إحدى الأبعاد التي ترتبط بالإمامة هي مسألة الحكم، أي ما هو التكليف الذي تصير إليه الحكومة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم . فهل تناط إلى الأمة، فيعهد إليها وجوب انتخاب الحاكم من بينها، أم أنّ النبي عيَّن بنفسه الحاكم الذي يخلفه من بعده؟

لقد دأبوا مؤخرا على طرح المسألة بهذه الصيغة، ممّا قاد إلى أن تتجه الأذهان بالضرورة إلى نظرية أهل السنة، لأنها النظرية التي تبدو في نظرهم أكثر انسجاما وألفة مع طبيعة الأشياء.

الطرح الخاطئ للمسألة
أخذوا يطرحون المسألة بالصيغة التالية: لدينا قضية بعنوان الحكومة، نريد أن نعرف موقف الإسلام من الحكم؟ فهل هو وراثي أم تنصيصي، ينص الحاكم الحالي على الذي يليه ويعينه للناس، من دون أن يكون للأمة شأن التدخل في أمر الحكومة؟ فالنبي يعين شخصاً حاكماً للأمة من بعده، والذي يعينه النبي ينصّ على الذي يليه، وهكذا يمضي الحال إلى قيام الساعة، بحيث تكون الحكومة تعيينية - تنصيصية أبدا.

إذا كان الأمر كذلك، فهذه "القاعدة" لا تختص ضرورة بالأئمة الأثني عشر وحدهم، لأن عدد الأئمة في المعتقد الشيعي هو اثنا عشر إماما لا يقبل الزيادة أو النقصان، في حين تحكي هذه الرؤية وجود قانون عام يضبط الحكم في الإسلام، يجب على النبي بمقتضاه أن يعين للأمة الحاكم الذي يليه، والحاكم الذي ينص عليه النبي يعين الذي يليه، ليستمر الأمر على هذا المنوال حتى قيام الساعة.

في ضوء هذه الرؤية تبقى قضية قواعد الحكم في الإسلام خاضعة لضابطة هذا القانون العام، حتى لو اكتسح الإسلام العالم، كما حصل ذلك فعلاً حين سيطر الإسلام على نصف العالم وانضوى تحت لوائه اليوم ما يناهز السبعمائة مليون مسلم1 فإذا أريد الالتزام بالأحكام الإسلامية وتطبيقها من خلال حكومة واحدة أو حكومات متعددة، فلا مناص من الالتزام بفحوى ذلك القانون العام.

فحينما نقول أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عيّن عليّاً عليه السلام من بعده، فإن ذلك ينطلق في حقيقته من هذا الأصل أو القانون العام الذي يُفيد أن الحكومة يجب أن تكون بالتعيين والتنصيص. ووفق هذه الفلسفة ليس ثمة ضرورة أبدا في أن يعين النبي علياً حاكماً من بعده من قبل الله، لأن بمقدور النبي أن يبين أمراً من خلال الوحي الذي يتلقاه، والأئمة من بعده يفعلون ذلك لكونهم ملهَمين أوّلاً ويتلقّون العلوم من النبي ثانيا، بيدَ أن الأمر لا يستمر من بعدهم على هذا المنوال.

إذن لو كان الأصل العام للحكومة في الإسلام قائماً على أساس وجوب انبثاق الحاكم بالنص والتعيين، لما كان ثم ضرورة حتى لتعيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام من قبل السماء عن طريق الوحي، بل كان بمقدوره أن يعينه من بعده بنظره وبما يراه صوابا، وكذلك يفعل الأئمة عليهم السلام من بعده، فيعين كل واحد منهم الذي يليه بما يراه هو صلاحاً.

في ضوء هذا المنطق، تنزل قضية تعيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام خليفة من بعده، إلى مستوى (إداري) من قبيل ما يقوم به من تعيين والٍ على مكة، أو انتخاب أمير على الحجاج. فكما لا يذهب أحد للقول أن ما فعله النبي من تعيين أحدهم والياً على مكّة حاكماً عليها، أو ما قام به مثلاً من إرسال معاذ بن جبل مبلِّغاً للإسلام في اليمن، كان من قبل الوحي وعلى أثر توجيهه، كذلك يجب أن يقال إن ما قام به من تعيين عليٍّ خليفةً من بعده هو من تدبيره الخاص، انطلاقا من كون النبي حاكماً مخوّلاً من قبل الله في قيادة الأمة وإدارة شؤون المجتمع، له أن يتصرف بتدبيره الخاص فيما لا يبلغه فيه وحي، كما جرت عليه سيرته في وقائع من نظير بعث معاذ إلى اليمن أو تعيين حاكم لمكة2 إذا طرحنا الإمامة بمثل هذا التصوّر البسيط الساذج الذي يفضي إلى أن تتحوّل الحكومة إلى شأن دنيوي، فليس لدينا جواب إلاّ أن نقول إن هذه النظرة- التي تختزل الإمامة بالحكم - هي غير الإمامة التي نحن بشأن بحثها.

ثم أعود للقول إن الإمامة إذا اختُزلت بهذا الشكل، فلا ضرورة أصلا لتدخل الوحي. وأكثر ما يمكن للوحي أن يتدخل فيه، أن يبلّغ النبي بأنّ من وظيفته أن ينتخب من يراه مناسبا فيعينه خليفةً من بعده -من دون أن ينص الوحي على أحد- فيختار النبي بحسب ما يراه صلاحاً، ثم يختار الذي انتخبه النبي، الذي يليه وهكذا حتى يوم القيامة.

حين نطرح الإمامة بمثل هذا التصور الساذج، ونختزلها في الحكم وحده، بحيث نقول إن الإمامة تساوي الحكومة وحسب، فعندئذ نجد أن نظرية أهل السنة وما يذهبون إليه في المسألة تتحلى بجاذبية أكبر من نظرية الشيعة وما يعتقدون به.

فأهل السنة لا يرون من حق الحاكم تعيين الذي يليه، بل يجب على الأمة أن تنهض بذلك، وينبغي لأهل الحل والعقد المبادرة إليه، كما يجب أن يتم انتخاب الحاكم وفق أصول ديمقراطية. فاختيار الحاكم هو حق الأمة، وللأمة ممارسة حقها في الانتخاب.

بيد أن المسألة ليست بهذه البساطة. فما نستفيده من مجموع ما لدى الشيعة أن النص على خلافة الإمام علي وسائر الأئمة عليهم السلام هو فرع لمسألة أخرى، تعد هي القضية الأكثر أهمية من المسألة الأولى.

السؤال الذي يطلّ هنا أن الأئمة عليهم السلام هم اثنا عشر إماماً، فما هو يا ترى مآل الحكم الإسلامي بعدهم؟ فلو فرضنا أن الأمور سارت بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما وصى، فآل الحكم من بعده إلى الإمام علي عليه السلام ثم إلى الإمام الحسن عليه السلام ، فالإمام الحسين عليه السلام وهكذا إلى أن وصل إلى الإمام الحجة المهدي عليه السلام .

ثم لو افترضنا أنّ الإمام المهدي، لم يواجه ما يضطره إلى الغيبة كما هي عليه فلسفة الإمام المهدي والغيبة عندنا نحن الشيعة، بل استلم الحكم بعد أبيه، ومضى في ممارسته مدة قصيرة من الزمن كما حصل لآبائه ثم غادر هذه الدنيا، فماذا ستصير إليه مسألة الحكم بعدئذ؟ هل يزداد عدد الأئمة على الاثني عشر؟ كلاّ. إذن لابد أن تطل على دنيا المجتمع مسألة أخرى تتمثل بمسألة الحكم في صيغته العادية، أي في الوضع الذي عليه الآن.

هذه النتيجة تطل برأسها على الواقع مجدداً ولكن من منطلق آخر، إذ نعرف أنّ الإمام المهديّ لا يستطيع أن يمسك أزمة أمور المسلمين في زمان غيبته، مما يقود إلى أن تظل قضية الحكومة والحكم الدنيوي في الإطار الذي هي عليه.

الحكومة فرع للإمامة

علينا أن لا نرتكب أبدا مثل هذا الخطأ، بحيث ما إن تطرح مسألة الإمامة في السياق الشيعي، حتى نساويها بالحكومة، ونقول إنها تعني الحكم. فالوقوع في مثل هذا الخطأ يفضي إلى أن تكتسب الإمامة شكلا بسيطا ساذجا، تترتب عليه (منطقيا وموضوعي) النتائج والفروع التي يجب أن تترتب على مثل هذا المنهج.

فعندما تختزل الإمامة بالحكومة فقط، يكون سؤالها الأساسي: من هو الشخص الذي يجب أن يتسنّم الحكم؟ وهل يجب لهذا الحاكم أن يكون أفضل من الجميع أم يكفي فيه أن يكون أفضل نسبيا، لا أفضل من الوجهة الواقعية؟

أي أن يكون أفضل من الآخرين في إدارة الأمور، وأكفأ في السياسة، ,إن كان أدنى منهم كثيراً في بقية الجوانب، فيكفي أن يكون مديراً كفوءاً ولا يكون خائناً.

ومما يتفرع على هذا المنهج ويأتي تبعا للسؤال الأساسي هي أسئلة من قبيل: هل يكون هذا الحاكم معصوماً أم لا، وما هي الضرورة لعصمته؟ هل يلتزم بأداء صلاة الليل، وما هي الضرورة لذلك؟

هل له دراية بالفقه وأحكام الشريعة وما هي ضرورة ذلك؟ إذ بمقدوره في هذه المسائل أن يرجع إلى الآخرين، حيث تكفي الأفضلية النسبية.

هذه الصيغة التي تكتسبها الإمامة من خلال حدود هذه الأسئلة، ترتهن أساساً إلى المنطق الذي يضعها في مستوى الحكومة وحسب، وهي تبع نظرتنا إليها كشأن هامشي صغير. وهذا خطأ كبير وقع فيه أحيانا بعض القدماء من المتكلمين.

أما اليوم فكثيرا ما يكرر هذا الخطأ، فما إن تذكر الإمامة حتى تتجه الأذهان إلى الحكم كمرادفٍ لها، مع أنّ الحكومة من الفروع، وهي لا تعدو أن تكون شأنا صغيرا جدّاً من شؤون الإمامة.

ما ينبغي الحذر منه هو الخلط بين هاتين القضيتين، بين الإمامة والحكومة وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الإمامة إذن؟

الإمام خليفة النبي في بيان الدين
إنّ ما ينطوي على الأهمية الأولى في قضية الإمامة، هي خلافة النبي في بيان الدين وتبيينه من دون وحي (أي من دون أن يوحى إلى الإمام).

فممّا لا شك فيه أن الذي يوحى إليه هو الرسول الأكرم فقط، وبمغادرته الحياة انقطع الوحي وخُتِمت الرسالة.

يمكن أن تصاغ المسألة الأساسية في الإمامة من خلال محتوى السؤال التالي:

هل يمكن أن تتمركز مهمة بيان تعاليم السماء في الدائرة التي لا يطالها الاجتهاد والرأي الشخصي، بشخص واحد بعد وفاة النبي، بحيث تعود الأمة إلى سؤاله في المسائل الدينية كما تعود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي تعلم أنّ ما يجيب به هو مرّ الحق، والحقيقة التي لا يداخلها شيء من الرأي والفكر الشخصي، حتى لا يقال إنه من الممكن أن يخطئ ثم يعود لتصحيح خطئه في اليوم الثاني؟

نحنُ بشأن النبي لا نقول إنه أخطأ في هذا الجواب، أو تصرّف في ذلك الموطن تبعا لهواه النفسي متعمدا، لأنّ مثل هذا الكلام والتصوّر مخالف لقبولنا بالنبوة. فلو ثبت لنا بالدلائل القطعية كلام نطق به النبي، فلا نقول أبدا إن هذا كلام النبي، ولكنه صدر عنه في حال خطأ وغفلة.

فهذا الكلام قد يصحّ بشأن مرجع التقليد، إذ قد نقول إنّه ربما أخطأ في جواب هذا السؤال أو أصابته الغفلة. كما أن احتمال الخطأ والغفلة والوقوع تحت سلطة بعض التأثيرات يصح إزاء الجميع ‎، بيدَ أنه لا يصح أبدا بشأن النبي، تماما كما لا يصح أن نقول بصدد آية من القرآن إن الوحي أخطأ بشأنها أو داخله الظلم والأهواء النفسية.
إذا أخطأ الوحي، فعندئذٍ لا تكون هذه الآية وحياً.

وعودة إلى السؤال: هل هناك بعد النبي شخص يعكس في موقعه ووجوده مرجعية أحكام الدين، تماما كما كان النبي مرجعاً ومبيِّناً ومفسّراً؟ هل ثمة وجود لإنسان كامل بمثل هذه المواصفات؟

ذكرنا أن مثل هذا الشخص موجود، ولكن بفارق أنّ ما يقوله النبي في هذا المجال ينطق به عن لسان الوحي مباشرة، في حين إن ما يصدر عن الأئمة عليهم السلام يستند إلى النبي لا إلى الوحي مباشرة. ولا يفسّر ما تلقّوه عن النبي بالقول إنه صلى الله عليه وآله وسلم علّمهم إيّاه، بل يفسّر على أساس ما نذكره من قول عليّ عليه السلام: "علَّمني رسول الله ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألفُ باب"3.

نحن لا نستطيع أن نفسر ذلك تماما، كما لا نستطيع أن نفسِّر الوحي وكيف كان النبي يتلقى العلم من الله، ليس بمقدورنا أن نفسِّر طبيعة الارتباط المعنوي الذي كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام حتى علّمه الحقائق كما هي وبتمامها، ولم يعلّم أحداً سواه.

وفي نهج البلاغة يتحدث الإمام علي عليه السلام عن رفقته النبي بحراء حين كان فتىً، وكيف سمع رنّة الشيطان حين نزل الوحي على رسول الله، فقال: "يارسول الله ما هذه الرنة؟ فأجابه النبي (هذا الشيطان قد أيس من عبادته)، إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي"4 (نجد نظير هذه الكلمات في مواطن أخرى كثيرة).

لو كان أحدٌ إلى جوار علي عليه السلام لما سمع ما سمعه، لأن ما سمعه لم يكن من نوع الأصوات التي تنتشر أمواجه في الفضاء، فيسمعه كل ذي أذن، بل إن الواقعة تنبئ عن سمع آخر ورؤية أخرى.

حديث الثقلين وعصمة الأئمة

الجنبة المعنوية هي الأساس في باب الإمامة. فالمقصود بالأئمة أشخاص معنويون ما دون النبي، يعرفون الإسلام ويعملون به عن طريق معنوي. والأئمة كالنبي معصومون عن الخطأ والغفلة والذنب.

يعبّر الإمام - في شخصه ووجوده- عن مرجعية يقينية قاطعة، بحيث إذا ما سمعناه ينطق بجملة، لن نحتمل فيها الخطأ، ولا الانحراف الذي يصدر عن عمد، وهذا ما يعبّر عن العصمة. وممّا ترويه الشيعة ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال:" إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي"5.
أول سؤال يطالعنا في هذا المجال: هل صدر هذا الحديث عن النبي أم لا؟

لا يقبل هذا الحديث الإنكار، إذ لم تختص الشيعة بروايته، بل نقله أهل السنة ورووه في كتبهم أكثر من الشيعة، وما زلت أذكر في أوائل المدة التي أمضيتها في مدينة قم، حيث كانت مجلة "رسالة الإسلام" التي تصدر عن دار التقريب (في القاهرة) في أوائل عهدها، أن أحد علماء أهل السنة، نقل الحديث في إطار مقالٍ كتبه، بصيغة: "إني تارك فيكم الثقلين كتب الله وسنتي". فما كان من السيد البروجردي وقد كان عالماً حقيقياً يفكر بطريقة عقلائية رفيعة جدا في هذه الموارد إلاّ أن طلب من الشيخ قوام وشنوئي، الذي كان من الطلبة الفضلاء المعروفين بالتقصّي والعلاقة الوثيقة بالكتب، أن يتتبع موارد ذكر الحديث في كتب أهل السنة. أمتثل الشيخ قوام للمهمّة التي وجّهها إليه السيد البروجردي، وقد جاءت حصيلة تقصية أنه رصد من كتب أهل السنة مئتي كتاب ذكرت الحديث بصيغة:"إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي".

لقد صدر الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصيغة في مواطن متعددة. بيدَ أن ذلك لا يعني أنه لم يقل - ولا مرة واحدة -:أني تركت فيكم الثقلين كتاب الله وسنتي. فلا تنافي بين الكتاب والسنة، والكتاب والعترة، لأن العترة هي في موقع بيان السنة.

والقضية لا تدور بين خيارين بحيث يكون سؤالها: هل نرجع إلى السنة أم إلى العترة؟وكأن بين أيدينا سنّة تركها النبي وإلى جوارها عترة، وأن القضية: هل نعود إلى السنّة أم إلى العترة؟ كلا، بل تتلخّص القضية في أن العترة هي المبيّن الواقعي للسنّة، وأن السنّة بتمامها لدى العترة. وفحوى "كتاب الله وعترتي" يتمثل بوجوب تلقّينا السنّة عن العترة.

ثم إن ما نرويه من أن الرسول قال: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي" هو سنّة بنفسه، لكونه من حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

إذن لا تنافي بين الإثنين.

ومن جهة ثانية، إذا كان النبي قد نطق بالحديث في موطنٍ واحد - لم تتأكد قطعيته- بصيغة: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وسنتي"، فقد نطق بالصيغة الأولى "كتاب الله وعترتي" في مواطن متعدّدة. وإذا كان الحديث قد نقل بصيغته الثانية (وسنّتي) في كتاب واحد، فإن بين أيدينا مئتي كتاب نقلت الحديث بصيغته الأصلية الأولى (وعترتي).

نعود إلى قصّة الشيخ (قوام وشنوئي) الذي بعث بالرسالة التي أعدها بتوجيه السيد البروجردي إلى دار التقريب في مصر.

تعاملت الدار بحياد وإنصاف مع الرسالة حين بادرت إلى طبعها ونشرها، بعد أن لمست الطابع التوثيقي الذي تتسم به، حيث لا مجال لإنكار ما فيها أو الطعن به.

ولو أن آية الله المرحوم البروجردي أراد أن يعمل كالآخرين، لما تجاوز ردّ فعله إثارة الضجيج والصراخ بالقول: ماذا يريد هؤلاء؟ إنهم يريدون استئصال حقوق أهل البيت، وهم ينطوون على نوايا سيئة. (أما وقد سلك الطريق العقلائي فقد ربح التشيّع موقفاً كبيراً تمثل بطبع رسالة الثقلين في القاهرة).

يتبين ممّا مرّ أنّ الروح الأصيلة للإمامة تتمثل في كون الإسلام ديناً شاملاً عامّاً وأبديّاً. ومن عند هذه النقطة يكون السؤال: هل يساوي الإسلام ذلك القدر من الأصول والكليات التي انطوى القرآن على ذكرها، وما ذكره النبي الأكرم من توضيحات نقلها أهل السنّة في رواياتهم فقط؟ وبتعبير آخر: هل يساوي هذا المقدار جميع ما ينطوي عليه الإسلام وما يحويه؟

لا شك في أن الإسلام نزل على النبي بتمامه ولم يبق منه شيء لم يتلقاه، إنما السؤال: هل إن الإسلام الذي بيّنه النبي وبلّغ به، يساوي تمام الإسلام النازل إليه من السماء، أم ظلت كثير من مسائله - بعد نزوله تماما على النبي صلى الله عليه وآله وسلم - لم تبين للأمة، لتوقفها بالضرورة على ظهور مقتضياتها. ومن هنا، فهي تستدعي مرور وقت عليها حتى تُبين تدريجيا، وقد ظلّ (علم) هذه المسائل عند عليّ عليه السلام ، الذي عليه أن يبينها للناس بعدئذ؟6
هذه هي القضية الأساسية في الإمامة.

وبهذا النحو يتضمن حديث (كتاب الله وعترتي) بيان العصمة أيضا، لأن النبي يحثّ الأمة فيه ان تتلقى دينها من هذين المصدرين: الكتاب والعترة. و كما أن القرآن معصوم، فكذلك يكون المصدر الثاني معصوما أيضا، لأن من المحال أن يدعو النبي إلى أخذ الدين من مرجع، بمثل هذا الجزم والحسم، ثم يتخلل الخطأ بعض كلام ذلك المرجع.

عند هذه النقطة بالذات تفترق فرضية الشيعة عن فرضية أهل السنّة في بيان الدين وأخذه، بشكل أساسي , ففرضية أهل السنّة تذهب للقول أنه كما انقطع الوحي بوفاة النبي، فقد انقطع أيضاً البيان الواقعي للدين، أي البيان المعصوم عن الخطأ، المنزّه عن الاشتباه. فليس ثمّ شيء وراء ما استنبطناه من القرآن والأحاديث التي وصلتنا عن النبي (بل هذه هي تمام معرفة الدين).

المنع عن تدوين الحديث

ثم واقعة حصلت على أيديهم جاءت لتضعف فرضية أهل السنّة. وهذه الواقعة تتمثل بنهي عمر عن تدوين حديث النبي والمنع عن كتابته.

وقضية المنع هي واقعة تاريخية. فلو لم نرد أن نتحدث عنها من موقع كوننا شيعة نصدر من نوايا خاصة، بل وضعنا أنفسنا مكان أحد المستشرقين الأوربيين، فتحررت نظرتنا من قيد الانتماء إلى الشيعة أو السنّة، فإن غاية ما يصل إليه ذلك المستشرق، وهو يصدر من أقصى مواقع حسن الظن، أن عمر - وهو ينطلق من قناعة في أن القرآن هو المرجع الوحيد (حسبنا كتاب الله) - قد منع الأمة من مزاولة الحديث وتدوينه لأن كثرة عودتها إليه تقضي إلى إضعاف عودتها لكتاب الله.

هذه الواقعة - كما ذكرنا - هي من ثوابت التاريخ، ولا تختص بنا نحن الشيعة.

ففي زمن عمر لم يكن أحد يجرؤ على كتابة الحديث، كما لم يكن يجرؤ على التصدي لروايته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا شك أن نقل الحديث لم يكن ممنوعا) وقد استمر الحظر على التدوين حتى عهد عمر بن عبدالعزيز الذي دامت خلافته ثلاث سنوات (99-101 هـ ) حين تم تجاوز هذه السنّة العمرية وبدأ تدوين الحديث.

لقد بادر الذي كانوا يحفظون الحديث في صدورهم صدراً عن صدر، لرواية ما عندهم، فكُتب ودُوِّن. وقد قاد هذا المسار إلى أن يضيع قسم من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

وعندما نطلّ على الواقع من جهة أخرى نجد أن الأحكام التي بينها القرآن، هي أحكام مختصرة جدا ومجملة. فالقرآن جميعه كليات. فمع عظيم تأكيده على الصلاة_ مثلا - نجد أنه لم يتجاوز بشأنها أكثر من قوله: أقيموا الصلاة، مكتفيا بذكر السجود والركوع، من دون أن يتوفر على ذكر كيفية إقامتها. وكذا الحال بالنسبة لفريضة الحج، فمع ما تنطوي عليه إقامة الحج من أحكام عمل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لم نجد القرآن يبين شيئا منها.

وسنّة النبي أيضاً جاءت عملياً بهذه الصيغة العامة المجملة. وحتى ولو لم تكن كذلك، فكم ياترى كانت الفرصة التي توفرت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يستطيع أن يبين فيها الحلال والحرام ‎؟ ففي السنوات الثلاث عشرة التي أمضاها في مكة، لم يكن يتجاوز عدد المسلمين- ربما - أربعمائة مسلم على الأكثر، وذلك في ظل أجواء الضغط والحصار التي كانت مفروضة هناك. وفي مثل هذه الأجواء لم يكن يتاح للمسلمين اللقاء بالنبي إلا خفية، بالإضافة إلى توجه سبعين عائلة منهم - هم نصف عدد المسلمين وربما أكثر - صوب الهجرة إلى الحبشة.

هذا هو واقع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وما يتيحه هذا الواقع من فرص. أما في المدينة، فالفرصة وإن كانت متاحة على نحو أفضل، إلا أن مشكلات النبي كانت كثيرة أيضا.

وإذا أردنا أن نغض النظر عن الواقع الكائن في مكة والمدينة، ونفترض أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلك في هذه السنوات الثلاث والعشرين من البعثة، نهج المعلم الذي لا شأن له إلاّ الذهاب إلى الصف وتعليم الناس، فمع ذلك لم يكن هذا الوقت وافياً كي يبين النبي للناس جميع ما ينطوي عليه الإسلام، فكيف إذا أضفنا لذلك، التاريخ القائم (الذي امتص جل أوقات النبي) خصوصا بشأن دين كالإسلام، يبسط حاكميته على جميع شؤون حياة البشر.

الاستفادة من القياس

أفضى هذا المنطق الذي آمن به أهل السنّة إلى أن تبدو لهم النواقص واضحة عمليا في أحكام الإسلام. فعندما تطلّ عليهم مسألة ولا يلتمسون لها في القرآن حكما شرعيا. يرجعون إلى السنّة - بذاك القدر الذي نقلوه- فلا يعثرون فيها على حكمٍ شرعي أيضاً.

وعندئذ هل يصح ترك المسألة بلا حكم؟ وإذا كان الجواب بـ (لا)، فماذا يجب أن يُفعل ‎؟ أجابوا: القياس. والقياس يعني الاعتماد على مواطن التشابه بين ما له حكم في القرآن أو السنّة، وما ليس له فيهما حكم، فإذا تشابه الموردان قيس ما ليس له حكم على ما له حكم، وعرف حكمه على هذا الأساس.

على سبيل المثال، يظن في حكم جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صدر عنه بهذا المناط والعلّة والفلسفة، فكلّما قُدّر وجود الفلسفة ذاتها في مورد آخر، حُكِمَ عليه بالحكم نفسه، على أساس ذلك الظنّ.

لم تقتصر مواطن الفراغ على قضية أو إثنتين. فالعالم الإسلامي كان يتوسّع، خصوصا في زمن العباسيين ‎، فقد فتحت البلدان، وازدادت الاحتياجات التي أخذت تستتبع مسائل جديدة. وعندما نظر أصحاب هذا الاتجاه إلى القرآن والسنّة، لم يجدوا فيهما جواباً على مسائلهم، لذلك بادروا لممارسة القياس. ومع ذلك فقد انقسموا إلى فريقين، أحدهما أنكر القياس كما هو عليه أحمد بن حنبل، ومالك بن أنس الذي قيل عنه أنه لم يمارس القياس في جميع سني عمره إلاّ في مسألتين. أما الفريق الثاني فقد فتح الباب أمام القياس واسعاً، وقد ذهب في ممارسته إلى عنان السماء، كما حصل مع أبي حنيفة. فأبو حنيفة لم يكن يعتقد أن ما بين الناس من سنن قد صدر عن النبي فعلا، لذلك لم يكن يثق بها، حتى قيل إنه لم يثبت لديه أكثر من (15) حديثا مما رووه عن النبي والبقية لم تثبت. بإزاء واقع كهذا، كان يستكمل بقية - الفراغات والمسائل- بممارسة القياس.

أما الشافعي فقد عبّر عن موقع وسط بين الفريقين، إذ كان يعتمد على الحديث في بعض الموارد، وعلى القياس في موارد أُخرى.

وهكذا آل الأمر إلى أن يظهر إلى الوجود فقه عجيب في خليطه ومكوّناته.

وممّا ذكروه بهذا الشأن أن أبا حنيفة أضحى قيّاساً لكونه فارسي الأصل من جهة، إذ عرف عن الإيرانيين توجّه أذهانهم أكثر نحو المسائل العقلية، ولسكنه العراق من جهة ثانية، وكونه بعيداً عن المدينة مركز أهل الحديث.

كان أبو حنيفة يمارس القياس بكثرة ويطلق لخياله العنان في هذا المضمار، حتى بلغ الأمر أن كتَب أهل السنّة: أن أبا حنيفة ذهب إلى الحلاق يوماً، حيث كان الشيب في أوّل أوانه، ولم يزدد في رأسه بعد، فطلب من الحلاق أن يستأصل الشعرات البيض لكي لا تزداد. فذكر له الحلاق أنّ الشعر الأبيض يزداد -باستئصاله- كثرة ونموّاً. فطلب منه أبو حنيفة أن يستأصل الشعر الأسود، وقد صدر موقفه هذا عن قياس فحواه: إذا كان الشعر الأبيض يزداد وينمو بالاستئصال، إذن من شأن الشعر الأسود أن يزداد ويكثر نموه بالاستئصال أيضا. في حال أن قاعدة نمو الشعر وازدياده بالاستئصال تنطبق على الشعر الأبيض فقط ولا تجري في الشعر الأسود.

على هذا المنوال كان أبو حنيفة يمارس الفقه.

موقف الشيعة من القياس
عندما نرجع إلى روايات الشيعة، نلمس أنها تضرب جذور هذا التفكير ومرتكزاته ببيان خطأ التفكير الذي يذهب لعدم كفاية الكتاب والسنّة. والعودة إلى القياس تنشأ من التصوّر بعدم كفاية الكتاب والسنّة في بيان الأحكام الشرعية، فمع القول بعدم كفايتهما يصار لممارسة القياس.

في حين إن ما وصل عن النبي من السنّة بصيغة مباشرة، أو بصيغة غير مباشرة من خلال أوصيائه، تغني مراجعة كلياته عن اللجوء إلى القياس.

هذه هي روح الإمامة من وجهة نظر الدين. وليس الإسلام مسلكا وحسب، ليقول مُبتكر هذا المسلك (الاتجاه) بعد ظهور أيديولوجيته، إن هذا الاتجاه بحاجة إلى حكومة، فما هو الموقف من الحكم؟ كلا، بل يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار أن الإسلام دين، وهو بعد ذلك دين أبدي وشامل.

لا انتخاب مع المعصوم
نصل الآن إلى الإمامة في البعد الذي تدل به على الزعامة (السياسية) وقيادة الحكومة، فحين يوصي النبي بالخليفة من بعده، بحيث يكون إماماً معصوماً كالنبي، فلا معنى عندئذٍ للانتخاب والشورى وما شابه، لأن من أوصى به النبي لا يكون في مستوى البقية، بل له صلاحية استثنائية كما للنبي.

فكما لا يُسأل النبي في عهده، وبوجوده عن تكليف الحكومة، ولا يمكن التوسل بذريعة أن النبي هو رسول فقط ينزل عليه الوحي، وأن أمر الحكومة يناط إلى الشورى أو إلى رأي الأمّة، حيث تأتي لتقرّر فيما إذا كان النبي يتسلّم زمام الحكم أم أنه يناط إلى شخص آخر، فكذلك الحال مع أوصيائه. فمع وجود النبي، وهو الإنسان الذي يعلو على البشر باتصاله بعالم الوحي، لا تطرح مثل هذه المسألة. وكذلك لا مجال لها بعد النبي إذ له صلى الله عليه وآله وسلم أنثا عشر وصيا، عليهم أن ينهضوا طوال قرنين وأكثر بترسيخ قواعد الإسلام، بحيث يُبين الإسلام للأمة انطلاقا من نبع زلال لا يشوبه الخطأ.

وبوجود مثل هذه المرجعية في بيان أحكام الإسلام، لا مجال للحديث عن صيغة الحكم وما تكون عليه بين الانتخاب والشورى وما شابه ذلك. وإلاّ فهل يصح مع وجود شخص معصوم عن الخطأ، عالمٍ بتمام المعنى، لا مجال حتى القول باشتباهه، أن ننصرف عنه، ونذهب لانتخاب شخص آخر محله؟

علاوة على ذلك، إنّ نصب عليٍّ عليه السلام للإمامة بالمعنى الذي أشرنا إليه، يتضمّن بالضرورة انصراف الزعامة الدنيوية إليه، إذ هي شأن من شؤونه - أي من شؤون الإمامة والإمام - وقد صرَّح النبي له بهذا المقام.

ولكن النبي (لننتبه جيدا) صرّح لعلي بمقام الحكم والزعامة السياسية، لكونه متوفرا على المقام الآخر من مقامات الإمامة وشؤونها.

أجل في زمان غيبة الإمام المهدي عليه السلام حيث لا وجود عندئذ للإمام المعصوم المبسوط اليد، تكتسب قضية الحكم شكلا آخر. كما يمكن أن نرسم مساراً آخر للقضية نفترض أن ما صار في صدر الإسلام لم يحدث، وأن الإمام أمير المؤمنين أضحى خليفة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل، ثم تلاه الإمام الحسن فالإمام الحسين إلى الإمام الحجة المهدي. ولنفترض أن أوضاعا لم تظهر بحيث تضطر لغيبة الإمام، بل مضى الإمام المهدي كآبائه ‎، وخلت الساحة من وجود المعصوم بين الأمة، عندئذ تكسب قضية الحكم شكلا آخر، وعندها يجب أن نسأل: ماذا يجب أن تصير إليه قضية الحكم؟ هل يجب أن يكون الحاكم بالضرورة هو الفقيه الجامع للشرائط، أم ليس ثمة ضرورة لذلك؟ وهل ينتخب الحاكم من قبل الأمة؟.. إلى بقية الأسئلة.

وفي ضوء ذلك، لا ينبغي أن نطرح الإمامة منذ البداية بصيغة كونها مسألة دنيوية هامشية جداً، من خلال اختزالها بالحكم، ثم نؤسس على هذا الطرح أسئلة من قبيل: هل الحكم في الإسلام استبدادي تنصيصي أم انتخابي؟ ثم ننعطف لنتساءل: وكيف تقول الشيعة بنظرية مثل هذه في الحكم؟

كلا، القضية ليست مطروحة بهذا الشكل، بل إن ما تطرحه الشيعة هي الإمامة. والحكم هو أحد شؤون الإمام، إذ من الطبيعي أن لا يطرح شخص آخر للحكم بوجود الإمام المعصوم، كما هو الحال في زمن النبي الأكرم، إذ لا مجال لحكومة شخص سواه. وعندما عيّن النبي الأكرم عليّاً للإمامة، فإن من لوازم الإمامة الحكم.

بالإضافة إلى ذلك نجد أن النبي صرح لعلي بالحكومة في مواطن، بيدَ أن هذا التصريح النبوي جاء على قاعدة: إنّ الإمام من بعدي هو عليّ (وحين يكون إماما يصير حاكما أيضا).

الولاية المعنوية
عرضت في الجلسة السابقة (الفصل السابق) إلى فكرة أعتقد بها شخصيا، وأعتبرها فكرة أساسية. ولكنها قد لا تُعدّ من أركان التشيّع. هذه الفكرة يعبّر عنها من خلال الأسئلة التالية: هل يقتصر مقام النبي الأكرم على تلقي الأحكام الإلهية وأصول الإسلام وفروعه من خلال الوحي؟ هل يقتصر علمه على معرفة الإسلام الواقعي فقط، بحيث لا يكون من شأنه أن يعرف شيئا آخر وراءه، من جانب الله؟ وهل كان في مقام العمل والتقوى في مرحلة كونه معصوماً من الخطأ فقط؟

وبشأن الأئمة عليهم السلام ، هل اقتصر مقامهم على تلقي الإسلام بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث لا يوحى إليهم بالنحو الذي يكون علمهم بكليات الإسلام وجزئياته وفروعه كعلم النبي لا يداخله شيء من الخطأ، ولا يخالطه الاشتباه، وأنهم في مقام التقوى والعمل معصومون من الخطأ أيضاً؟

أم إن هناك علوماً أُخرى وراء ذلك في شخصية النبي والإمام؟ وما هي العلوم التي يعلمونها وراء معرفتهم بمسائل الدين ومعارفه؟

هل صحيح أن الأعمال تعرض على النبي، وأن أعمال الناس في زمان كل إمام تُعرض عليه، بحيث إن الإمام المهدي عليه السلام لا ينظر الآن إلى الشيعة وحدهم، بل هو ناظر إلى الناس جميعاً لا يغفل عنهم؟

وفي أُفق هذه الولاية ومداراتها، لا فرق في الإمام بين كونه حيّاً وميّتاً. فقد ذكرتُ سابقاً، أنك حين تزور الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام وتخاطبه بقولك: السلام عليك، تكون في حالة شهودية من قبيل مخاطبتك لإنسان حي حين تواجهه وتقول له: السلام عليك.

هذه هي الولاية المعنوية.

ذكرتُ في الجلسة السابقة أن هذه الفكرة تمثل نقطة التقاء بين العرفان والتشيّع، بحيث تقترب الأفكار فيما بينهما إلى حدٍّ كبير جدّاً. فأهل العرفان يعتقدون بوجوب وجود القطب في كل عصر، وجوب وجود الإنسان الكامل الذي لا يخلو منه عصر، والشيعة يعتقدون بوجود الإمام في كل عصر، إذ لا يخلو زمان من إمام وحُجّة يكون هو الإنسان الكامل.

لا أريد في الوقت الحاضر أن أعرض لهذا البحث (الولاية المعنوية) لأننا لا نختلف بهذه المسألة مع السُنّة. بل محطّ الاختلاف بين الشيعة والسُنّة هما المرتبتان الأولييان، أي المرتبة التي أطلقنا عليها الإمامة في بيان أحكام الدين، والمرتبة الثانية التي تعني الإمامة فيها زعامة المسلمين - وقيادتهم السياسية -.

أهمية حديث الثقلين
يجب أن لا يُغفل عن الإمامة التي يطويها حديث: " إني تارك فيكم الثقلين" الذي عرضت له. فإذا واجهتم أحد أهل السنّة من العلماء أو من غيرهم، اسألوه: هل صدر هذا الحديث عن النبي؟ إذا أجاب بالنفي، بمقدوركم أن تضعوا بين يديه عددا من كتبهم التي توفر على ذكر الحديث.

ولا يسع علماء أهل السنة أن يختلفوا معنا في وجود هذا الحديث وصحته7 .

ثم اسألوه بعد ذلك عن العترة من هي، حيث نص النبي على العودة إلى القرآن وإلى العترة كمرجعين؟ ولماذا لا يفرقون في الرواية بين عترة النبي وغير العترة، بل مناط التفريق في الرواية عندهم بين الصحابي وغير الصحابي، وينقلون عن علي عليه السلام أقل مما يروون عن غيره. وإذا رووا عن علي عليه السلام أحيانا، فبصفته أحد الرواة، وليس لكونه مرجعا.

حديث الغدير

ذكرنا أن الشخص الذي يكون مرجعا في الدين، يجب أن يكون بنفسه الزعيم الديني (أي القائد السياسي) وقد صرَّح النبي بشأن قيادة الإمام علي عليه السلام ، حيث عكس حديث الغدير، الذي صدر عن النبي الأكرم في واقعة غدير ثم في حجّة الوداع، مثالا لذلك8.

لقد كانت حجة الوداع آخر حجة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وربما لم يحج النبي بعد فتح مكة غير حجة واحدة، وإن كان أدّى حجّ العمرة قبل حجة الوداع.

لقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس للخروج معه إلى مكة في هذا الحج، فاجتمعوا وكانوا معه، فخطب بهم في مواقع مختلفة، في المسجد الحرام، وعرفات، ومنى، وخارج منى، وفي غدير خم وغيرها من المواطن.

ومن بين المواطن التي خطب بها النبي، هي خطبته في غدير خم، وقد كانت آخر الخطب وأكثرها شدّة وكثافة. والذي أعتقد به شخصيا في فلسفة تأخير ما قاله النبي في هذه الخطبة، عما كان قد ذكره وقاله في خطبه في المواقع الأخرى، يعود إلى نزول الآية ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ(المائدة/67). فبعد أن كان النبي قد بلغ كليّات الإسلام فيما يشتمل عليه من أصول وفروع في خطبه بعرفات ومنى والمسجد الحرام، جاءه أمر السماء في أن يبلغ أمراً، إن تواني عنه يكون بمنزلة من لم يكن قد بلغ من الرسالة شيئاً ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ. أي إن كل شيء من دون إبلاغ هذا الأمر، يكون سدىً ويضيع هباء منثورا.

سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمع، ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ وذلك في إشارة إلى قول الله تعالى ﴿النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم9. أي ألست أحق بالتصرّف في شأنكم من أنفسكم؟

أنطلق صوت الجميع: بلى يارسول الله .

قال النبي: مَن كنت مولاه فهذا عليُّ مولاه.

وهذا الحديث كحديث الثقلين له أسانيد كثيرة.

لقد أصدرت مؤسسة (نشر الحقائق الإسلامية) في مدينة مشهد قبل سنوات، خلاصة لبحث الغدير. لم يتسنَّ لي أن أقرأ هذا البحث حتى الآن، ولكن قرأه بعض الزملاء من أهل الخبرة فامتدحوه وذكروا في تقييمه أنه جيد جدا. ووصيتي أن تقرأوا هذا البحث على الأقل.

إما إذا أردنا أن نبحث في مصادر حديث كحديث الغدير، الذي نقول بتواتره أو نبحث في حديث الثقلين الذي خصّه السيّد مير حامد حسين، صاحب "عبقات الأنوار" بكتاب كبير - من موسوعته - يقع في أربعمائة صفحة، توفر خلالها على ذكر مصادره، فإن البحث يطول بنا كثيراً.

ربما احتاج الموضوع إلى بحث أكثر، ولكني أُفضّل إبقاء جوهر البحث، في مسألة الإمامة، مع إشارات إجمالية إلى أدلة الشيعة في الباب.

*الامامة،الشيخ مرتضى مطهري، المترجم:جواد علي كسّار، مؤسسة أمُّ القرى ،لبنان بيروت،ط2 1422هـ،ص63ـ87.


1- يتطابق هذا الرقم مع عدد نفوس المسلمين إبان إلقاء المؤلف لهذه المحاضرات
2- في ضوء المنطق والنهج الذي يحويه تنحدر الإمامة إلى مستوى كونها شأنا إداريا عاديا يدخل في إطار ممارسة الحاكم لصلاحياته في إدارة البلاد، مما لا شأن له إلى ما تسمو إليه الإمامة في المعتقد الشيعي وهي تتحرك في مدارات البيان والهداية والولاية (المترجم)
3- في "الإرشاد" عن عبدالله بن مسعود، قال: استدعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً فخلا به، فلما خرج إلينا سألناه ما الذي عهد إليك؟ فقال "علمني ألف باب من العلم، فتح لي كل باب ألف باب" الإرشاد،ج1،ص34.
وعن طريق أهل السنة، أن عليا قال"علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف باب من العلم، في كل باب ألف باب" فرائد السمطين، ج1، ص101، ينابيع المودة، ج1، ص 83(المترجم)
4- نهج البلاغة، الخطبة 192
5- صحيح مسلم، ج7، ص 122
6- ربما كان في هذا النص ما يوضح بعض مراد المؤلف في مهمة البيان التي نهض بها الإمام علي وبقية الائمة بعد النبي، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي في بعض وصاياه:"وتسمع الناس عني وتبين لهم من بعدي"، فقال علي عليه السلام:"يارسول الله أو ما بلغت؟ قال: يلي ولكن تبين لهم ما يختلفون فيه من بعدي". الإرشاد، ج1، ص 46(المترجم)
7- لقد لقي هذا الحديث الضرر من قبل بعض خطباء المنبر وقراء التعزية باستخدامهم له كمقدمة ومفتاح للولوج إلى المصيبة، حتى يخال للإنسان أن ما يقصده النبي من تركه القرآن والعترة هو أن تتوجه لهما الأمة بالاحترام وعدم الإساءة فقط مع أن النبي أراد أن تعود الأمة إلى مرجعين في الآن نفسه، الأول: القرآن، والآخر: العترة، وتتمسك بهما ولا تنفك عنهما، كما هي عليه دلالة بقية الحديث، "لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما أبدا".
فالمسألة التي يطرحها الحديث إذن، هي المرجعية والرجوع إليهما، حيث اعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم العترة عدل القرآن في دعوته للرجوع إليهما، كما صدر عن النبي قوله: إن القرآن الثقل الأكبر والعترة الثقل الأصغر .
8- هذا التمييز في وظيفة الإمامة ومهام الإمام بين المرجعية الدينية والتعهد ببيان الدين بعد النبي، والمرجعية السياسية والاجتماعية للأمة، بيَّنه الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر برؤية واضحة، وهو يكتب عن دور الإمام عليّ في الإسلام:"ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينصب عليّاً مرجعا أعلى للمسلمين من بعده على الصعيد الإجتماعي فقط، بل نصّبه مرجعاً أعلى على الصعيد الاجتماعي، والصعيد الفكري معا، فهناك مرجعيتان أُسندتا إلهيا ونبويّاً إلى الإمام عليّ: أحدهما المرجعية الاجتماعية للأمة التي تجعل للإمام القيادة الفعلية للمسلمين في مجالات حياتهم الاجتماعية. والأخرى المرجعية الفكرية والتشريعية للأمة التي تجعل الإمام المصدر الأعلى بعد كتاب الله وسنة رسوله، لكل ما يشتمل عليه الإسلام من أحكام وتشريعات وقيم ومفاهيم. وقد كان أروع تعبير نبويّ عن المرجعية الأولى حديث الغدير، وعن المرجعية الثانية حديث الثقلين"من تقريظ كتبه الشهيد الصدر لكتاب "مسند الإمام علي" للسيد حسن القبانجي، مجلة قضايا إسلامية، العدد الثالث 1417 هـ، ص 631 (المترجم)
9- الأحزاب:6

2010-03-29