يتم التحميل...

المكر السيء يحيط بأهله موكب السبايا يكسر حاجز الخوف ويستنهض الأمة

تربية دينية (مناسبات)

المكر السيء يحيط بأهله: موكب السبايا يكسر حاجز الخوف ويستنهض الأمة

عدد الزوار: 18

ذكرى الأربعين إستحضار لموكب السبايا وما جرى بعد عاشوراء
في مناسبة ذكرى الأربعين، عندما نحييها هنا في بعلبك ويحييها الملايين من المحبين في مدينة كربلاء وفي كثير من مدن العالم، هي تجديد لما جرى يوم عاشوراء وما حدث من مواجهة دامية، هي صراع بين الحق والباطل وبين الوفاء والغدر وبين العدل والظلم. يوم الأربعين تجديد لذكرى عاشوراء، ويوم الأربعين ذكرى نستحضر فيها موكب السبايا ونستحضر فيها ما جرى بعد عاشوراء.

مكر يزيد في رحلة السبي الطويلة: إذلال آل الرسول وترهيب المسلمين
رحلة السبي الطويلة التي أرادها القَتَلة لأهداف ولم تكن خطوة عشوائية. رحلة السبي الطويلة الحزينة المأساويّة من كربلاء إلى الكوفة وعلى امتداد 2000 كيلومتر في ذلك الوضع، في تلك الظروف، وصولاً إلى بلاد الشام إلى الأراضي اللبنانية ـ حيث عبر هذا الموكب موكب الأحزان وموكب السبايا ـ عبر القاع واللبوة ومقنة وصولاً إلى مدينة بعلبك حيث تحتشدون الآن، ومن بعلبك إلى دمشق التي كانت في ذلك الحين عاصمة يزيد (بن معاوي.(
هذا الموكب التاريخي الجهادي الحزين والصابر والمحتسب والصلب في الإرادة والقوي في العزم والشامخ في الإيمان والتوكل، كان يحوي فيما يحوي الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام بقيّة النبوة والرسالة وأهل البيت ومجموعة كبيرة من النساء فيهنّ بنات وأحفاد رسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونساء من زوجات أولئك الشهداء الشجعان الأوفياء الذين قتلوا في كربلاء وجمع من الأطفال الأيتام. ومع الموكب رأس أبي عبد الله الحسين عليه السلام ورأس أبي الفضل العباس عليه السلام ورؤوس الشهداء من أهل البيت وبني هاشم وصحابة الحسين الذين بَقُوا وَوَفُوا وقَضَوا وَمَضَوا مع الحسين عليه السلام.
هذا الموكب الذي كان يتألف من هذه الأجزاء العزيزة والغالية والمقدسة هو الذي كان يسير من مدينة إلى مدينة ومن بلدة إلى بلدة ومن صحراء إلى صحراء ومن تلّة إلى تلّة يُسْتَعرض به الأقوام والقبائل والعشائر وسكان المدن وسكان البلدات وفي ظروف قاسية وصعبة: السلاسل والقيود في الأيدي والأرجل، السياط تلهب الظهور والصدور، كلمات الشتم والسب والشماتة، التهديد الدائم بالقتل والتصفية، والمؤلم أكثر أنّ الناس الذين اهتدوا بجدّ هؤلاء وبدين جدّ هؤلاء وبتضحيات جدّ هؤلاء كان يتم إخراجهم في كل مدينة وفي بلدة وفي كل قرية ليقيموا الأعراس والأفراح ويطلقوا الزغاريد احتفاء بانتصار السلطة القاتلة التي قتلت حفيد رسول الله وبقية أبناء المهاجرين والأنصار في يوم العاشر من محرم سنة 61 للهجرة (النبوية).

عندما أرادت السلطة لهذا الموكب أن يمشي كلّ هذه المسافة الطويلة كانت تريد أن تحقق مجموعة من الأهداف، منها: إبراز الغلبة والقهر والاقتدار وهذا ما أشارت إليه زينب عليه السلام في خطبتها في قصر يزيد في دمشق، إبراز القوة والغلبة والقهر والقمع. ثانياً: إبراز الشماتة وروحية الثأر وتجديد ما جرى في (معركة) بدر. وقالوا "يوماً بيوم بدر"، ليقولوا للتاريخ وللأمّة أنّ ما جرى في كربلاء هو ردٌّ على محمدٍ وصحابة محمدٍ الذين قاتلوا وانتصروا في بدر على قريش وطواغيت قريش. ثالثاً: إذلال آل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والمس بإرادتهم وبأملهم وبإيمانهم وبعزمهم وبثقتهم بالله وبثقتهم بالمستقبل وبوعد الله بأن ينصر أولياءه الصالحين. ومن جملة الأهداف إحباط هذه الأمّة وتهديد كل من يفكر بالقيام بالثورة والانتفاضة والوقوف بوجه الطاغية؛ أننا: نقتلك ونقطع رأسك ونسبي نساءك فليس في الأمة سنة 61 للهجرة أعز من الحسين وأعظم من الحسين وأعلى مكانة من الحسين في وجدان الأمة، وها هي السلطة تقتله وتقطع رأسه وتجوب برأسه ورؤوس أصحابه كل البلاد وتسبي نساءه حتى بنات النبي.

إذن، كان المطلوب من هذا الموكب أن يكون سياسة ترهيب وقمع وإحباط لكل من يمكن أن يفكر بأن ينطق بالحق في وجه سلطان جائر أو أن يقف أو أن يثو،وينتفض ويجاهد ويتمرد. ولذلك أريد للموكب أن يجول في العراق وفي بلاد الشام، وهاتان المنطقتان كانتا الأكثر أهمية وحساسية وقدرة على تحديد مسار الأمّة والخلافة والمستقبل السياسي.

لكن هذا القرار السلطوي الأموي كان مكراً من يزيد. وفي المقابل ـ هذه مسيرة يرعاها الله سبحانه وتعالى منذ آدم ـ الله تعالى هو الذي يرعى دينه ويكفل أنبياءه ويدافع عن أوليائه ويحفظ رسالته: "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".

المكر السيء يحيط بأهله:
هذا الموكب، موكب السبايا الذي أريد له أن يحقق هذه الأهداف كان الجزء المكمل الذي يحقق أهداف شهادة الحسين ودماء الحسين وصرخة الحسين يوم العاشر من محرم في كربلاء. ويذكّرني هذا المكر الإلهي بقصة إبراهيم عليه السلام وبقصة موسى عليه السلام، عندما أراد نمرود أن يحرق إبراهيم عليه السلام نادى في الناس وجمع الناس من كل أنحاء مملكته ليشهدوا إحراق إبراهيم وكانت المعجزة، وقال الله للنار أن: "كوني بردا وسلاما على إبراهيم". مكر نمرود ليقضي على إبراهيم قضاءً مبرماً ومكر الله سبحانه وتعالى في المقابل، فلو شاء إبراهيم أن يجول من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة ليجمع الناس حوله ويحدّثهم عن التوحيد ويظهر لهم المعجزة، كم من السنوات يحتاج، وكم من المعجزات يحتاج وكم من الجهد يحتاج. ولكنّ نمرود بمكره الخاطئ جمع له الناس جميعاً ليشهدوا جميعاً المعجزة الكبرى،
وهذا ما حصل مع موسى عليه السلام، فلو كان موسى عليه السلام يريد أن يتنقل في مملكة فرعون من مدينة إلى مدينة ومن بلدة إلى بلدة ومن قبيلة إلى قبيلة ليحدّثهم عن التوحيد وليظهر لهم معجزته، كم من السنوات يحتاج، وكم من الجهد والوقت والمعجزات، إلاّ أنّ المكر السيئ الذي أحاط بفرعون دفعه لأن يجمع مصر كلها في يوم الزينة ويضع موسى أمام التحدي، وغلبت معجزة موسى سِحْرَ السَّحَرَة: "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".

أ ــ موكب السبايا يخلد قضية الحسين ودمائه
لو أن يزيداً وابن زياد حملوا (الإمام) زين العابدين وزينب والنساء والأيتام والرؤوس وذهبوا بهم سرّاً إلى المدينة وتركوهم في المدينة ومنعوهم من الخروج منها؛ هل كان سيصل صوت الحسين ودماء الحسين وكلمة الحسين ومظلومية الحسين وكل هذه القيم والمفاهيم والوقائع والعظمة والمبادئ التي كرّستها كربلاء، هل كانت ستصل إلى الأمّة سنة 60 وسنة 61 وسنة 62 وسنة 63 للهجرة؟ هل كانت ستصل إلينا بعد مئات السنين؟ ولكن هذا المكر الذي أراد شيئاً وأراد الله شيئاً آخر. صحيح كان فيه معاناة وآلام وأحزان لزين العابدين والنساء والسبايا، ولكن هذا طريق الله وهذا هو طريق التحدي وهذه هي طريق التضحيات وهذا هو طريق بذل الدماء وماء الوجه والدموع وهذا هو طريق الأولياء طوال التاريخ.

ب ــ السبايا يكشفون كذب إعلام السلطة الأموية
هذا الموكب الذي خرج من كربلاء إلى الكوفة اجتمع بالناس الذين احتشدوا للاحتفاء بنصر يزيد وتحوّل إلى مجلس عزاء كبير جدّاً أبكت فيه زينب وسُكَيْنَة وفاطمة كل عين وكل قلب، وقالت لهم الحقيقة. وعلى طول الدرب من الكوفة إلى نصيبين إلى حلب إلى حماة إلى حمص إلى بعلبك إلى دمشق، كان الخطاب حاضراً، كان تشريح الوقائع والحقائق حاضراً وقوياً حتى في الحالات التي حيل بين زينب وبين الكلام والخطابة كان يكفي هذا المشهد المأساوي وهذه الرؤوس وهذه الأيتام وهذه النساء الثكالى وهذا الإمام المقيد بالسلاسل. ويقترب الناس ويسألون: من أنتِ أيتها السبيّة، من أنت أيها اليتيم، فيجابون بأنهم بنات محمد نبي هذه الأمة وأيتام محمد نبي هذه الأمة. كان هذا الواقع كافياً ليقلب الأمور رأساً على عقب، وكثير من المدن والقرى والبلدات التي استقبلت موكب السبايا بالأفراح قلبت أفراحها إلى أحزان عندما علمت أن هؤلاء ليسوا خوارج وأن هؤلاء ليسوا من الديلم وأن هؤلاء هم أحفاد محمد وأيتام محمد. وهذه الأمة كلها تقرأ في كتاب الله: "قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة بالقربى". المسلمون قد يختلفون في مسألة الإمامة والخلافة والولاية بعد رسول الله ولكنهم لا يختلفون في مودتهم لقربى رسول الله ومحبتهم لأهل بيت رسول الله. عندما يعرف المسلمون من أهل المدن والقرى في العراق والشام أن هؤلاء هم القربى الذين أمر الله بمحبتهم وموّدتهم، كانت الأمور تتبدل وكانت الأمور تتغير، وسأذكر بعد قليل شاهداً على هذا المعنى وفي هذا السياق.

ج ــ الموكب يكسر حاجز الخوف ويستنهض الأمة
إذن، هذا الموكب في الحقيقة استطاع أن يبيّن الأمور، أن يستنهض الأمة، أن يكسر حواجز الخوف، أن يحمل معه دم الحسين إلى كل ارض، إلى كل شبر، إلى كل قلب، إلى كل عقل يحمل معه نور الهداية وشجاعة الثورة ومنطق القيام ورفض الذل والظلم. إن الذي حمل إلينا بعد مئات السنين هذا الشعار الذي نردده ونواجه به كل طواغيت العالم عندما يريدون إذلالنا "هيهات منا الذلة"؛ الذي حمل إلينا هذا الشعار من كربلاء هم هؤلاء السبايا وهؤلاء الأيتام الذين كانوا في ظاهر الأمر أسرى وسجناء، ولكنهم كانوا في حقيقة الأمر الأحرار الحقيقيين في هذه الأمة.
ولذلك نجد سرعان ما تحركت الثورات في الكوفة، في العراق، في أكثر من بلد إسلامي، فكانت ثورة التوابين والمختار وزيد بن علي عليه السلام وآخرين وآخرين حتى ثورة بني العباس ـ هذه الثورة التي اجتاحت ملك بني أمية خلال سنوات قليلة ـ لم تكن في البداية معروفة بأنها ثورة بني العباس. كم بقي بني أميّة بعد الحسين عليه السلام؟ بنو أميّة كان مقدراً لهم أن يحكموا لمئات السنين، ولكن هذا الدم في كربلاء وصرخة السبايا من بلد إلى بلد أيقظت الأمة. العباسيون رفعوا شعار السواد حزناً على الحسين. ثورتهم كانت تحمل راية ثارات الحسين وإن كانت تخدع الأمة بانها ستسلم السلطة لمن يرتضيه آل محمد. باسم الحسين قامت الثورة الكبرى التي جرفت ملك بني أمية بعد سنوات قليلة. وهذا ما كان ليكون لولا كربلاء وما جرى في كربلاء. وما كان ليكون لولا الجزء المكمل وهو هذا الموكب العظيم والكبير والتاريخي.

1 ــ الإمام السجاد: خطابه في المسجد الأموي كاد أن يثير الناس على يزيد
لو أخذنا شاهدين سريعين لأنتقل إلى المقطعين الآخرين من كلمتي: عندما دخل الموكب إلى دمشق؛ ودمشق هي علامة فارقة. عندما نقول ما جرى في دمشق نستطيع أن نفهم ما جرى في غير دمشق. لأن دمشق في ذلك الحين كانت في قبضة يزيد، يسيطر عليها ثقافياً وإعلامياً ونفسياً، ومن الطبيعي أن تكون موالية لهذه السلطة القائمة. ولكن حتى دمشق وأهلها، كيف تفاعلوا مع هذا الحدث، كيف تأثروا بهذا الحدث.
أنا أنقل نصّين: الأول في المسجد الكبير. ما يعرف الآن بالمسجد الأموي الكبير. عندما أخذت السبايا إلى هناك وفي حضور يزيد ووزرائه ووجهاء القوم، كان علينا أن نفترض أن المسجد لم يكن ممتلئاً فقط بالناس العاديين، كان ممتلئاً بزعماء القبائل ووجهاء القوم الذين دعاهم يزيد ليحتفلوا بانتصاره الكبير وبثأره العظيم من بدر.
في كل الأحوال، علي بن الحسين عليه السلام سعى أن يقف في المسجد ليخطب بالناس فأبى عليه يزيد ذلك، ولكن الناس الموجودين قالوا له: ائذن له هذا شاب في مقتبل العمر ومكسور الجناح "شو ممكن يحكي "خلينا نشوف، نحن حابين أن نستمع شو ممكن أن يتحدث".
وبنتيجة إصرار الحاضرين أذن له بأن يرتقي المنبر. فقام علي بن الحسين عليه السلام وخطب. طبعاً لن اذكر الخطاب لأنه طويل قليلاً لكن الشا:
فحمد الله وأثنى عليه، ثم ـ يقول المؤرخون ـ خطب خطبة أبكى منها العيون، "يعني، دمشق، المسجد الأموي يبكي لما جرى في كربلاء ويبكي لما جرى على الحسين عليه السلام في محضر القاتل" ثم خطب خطبة أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب.
ثم قال: أيها الناس أعطينا ستة، وفضلنا بسبع: أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين.
وفضّلنا بأن منا النبي المختار محمداً صلى الله عليه وآله، ومنّا الصدّيق ومنا الطيّار ومنا أسد الله وأسد رسوله، ومنّا سبطا هذه الأمة. من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.
أيها الناس: أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، يعني ابن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله.
أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا بن خير من حج ولبّى، أنا ابن من حُمل على البراق في الهوا، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنى فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السما، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى صلى الله عليه وآله.
أنا لست من الترك ولا من الديلم. أنا لست من الخوارج. أنا ابن نبيكم وابن رسولكم وابن هاديكم وابن سيدكم. وهذه النساء هن عماتي وأخواتي وبنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إلى أن يكمل عليه السلام: أنا ابن، أنا ابن، أنا ابن، ويقول ما جرى من أحداث، ثم يقول: أنا ابن فاطمة الزهراء. أنا ابن سيدة النساء، فلم يزل يقول أنا أنا ـ تذكروا في دمشق بين يدي يزيد ـ حتى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة. كاد المسجد؛ الحاضرون في المسجد أن يقوموا ويثورو،ا فأمر المؤذن أن يؤذن ويقطع عليه الكلام. هو ظن أنه إذا قطع عليه الكلام انتهت القصة. فلما قال المؤذن الله اكبر الله اكبر، قال الإمام علي السجاد: لا شيء أكبر منه. فلما قال أشهد أن لا إله إلا الله، قال علي ابن الحسين: شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي. فلما قال المؤذن أشهد أن محمداً رسول الله، التفت من فوق المنبر إلى يزيد فقال: محمد هذا جدي أم جدك يا يزيد؟ فان زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت وإن زعمت أنه جدي فلمَ قتلت عترته. هذا جزء من الصدح بالحق والتعريف بالحقيقة وعندما عرف أهل دمشق الحقيقة غضبوا وحزنوا وثاروا حتى خاف يزيد من الفتنة.
هنا، عندما يتحدث زين العابدين يقول: أنا، أنا، أنا، أنا؛ هو لا يريد أن يفتخر على الناس بنفسه. هو يريد أن يعرّف لهم نفسه، أن يعرّف لهم حقيقة هذه المجموعة التي قُتلت وسُبيت وأُهينت وجِيء بها على مدى 2000 كيلو متر.

2 ــ السيدة زينب: كلامها في قصر يزيد رسم المشهد نفسه
وكذلك الشاهد الآخر من زينب عليها السلام؛ وأيضاً في قصر يزيد. وفي كلا هذين الشاهدين نجد العز، الإرادة، التوكل، الثقة، اليقين بوعد الله سبحانه وتعالى، الإحساس بالعزة رغم القيود والسلاسل والعذابات والآلام. تصوروا امرأة سيدة شاهدت ما شاهدت في كربلاء ومشت كل هذه المسافة الطويلة ورأس أخيها وإخوانها وأبناء عماتها وأبناء أخوتها رؤوسهم أمام عيونها في الليل وفي النهار وعلى طول الطريق كيف يمكن أن يكون حالها، وهي سيدة. والمرأة بطبيعة الخلقة مجبولة على العاطفة وعلى الحنان، ومع ذلك قامت كالجبل الصلب في مجلس يزيد عندما شاهدته ورأس الحسين أمامه ينكث بعصاه ثغر أبي عبد الله الحسين عليه السلام. لم تتحمل هذا المنظر. قامت وخطبت وحولها الجلاوزة والحراب والسيوف التي يمكن أن تقطّعها إرباً إربا لكنها لم تخف ولم تخشَ.
وينقل لنا التاريخ إنه عندما سمعته يقول وهو ينكث شفتي أبي عبد الله الحسين عليه السلام يقول: ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسلْ لأهلوا واستهلوا فرحا ولقالوا يا يزيد لا تشلّْ. فجزيناهم ببدر مثلها وأقمنا مثل بدر فاعتدلْ؛ لم تتحمل ذلك.
وقفت وقالت: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على جدي سيد المرسلين ـ لتقول للناس إن محمداً جدي وأنا ابنته ـ صدق الله سبحانه؛ كذلك يقول: "ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون".
سأتلو فقط مقطعاً، والخطبة أيضاً طويلة: أظننت يا يزيد ـ انظروا إلى القوة، الإرادة، الصلابة، العزيمة، الثقة، العزة ـ أظننت يا يزيد حين أخذتَ علينا أقطار الأرض وضيقت علينا آفاق السماء فأصبحنا لك في إسار نساق إليك سوقا في قطار وأنت علينا ذو اقتدار، أنّ بنا من الله هوانا وعليك منه كرامة وامتنانا. وأن ذلك لِعظيم خطرك وجلالة قدرك فشمخت بأنفك ونظرتَ في عطفك فمهلاً مهلا ــ "طوّل بالك، على ماذا تستعجل أنت".
فمهلاً مهلا؛ لا تطش جهلا، أنسيت قول الله "ولا يحسبنّ الذين كفروا إنما نُملي لهم خيراً لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، ولهم عذاب مهين".
أمن العدل يا ابن الطلقاء ـ تذكره بطلقاء، مكة لأنه أخذها إلى بدر؛ هي أخذته إلى فتح مكة ـ أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وسوقك بنات رسول الله سبايا: قد هتكت سترهن وأبدَيت وجوههنّ يحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهن أهل المناقل ويبرزن لأهل المناهل ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والغائب والشهيد والشريف والوضيع والدنيّ والرفيع ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي؛ عتواً منك على الله وجحوداً لرسول الله ودفعاً لما جاء به من عند الله. ولا غرو منك ولا عجب من فعلك وأنّى يرتجى من لَفَظَ فوه أكباد الشهداء ـ تذكر بجدّته هند ـ ونبت لحمه بدماء السعداء ونصب الحرب لسيد الأنبياء وجمع الأحزاب وشهر الحراب.. إلى أن تقول له: " وما فريت إلا جلدك وما جززت إلا لحمك وسترد على رسول الله بما تحملت من ذريته حيث يجمع به شمله ويلم به شعثه وينتقم من ظالمهم ويؤخذ لهم بحقهم من أعدائهم. فكد كيدك وناصب جهدك؛ فو الله لا تمحو ذكرنا ولا تميت أمرنا ولا تدرك أمدنا ولا تبلغ غايتنا. وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد" والحقيقة هي ما قالتها السيدة زينب في قصر يزيد. فلم يكن رأيه إلا فنداً وأيامه إلا عدداً وجمعه إلا بدداً.
واستطاع هذا الدم الزكي الذي استنهض الأمة وأثار الأمة كلها بمسلميها ومسيحييها، والتاريخ يذكر لنا كيف تعاطت الكنائس المسيحية في بلاد الشام مع موكب السبايا ومع رأس أبي عبد الله الحسين (ع) ومستوى التأثر الكبير والعظيم والحزن الذي أظهرته والتنديد الذي قالته في أكثر من مجلس حتى في مجلس يزيد نفسه؛ عندما وقف مسيحي في مجلس يزيد وقال ليزيد " أنا من نسل فلان من حواري السيد المسيح(ع) وبيني وبين أبي ـ يعني جده الأكبر الذي هو من الحواريين ـ مئات السنين، ومع ذلك ما زال الناس يتبركون بي. وهذا ابن بنت نبيكم وما زال عهدكم بنبيكم طرياً تقتلونه وتقطعون رأسه وتسبون نسائه"؟ فأخذ وقتل.


 


* كلمة الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في إحياء مراسم الإمام الحسين (عليه السلام) في بعلبك 25/1/2011 ـ القسم الثقافي.

 

2019-09-25