يتم التحميل...

وظيفة المبلغ اتجاه الناس

إضاءات إسلامية

لا يكاد ينجح عمل المبلِّغ الدِّينيّ دون كسب مودّة الناس، فهو يعمل معهم، ويبغي التأثير عليهم، واستصلاح حالهم، وتوجيههم نحو الخير، وردعهم عن الشرّ، فكيف يصل إلى ذلك إذا حكمت بينه وبينهم قطيعة أو نفروا من الاستماع إليه والاقتراب منه؟!.

عدد الزوار: 9

هل نسعى لكسب مودّة الناس؟
لا يكاد ينجح عمل المبلِّغ الدِّينيّ دون كسب مودّة الناس، فهو يعمل معهم، ويبغي التأثير عليهم، واستصلاح حالهم، وتوجيههم نحو الخير، وردعهم عن الشرّ، فكيف يصل إلى ذلك إذا حكمت بينه وبينهم قطيعة أو نفروا من الاستماع إليه والاقتراب منه؟!.

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر واليه على مصر: "وليكن أحبَّ الأمور إليك أوسطها في الحقِّ، وأعمّها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإنَّ سخطَ العامّة يجحف برضى الخاصّة، وإنّ سخط الخاصّة يُغتفر مع رضى العامّة"1.

كما يقول عليه السلام: "إنَّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودّة الرعيّة..."2.

أمّا القرآن الكريم فإنّه يقرن النجاح بعنصرين: أحدهما التمسّك بحبل الله تعالى والآخر التمسّك بحبل الناس، حيث يقول عن أهل الكتاب:  ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ3.

بينما يقول تعالى لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ4.

ممّا يُفيد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يجب أن يكون بمستوى من الأخلاق بحيث يكسب مودّة الناس ولا يُنفِّرهم عنه. وتأتي في هذا السياق أيضاً جميع النصوص الواردة في أهميّة التودّد إلى الناس5.

كما تأتي في هذا السياق أيضاً جميع النصوص الواردة في النهي عن معاداة الرجال، حتّى جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "ما كاد جبرائيل عليه السلام يأتيني إلّا قال: يا محمّد اتّق شحناء الرجال وعداوتهم"6.

أ - مودّة الناس ليست قيمة مطلقة

يجب أن لا ننظر إلى "مودّة الناس" باعتبارها مقياساً للحقِّ والباطل، فقد يكون الناس معنا وقد لا يكونون، إنّنا نسعى لهدايتهم وكسب مودّتهم، ونكون لهم أباً رحيماً لا سبعاً ضارياً، إلا أنّهم قد لا يكونون أهلاً للهداية ولا يستجيبون لداعي الحقِّ.

لقد أعرض أكثر الناس عن أهل البيت عليهم السلام حتّى قال الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام "ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يُحبّنا"7.

ولقد أعرض أكثر الناس عن الأنبياء عليهم السلام حتّى قالوا فيهم: ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا8.

لاحظوا ماذا يقول الإمام الصادق عليه السلام: "رحم الله عبداً اجترّ مودّة الناس إلينا"9. فالمطلوب هو كسب المودّة للدِّين، وأئمّة الدِّين، وقضايا الدِّين.

ثمَّ لاحظوا ماذا يقول الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: "من تعلّم علماً ليُماري به السفهاء، أو يباهي به العلماء، أو ليقبل بوجوه الناس إليه فهو في النار"10.

وهذا المعنى نفسه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من طلب العلم لأربع دخل النار: ليُباهي به العلماء. أو يُماري به السفهاء. أو ليصرف وجوه الناس إليه. أو يأخذ به من الأمراء"11.

كما جاء عن الإمام الصادق في أصناف الناس المنحرفين: "جاهل متردّي معانق لهواه، وعابد متقوّي كلّما ازداد عبادة ازداد كبراً، وعالم يريد أن يوطأ عقباه ويحبّ محمدة الناس"12.

وهكذا قد تتحوّل عملية كسب مودّة الناس إلى انحراف وضلال حينما تكون هي الهدف.

ب - رضى الله قبل رضى الناس
يقول الإمام عليّ عليه السلام في كتابه إلى محمد بن أبي بكر حين ولّاه مصر: "ولا تُسخط الله برضى أحد من خلقه"13.

وهو في هذه التوصية يُحذّرنا من الانسياق مع طلب رضى الناس ومودّتهم بعيداً عن رضى الله تعالى وتجاوزاً للحقّ، وإهمالاً لواجب النصيحة الّتي قد تُسخط عدداً من الناس.

إنَّ السعي في كسب مودّة الناس يجب أن لا يدعونا للمداهنة في دين الله، والتنازل عن الوظيفة الشرعية المفروضة على المؤمنين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و"القول بالحقِّ وإن عزّ"14.

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ15.

وقال سبحانه: ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً16.

وقد كان الإمام عليّ عليه السلام يقول: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة"17. وقد أمر الله تعالى نبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أن يُغلظ على المنافقين في القول ولا يُداهنهم في قول أو فعل.

وهكذا لا تكون الابتسامة مع الناس دائماً هي المنهج الصحيح، كما لا تكون الغلظة دائماً أسلوباً مقيتاً.

والمبلِّغ الدينيّ يجب أن لا ينساق مع دوافع العاطفة أو مصلحة كسب الناس وشراء مودّتهم، ثمّ ينسى مسؤوليّته في توجيه الناس وهدايتهم والنصح لهم فيما أحبّوا أو كرهوا.

وقد قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ18.

ويأتي في هذا السياق ما ورد من النصوص الشريفة في حرمة المداهنة مثل قوله تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ19.

وقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الباقر عليه السلام: "أوحى الله إلى شعيب: إنّي معذّب من قومك مائة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال: يا ربّ هؤلاء أشرار فما بال الأخيار؟!.

فأوحى الله عزَّ وجلّ إليه: "داهَنوا أهل المعاصي فلم يغضبوا لغضبي"20.

والإدهان والمداهنة بمعنى ترك المناصحة، ومصانعة أهل المعاصي والتساهل معهم.

ج - الانفتاح على الجمهور
يقول الإمام عليّ عليه السلام في عهده لمالك الأشتر: "وأمّا بعد، فلا تطولنّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلّة علم بالأمور..."21.

كما يقول عليه السلام في موضع آخر من العهد: "واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم شخصك، وتجلس لهم مجلساً عامّاً فتتواضع فيه لله الّذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطتك، حتّى يُكلّمك متكلِّمهم غير متتعتع، فإنّي قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في غير موطن: لن تُقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير متعتع"22.

وهكذا يتعيّن على المبلِّغ الدِّينيّ أن يكون قريباً من الناس، حاضراً عندهم، يستطيع أن يصل إليه صاحب المسألة والحاجة.

وهنا يجب أن نُلفت النظر إلى أنّ الانفتاح على الناس والاقتراب منهم، يجب أن لا يكون على حساب العلم والعمل، وتنظيم الأوقات؛ فمن الخطأ أن يستهلك المبلِّغ الدِّينيّ كلّ وقته في الاستماع لأحاديث الناس، فيلهو بذلك عن مشاغله الأخرى العلمية والعملية، وتسقط هيبته في أعينهم، بل المفروض أن يجعل للناس وقتاً خاصّاً يلتقي فيه بهم، كما قال أمير المؤمنين: "واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك".

وكما جاء في عهده لمالك الأشتر: "فلا تطولنّ احتجابك عن رعيّتك".

فالنهي إنّما جاء عن طول الاحتجاب، وليس عن الاحتجاب الّذي يتطلّبه تنظيم العمل والوقت.

د - توضيح الحقائق
يقول الإمام عليّ عليه السلام في عهده لمالك الأشتر: "وإن ظنّت الرعيّة بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقاً برعيّتك، وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحقّ"23.

وهكذا نعرف أنّ المبلِّغ الدِّينيّ مسؤول عن توضيح الحقائق للناس وردّ الشبهات الّتي تختلج في صدورهم حوله، أو حول العمل الإسلاميّ، والشؤون المتعلّقة به.

هـ - حدّثوهم بما يعرفون
جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تُحدّثوا الناس بما لا يعرفون، أفتحبون أن يُكذّب الله ورسوله؟!"24.

وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أتُحِبُون أن يُكذّب الله ورسوله؟ حدِّثوا الناس بما يعرفون، وأمسكوا عمّا يُنكرون"25.

والمقصود هو: الاجتناب عن طرح المعارف العالية والدقيقة الّتي لا تُطيقها أفهام الناس، وربّما اختلطت عليهم الحقائق بسبب ذلك فيضلّوا أو يجحدوا فيكون وزر ذلك على المبلِّغ الدِّينيّ.

إنّ أذهان عامّة الناس - مثلاً - لا تتحمّل الخوض في موضوع القضاء والقدر، ولهذا جاء النهي عن ذلك.

وإنّ أذهان عامّة الناس - مثلاً - لا تتحمّل الحديث عن كثير من الأمور الفلسفية فما هو المبرِّر للخوض فيها؟.

وربّما يكون شاهداً على ذلك ما جاء عن حمران حين سأل الإمام الباقر عليه السلام عن الأمور العظام من الرجعة وغيرها فقال عليه السلام: "إنّ هذا الّذي تسألونني عنه لم يأت أوانه، قال الله تعالى ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ26".

وجاء عن الإمام الصادق عليه السلام: "خالطوا الناس بما يعرفون، ودعوهم ممّا ينكرون، ولا تحملوا على أنفسكم وعلينا، إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يتحمّله إلا ملك مقرّب، أو نبيّ مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان"27.

وقد تكرّرت هذه التوصية عنهم عليهم السلام، الأمر الّذي يدلّنا على أهميّتها، والوقوف عندها.

فهل المقصود مجاراة الناس في أفكارهم، وعدم التنبيه على أخطائهم؟

وهل المقصود ترك الناس على ما هم عليه من المعرفة، فلا نضيف لهم علماً جديداً؟

طبعاً لا.. فإنّ مهمّة المبلِّغ الدِّينيّ هي إرشاد الناس إلى المعارف الحقّة، وإخراجهم من ظلمات الأفكار المنحرفة وتقويمهم إذا أخطأوا أو زلّوا، وبدون ذلك يكون المبلِّغ قد كتم البيّنات والعلم النافع، فقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كتم علماً نافعاً ألجمه الله يوم القيامة بلجامٍ من نار"28.

ويكون قد سكت عن إظهار العلم، وتخلّف عن واجبه الّذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا ظهرت البدعة في أمّتي فليُظهر العالِم علمه، فإن لم يفعل فعليه لعنة الله"29.

إنّ القرآن الكريم وهو كتاب الله ورسالته إلى البشر رغم كلّ المعاني العليا الّتي جاء بها إلا أنّه لم يأتِ بحديثٍ يُنكره الناس ولا يُطيقون فهمه، رغم أنّ العارفين يستطيعون أن يخوضوا في بطونه ويستنبطوا معانيه، إلا أنّه كان لعموم الناس واضحاً، سهلاً، مفهوماً، لا لبس فيه.

هكذا يجب أن يكون حديث المبلِّغ الدِّينيّ.
وبهذا الاتّجاه جاءت الروايات الّتي توصي بالرفق في الحديث مع الناس، حتّى جاء عن الإمام الرضا عليه السلام ـ حين شكى له تلميذه يونس بن عبد الرحمن ما يلقى من أصحابه من الوقيعة ـ قوله عليه السلام: "دَارِهِم فإنّ عقولهم لا تبلغ"30.

* التبليغ الديني، سلسلة المعارف الإسلامية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 32، ص 601.
2- م. ن، ج 110، ص 153.
3- سورة آل عمران، الآية: 112.
4- سورة آل عمران: الآية: 159.
5- قد عقد الشيخ الكليني في الكافي باباً خاصّاً لما ورد في هذا الشأن، انظر: الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 647 .
6- م. ن، ج2، باب المراء والخصومة ومعاداة الرجال.
7- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 34، ص 297.
8- سورة هود، الآية: 27.
9- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج2، ص: 30.
10- م. ن، ج 2، ص 30.
11- م. ن، ج 2، ص 38.
12- م. ن، ج 2، ص 50.
13- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج2، ص: 65.
14- دعاء مكارم الأخلاق، للإمام زين العابدين.
15- سورة التوبة، الآية: 73.
16- سورة التوبة، الآية: 123.
17- الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 59.
18- سورة الأحزاب،الآية:39 ،
19- سورة القلم، الآية: 9.
20- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 12، ص 386.
21- م.ن، ج 32، ص 609.
22- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 74، ص 258.
23- بحار الأنوار، م. س، ج 32، ص 610.
24- م. ن، ج 2، ص 77.
25- م. ن.
26- سورة يونس، الآية: 39.
27- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج2، ص 71.
28- م. ن، ج2، ص، 78.
29- م. ن، ج2، ص، 72.
30- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج2، ص 68.

2017-04-14