يتم التحميل...

هل الكوارث والشرور تناقض برهان النظم؟

فكر الشهيد مطهري

صحيح أنّنا نرى أشكالا من النظم في عالم الخلق، لكنّنا نرى إلى جانبها أشكالاً متنوّعة من انعدام النظم والشرور لا تنسجم مع عقيدة الإلهيين بوجود إله يدبّر شؤون العالم،

عدد الزوار: 27

نقض الشّرور لبرهان النّظم
صحيح أنّنا نرى أشكالا من النظم في عالم الخلق، لكنّنا نرى إلى جانبها أشكالاً متنوّعة من انعدام النظم والشرور لا تنسجم مع عقيدة الإلهيين بوجود إله يدبّر شؤون العالم، وأوضح دليل على ذلك أن الجميع- حتى الموحدين وأتباع الأديان الإلهية - يتذمّرون باستمرار من الوضع الموجود ويطالبون بتغييره إمّا بالعمل أو الدعاء1.

المراد من الشرور والأسئلة المثارة بشأن وجودها2
إنّنا نرى كثيراً من الشرور وأشكال انعدام النظم والتدبير في العالم، سواء في الشؤون المرتبطة بحياة الإنسان أو غيره من الموجودات، مثل الحيوانات التي لا تقع ضمن دائرة مسؤولية الإنسان، فلماذا تقع الزلازل وغيرها من الكوارث الطبيعية؟ إذا كان ثمّة تدبير ونظم يحكم عالم الوجود، فلماذا تقع الزلازل بصورة مفاجئة فتدمّر المدن وتدفن الآلاف من الأبرياء تحت الأنقاض؟ لماذا يتفشى أحد الأوبئة فجأة ويحصد الصغار والكبار والأبرياء والمذنبين دون تمييز؟ بل وكسؤال عام نقول: لماذا خلقت كلّ هذه الكائنات الحيّة التي تحتاج الى طعام دون توفير ما تحتاجه من غذاء؟ إنّ النظام القائم هو نظام شريعة الغاب والتنازع من أجل البقاء، فالحيوانات يأكل بعضها بعضا بسبب عدم توفر ما يكفيها جميعا من الغذاء، ولو كان المقدار اللازم من الغذاء متوفّراً لكان عدد المخلوقات أكثر بكثير من العدد الفعلي.

الجواب الإجمالي على شبهة الشرور3
عادة ما يجيب المتديّن على الأسئلة المتفرّعة من الشبهة المتقدّمة بجواب مجمل، فإذا سألته: لماذا تنزل بنا كل هذه المصائب والشدائد، ولماذا تصيبنا الأمراض؟ ولماذا... ولماذا...؟ تسمع منه هذا الجواب المجمل: توجد - ولا ريب - مصلحة في كلّ ذلك... فالله أعلم بما يصلح خلقه، ولا بدّ من وجود حكم ومصالح من خلقه للموت والفقر والجهل والمرض.

ولا يخفى أن هذا الجواب المجمل يقنع المؤمنين فقط، ومرادي من وصف المؤمنين هنا ليس المتعبّدين، بل الذين بلغ بهم الإيمان بعظمة نظم هذا العالم درجة من الرسوخ والقوّة تجعلهم يشعرون بالجهل - قبل كلّ شيء - عندما يواجهون مثل هذه الأسئلة، وهذه حالة طبيعية في الإنسان، إذ إنّ كلّ من يشعر بعظمة شخص معيّن ولا يرى في أفعاله سوى حسن النظم والحكمة والعدالة لا يعترض على ما لا يعرف أو لا يفهم وجه الحكمة فيه من أعماله، بل يقرّ بجهله، ويقول: لا شكّ في وجود حكمة في هذا العمل، وجهلي بها لا ينفي وجودها.

... فحاله هي كحال الذي يدخل في مصنع مبني على درجة عاليه للغاية من النظم والترتيب والدقّة، ثمّ يرى في إحدى زواياه أشياء يتصوّر أولاً أنّها زائدة ولا فائدة منها للمصنع، ثمّ يتراجع عن هذا التصوّر، ويقول: إن من أنشأ هذا المصنع بكلّ هذه العظمة والدقّة والنظم المتقن لا يمكن أن يغفل عن هذه الأشياء، لا بدّ أنّه قد وضعها هنا لحكمة معيّنة لا ينفي وجودها جهلي أنا بها.

إذاً، مثل هذا الجواب المجمل مقنع لمن بلغوا هذه المرتبة من الإيمان، أمّا الذين لم يبلغوا هذه المرتبة من الإيمان، فهم بحاجة ماسّة الى جواب تفصيلي، وهو الجواب الذي نعرضه فيما يأتي:

الجواب التفصيلي، تحليل ماهية الشرور4
إنّ جميع الشرور أمور عدمية وليست أموراً وجودية، فالوجود هو خير محض، وكلّ ما ترونه شرًّا فهو عدم.

وهذا القول يعني أنّ العالم لا يتكّون من نوعين من الوجودات: وجودات خير ووجودات شرّ، ولذلك فلا يبقى ثمّة مجال للاعتراض القائل: لماذا خلق مبدأ الوجود، وجودات الشرّ الى جانب وجودات الخير؟ لأنّ جميع الشرور هي عدم وأمور عدمية، فالموت ليس سوى "عدم الحياة" وخالق الحياة لم يخلق الموت كوجود مستقلّ، بل إنّ خالق الحياة هو خالق الحياة، وغاية الأمر هو أنّ الحياة ما دامت محدودة بحدّ، فإنّ ما بعد هذا الحدّ هو العدم، كما هو الحال إذا خططت خطاً بطول متر واحد، فأنت هنا خالق لهذا الخط، لكنّك إذا وضعت هذا الخطّ الى جانب خط طوله متران وجدته فاقداً لخطّ طوله متر واحد دون أن يعني ذلك أن خلقت "عدم" وجود هذا المقدار المفقود، بل الصحيح أنّك لم تخلق هذا المقدار من الخطّ.

الشرّ عدم أو منشأ للعدم5
وهكذا الحال مع كلّ ما ترونه شراً في هذا العالم، فإذا تتبّعتم ماهيّته وجدتموه عدماً وفقداناً بنفسه، أو وجودا لكنه ليس شراً بما هو وجود، بل بما هو منشأ للعدم والفقدان، وهنا أيضاً يكون شراً من جهة كونه يؤدّي إلى العدم والفقدان.

فالعمى شرّ لأنّه عدم وفقدان. أمّا العمل الذي يؤدّي الى العمى، فهو وجود بما هو عمل، لكنه يكتسب صفة الظلم ، والظلم شر، إذا قام شخص به وسلب بصر شخص آخر. صحيح أنّ الظلم شرّ، ولكن لماذا هو شر؟ هل أن وجود القوّة لدى من يأخذ سكيناً ويقلع بها عين شخص آخر هو شرّ بما هي قوّة؟ وهل أنّ وجود الإرادة فيه شرّ؟ وهل أنّ قدرته على تحريك يده شرّ؟ وهل أن وجود صفة القطع في السكين شرّ؟ وهل أنّ كلّ هذه الأمور تكون شراً إذا لم تؤدّ إلي العدم وفقدان البصر؟ وهل سيكون وجودها ظلماً؟ كلا. إنّ كلّ هذه الأمور الوجودية هي خير، ولا تكتسب صفة الشرّ إلا إذا أدّت الى نوع من العدم، وهو العمى.

معنى عدميّة الشرور6
كذلك الحال مع الفقر والضعف والجهل فهي شرور، لأنّها مصاديق للعدم والفقدان، كما أنّ جميع الأمور الوجودية التي تؤدّي إلى العدميات تكتسب صفة الشرّ لارتباطها بتلك العدميات، أي تكون شروراً بالعرض، أي بواسطة شيء آخر، وليست شروراً بحدِّ ذاتها. ولكنّ بعض الأشخاص فهموا هذه الحقيقة بصورة مغلوطة، فقالوا: إنّ قولكم بأنّ الشرور أمور عدمية يعني عدم وجود العقرب والفقر والظلم التي هي من مصاديق الشرور؟! كلا، هذا الفهم ليس صحيحاً. فالفلاسفة لا يريدون نفي وجود الفقر والفقير أو العقرب، بل إنهم يقولون: إنّ الشرور الموجودة في العالم، إمّا أن تكون - بحدّ ذاتها - أمورا عدمية، وإمّا أن تكون وجودات فيها صفات عدم شيء ما.

وجود الشرور اعتباري غير حقيقي7
من الواضح أنّ النور موجود والظلّ موجود أيضاً، وحيثما وجد النور وجد الظلّ إلى جانبه، ولكنّ الظلّ ليس سوى فقدان النور الذي يكون له مبدأ معيّن مثل الشمس أو المصباح، فإذا سطعت أشعة النور على مكان ما نوّرته، واذا لم تسطع على مكان معين كان هناك ظلّ، فهل توجد هنا حاجة للبحث عن مبدأ الظلّ؟ الجواب واضح، ولذلك فلا حاجة للبحث عن مصدر وجود الظلال في هذا العالم، ولا معنى للسؤال القائل: إنّ الشمس هي مبدأ النور، فما هو مبدأ الظلال في هذا العالم؟

وهذا المثال يصدق على عالم الخلق عموماً، فالظلمات والشرور هي عدميات هذا العالم، ولذلك فلا حاجة للاعتقاد بوجود مبدأ مستقلّ لها.

بذلك ينحلّ الإشكال الذي تثيره عقيدة الثنوية، ولكن يبقى إشكال تعارض وجود الشرّ مع أصل الحكمة وأصل العدل، إذ يثار هنا الإشكال الآتي: أنتم تقولون: إنّ مبدأ العالم واحد وهو حكيم وعادل، فلماذا خلق العالم بصورة تظهر كلّ هذه الظلمات والشرور ولو بشكل أمور عدمية؟ ألم يكن قادراً على خلق العالم بصورة يكون النور فيها مطلقاً؟ لماذا لم يملأ هذه الفراغات العدمية التي تشكّلها في الواقع هذه الظلمات والأمور العدمية؟

إدارة عالم الخلق وفقاً لقانون كلي8
إنّ مشاهداتنا لظواهر هذا العالم الدنيوي تدلّنا على حقيقة كونه يدار طبقاً لقانون كلّي، وليس طبقاً لقانون جزئي، بل إنّ هذه الفكرة قد انتشرت بين الجميع ويقرّ بها الموحّدون أيضاً، وهي تعني أنّ حياة كلّ إنسان خاضعة لقانون كلي عام يعبّر عنه القرآن الكريم بكلمة "السنّة"، وهذا ينفي أن أكون أنا محكوماً بقانون جزئي خاصّ بي، يختلف عن القانون الجزئي الذي يحكمك أنت، أو القانون الذي يحكم الشخص الفلاني، أي إنّ الله يدير العالم بإرادة كلية عامّة، وليس بإرادات شخصية وجزئية ، حسب المصطلح الفلسفي، فهذا محال، لأنّ الإرادة الجزئية الشخصية من شأن الموجود الحادث الذي يخضع لتأثير عوامل أخرى تجعله يأخذ بهذه الإرادة حيناً وبتلك الإرادة حيناً آخر، أمّا واجب الوجود فذاته عين إرادته، وإرادته عين ذاته، ومحال أن يكون على غير ذلك. ولذلك، فلا يناسب مقام القدوسية سوى أن يدير شؤون العالم طبقاً لنظام كلّي وقانون كلّي مثلما خلق كلّ عالم الوجود بإرادة كلّية شاملة.

ويكفينا لفتح باب الجواب عن الشبهة المتقدّمة إدراك الحقيقتين المتقدّمتين، وهما: الأولى هي أنّ الله يدير شؤون هذا العالم بإرادة كلّية وسنّة وقانون عام، وليس بإرادات شخصية وجزئية. والثانية هي أنّ التغيّر والتأثّر وتبادل التأثير بين علل هذا العالم الدنيوي هي لوازم طبيعية وذاتية فيه. وبعد معرفة هاتين الحقيقتين ينفتح باب الجواب الذي نعرضه فيما يأتي:

غلبة الخير على الشرّ في نظام عالم الخلق9
لننظر إلى الوضع الموجود فعلاً في عالم الدنيا من زاوية توفّر الحكمة فيه ونحسب مجموع ما فيه من خير وشرّ لنعرف هل أنّ الغالب عليه هو الخير أم الشرّ الملازم لهذا الخير، انطلاقاً من عدم إمكانية الفصل بينهما؟

نحن نصف السنة التي تهطل فيها الأمطار بالمقدار المطلوب، وتشرق الشمس بالمقدار المتناسب، وتعطي جميع الأشجار ثمارها، بأنّها سنة خير، فيما نصف السنة التي تشهد موجة من البرد الشديد تتلف ثمار الأشجار في بداية ظهورها بأنّها سنة شرّ، ونحن نعلم أنّ وجود البرد الشديد ضروري في نظام العالم مثلما أنّ وجود دفء الشمس ضروري فيه، فهما متلازمان في هذا النظام، ولكن ما ينبغي لنا أن نعرفه هنا هو: هل أنّ الغلبة في هذا النظام للخير أم للشرّ؟ هل أنّ الأصل فيه: هو خير يطرأ عليه شرّ أم شرّ يطرأ عليه خير؟

إذا كان الخير هو حصيلة مجموع ما في نظام العالم، فلا يمكن الاعتراض على خلقه، لأنّ عدم خلقه بسبب وجود هذا الشرّ القليل يعني الحرمان من الخير الكثير، وهذا الحرمان هو - بحدِّ ذاته شر كثير. وقد قاموا هنا بعرض تقسيم خاصّ، فقالوا: إنّ الموجودات إمّا أن تكون خيراً مطلقاً - ومثل ذلك غير موجود في هذا العالم الدنيوي -، وإمّا أن تكون شرّاً مطلقاً - ومثل هذا غير موجود في أيّ عالم من العوالم -، لأنّ الموجود الذي يكون شرّاً إنّما يكون شرّاً لغيره لا لنفسه، فهو خير لذاته، ولذلك فلا وجود للشرّ المطلق.

ومع نفي وجود هذين النوعين من الموجودات تبقى ثلاثة أقسام محتملة:
الأول: يشمل الموجودات التي يغلب فيها الخير على الشرّ.
الثاني: ويشمل الموجودات التي يغلب فيها الشرّ على الخير.
الثالث: ويشمل الموجودات التي يتساوى فيها الخير والشرّ.

والموجود في نظام العالم الدنيوي هو القسم الأول، يضاف إلى ذلك أنّ هذا النظام هو نظام التطوّر والتكامل الوجودي، والشرور أقلّية فيه.

هذه نظرية فلسفية لرد الشبهة مورد البحث من الأساس، وهي تثبت توفّر الحكمة في خلق العالم، وتدحض الأساس الذي تنطلق منه أسئلة، من قبيل: لماذا لم تملأ الفراغات الموجودة في هذا العالم؟ ولماذا توجد هذه الأمور العدمية فيه؟ ونظائر هذه الأسئلة التي ترجع في النهاية إلى سؤال محوري هو: لماذا خلق هذا العالم بهذه الصورة؟ إذ إنّ هذه النظرية تبيّن أنّ طبيعة هذا العالم تستلزم وجود الشرّ إلى جانب الخير فيه، ولا يمكن تحقّق الهدف من خلقه إلا بخلقه بهذه الصورة، ولذلك قال الفلاسفة عن خلقه: (ليس في الإمكان أبدع ممّا كان)، أي إنّ تصوّر إمكانية خلقه بصورة أخرى وطبيعة أخرى وتحقّق الهدف من خلقه، لهو مجرّد فرض ووهم، لا واقع له.

الشرور لازم ذاتي في عالم الطبيعة10
إنّ الموجودات تشبه بالكامل في مراتبها الوجودية الأعداد في مراتبها، فمرتبة كلّ عدد هي قوام ذاته، بمعنى أنّ مرتبته ليست حالة عارضة عليه، بحيث إنّ وجوده مستقلّ عنها، كما هو حال المكان بالنسبة للجالس فيه، إذ إنّ وجود الجالس مستقلّ، عن المكان الذي يجلس فيه، فهويّته الوجودية تبقى محفوظة حيثما جلس، في هذا المكان المعيّن أو غيره، أي إنّ هذه الأماكن والمناصب والحالات عارضة علينا مستقلّة عن أصل وجوداتنا، ولكنّ الحال مع الأعداد يختلف، إذ إنّ مرتبة كلّ عدد هي قوام وجوده وذاته، فمرتبة العدد 5 تقع بين العددين 4 و 6، وإذا فرضنا انتقاله إلى مرتبة تقع بين العددين 15 و17 فإنه لن يفقد مرتبته ومكانه فقط، بل سيفقد هويّته أيضاً، بمعنى أنّه لن يكون العدد 5 بل العدد 16، فكون العدد 16 هو العدد 16 ملازم لوقوعه في مرتبة بين العددين 15 و 17، كذلك الحال مع العدد 5 فهويّته ملازمة لمرتبته الواقعة بين العددين 4 و 6، فلا يمكن الفصل بين العدد ومرتبته، ولا يصحّ القول بأنّ علّة خارجية معينة - أو توافقات اجتماعية معينة - هي التي جعلت العدد 5 بين العددين 4 و 6وكان من الممكن وضعه بين العددين 15 و 17 مثلاً، كلا هذا القول ليس صحيحاً، بل الصحيح هو أنّ مرتبة العدد قوام ذاته. كذالك الحال مع جميع موجودات هذا العالم، فمرتبة كلّ منها قوام ذاته.

وعليه، فإنّ هذه الكيفية من الوجود - أي الوجود المختلط بالعدم - تشكّل المقوّم الذاتي لموجودات عالم الطبيعة. فمن اللوازم الذاتية لذلك وجود الشباب والشيخوخة في هذا العالم الدنيوي، وكذلك تحرّك الإنسان من حالة أوّلية هي - مثلا- الذرة الأولى التي تكون فيما بعد النطفة ثمّ ظهوره بشكل جنين ثمّ وليد ثمّ شاب ثمّ شيخ ثمّ يتبدّل إلى صورة أخرى، عند انتقاله من هذا العالم إلى عالم آخر.

* دراسات عقائدية - الشهيد مرتضى مطهري، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- التوحيد، ص 422.
2- (م. ن)، ص 423 - 424.
3- التوحيد، ص 427 - 428.
4- التوحيد، ص 428 - 429.
5- (م.ن)، ص 429 - 430.
6- التوحيد، ص 430.
7- (م.ن)، ص 432.
8- التوحيد، ص 436 - 437.
9- (م. ن)، ص 437 - 439.
10- التوحيد، ص 439 - 440.

2016-08-19