يتم التحميل...

فلاح اتّباع القرآن في يوم القيامة

الفصل الأول

كما تقدمت الإشارة أنّ ما يحظى بالدرجة الأُولى من الأهمية بالنسبة للإنسان، والعقل يقضي بأن يكرّس كل اهتمامه من أجل تحقّقه على أفضل وجه،

عدد الزوار: 22

كما تقدمت الإشارة أنّ ما يحظى بالدرجة الأُولى من الأهمية بالنسبة للإنسان، والعقل يقضي بأن يكرّس كل اهتمامه من أجل تحقّقه على أفضل وجه، هو السعادة والفلاح الأخروي، لأنّ الحياة في هذا العالم مقدمة وتمهيد للحياة الأخروية الخالدة، فمثل الإنسان في هذا العالم نسبةً إلى عالم الآخرة كالمسافر، الذي يعمل ويجتهد ليلاً ونهاراً في بلاد الغربة متقشّفاً محاولاً جمع ثمرة جهوده وإرسالها إلى موطنه الأصلي ومسقط رأسه، ليقتني له داراً وملاذاً، ويهيئ رأس مالٍ كي يحيا لدى عودته ما تبقّى من أيام حياته وادعاً عزيزاً مكرّماً متنعماً بالإمكانيات التي أعدّها سلفاً، مع فارق أنّ الحياة الأخروية خالدة وأبدية.

إنّ عقائد الإنسان وأعماله وسلوكياته بذور يزرعها الإنسان بيديه في هذا العالم، وتتكشف ثمرتها ومحصولها في عالم الآخرة، ففي هذا العالم إذا ما غرس المزارع بذوره طبقاً لإرشادات عالم محنّك ومتخصّص بأمر الزراعة، فإنّه سيجني ثمرة جهوده في أوان الحصاد كميةً أكبر من الحاصل وبأفضل نوعية، وعلى هذا المنوال إذا ما نظّم الناس أعمالهم وسلوكياتهم على أساس تعاليم القرآن الكريم وعلوم أهل البيت عليهم السلام، ونظّموا أمورهم الفردية والاجتماعية والسياسية وفقاً لتوجيهات القرآن الكريم، فسيتنعمون بثمار أعمالهم الحسنة في الآخرة بالإضافة إلى العزة والرفعة في الدنيا، وسيكونون فرحين لِما أعدّوا لأنفسهم بأعمالهم الصالحة من مآل سعيد في جوار الرحمة الإلهية.

يوضّح علي عليه السلام المضمون الآنف الذكر بتشبيه رائع جداً، ويدعو الناس للعمل بالقرآن وصيانة أحكامه الحياتية والدفاع عنها: "فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ، وَلا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ"1.

بعد بيانه عليه السلام للمطالب المتقدمة من أنّ القرآن دواء وعلاج لأعظم أدواء المجتمع، يوصي الناس: باتّباعكم للقرآن تلمّسوا منه دواء أدوائكم، وأقبلوا على الله بعملكم بالقرآن، ولا تجعلوا القرآن وسيلةً للاستعانة بالآخرين.

ثم ينبّه عليه السلام من خطر ابتعاد الناس عن القرآن، ويدعوهم إلى اتّباع هذا الكتاب السماوي، والاقتداء به نظرياً وعملياً: "يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ، فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ"2 فعندما تقوم القيامة وتُبعث الخلائق للحساب ونيل العقاب والثواب، ينادي منادٍ فيُخبر أهل المحشر بهذه الحقيقة قائلاً: أيّها الناس اعلموا، أنّ كل إنسان مرهون اليوم بعاقبة عمله ومبتلى بآثار ومردودات ومحصول ما زرع، إلاّ الذين صاغوا عقائدهم وأعمالهم وأخلاقهم في الدنيا على أساس تعاليم القرآن وتوجيهاته، هؤلاء فقط الراضون عن عاقبة ونتيجة أعمالهم وأخلاقهم وعقائدهم، ولا يشعرون بالغبن أبداً.

التنبيه والإيقاظ

إنّ حياة كل مخلوق ومن بين ذلك الإنسان محدودة، فهذه الحياة تبدأ من نقطة زمانية معيّنة وتنتهي بالموت في نقطة زمانية محدّدة أيضاً، والإنسان على امتداد هذه الفترة المحدّدة يعيش حالة الصيرورة، وتمر شخصيته بحالة من الصياغة، فتصبح شخصية


الإنسان التي تنبثق عن معتقداته وقناعاته منشأً لأعماله وأخلاقه، وإنّ أعمال الإنسان وأخلاقه تتجسد يوم القيامة، وسيبتلي كل إنسان بمردودات ونتائج أعماله.

الأمر الذي حريّ التذكير به هنا هو: أنّ الإنسان مادام لم يرحل الدنيا فبإمكانه التعويض عن ما فاته من خلال المحاسبة وإعادة النظر في أفكاره وعقائده وأعماله في كل آن، وتغيير مصيره نحو السعادة والفلاح دنيوياً وأخروياً، فما أكثر الذين عادوا إلى أنفسهم في غضون لحظة واحدة وبقرار واحدٍ وتوبةٍ حقيقية، بدّلوا ماضيهم الأسود إلى مستقبل مشرق وسعيد، وقطعوا طريق مِئة عام في ليلة واحدة، ولكن ينبغي الانتباه إلى أنّ فرصة وإمكانية إعادة النظرة وتدارك الماضي إنّما هي سانحة في هذا العالم فقط، وتنتفي إمكانية تداركه بعد الموت والرحيل من هذا العالم الفاني.

إذا ما نظّم الإنسان أعماله وأخلاقه في هذا العالم على أساس القرآن والأحكام والمعارف الإلهية وكان ـ كما يعبّر علي عليه السلام ـ من حَرَثة القرآن فهو سيتنعم في الآخرة بثمارها وحصيلتها وسيكون سعيداً، ففرصة العمل والتدارك موجودة في الدنيا فقط، وعالم الآخرة ليس بمكان تدارك: "اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل"3 فاليوم يوم زراعة وعمل وليس هنالك حساب، وغداً يوم الجني والمحاسبة ولا وجود لفرصة العمل والتعويض.

يقول علي عليه السلام الخبير بالدنيا والآخرة والعلاقة بينهما، وداعي الخير للمسلمين والحريص عليهم: "فكونوا من حَرَثة القرآن" فإن كنتم تنشدون السعادة فاجعلوا زراعتكم وعملكم في مزرعة القرآن المباركة، كونوا من الذين يعمرون دنياهم وآخرتهم بتعاليم هذا الكتاب السماوي، اجعلوا القرآن مقتداكم كي لا تخسروا.

* تجلّي القرآن في نهج البلاغة - آية الله محمّد تقي مصباح اليزدي


1- بحار الأنوار: 32، 354.
2- نهج البلاغة: الخطبة 175.
3- نفس المصدر السابق.

2016-06-22