يتم التحميل...

أقسم بالله لتأتينكم القيامة

بحوث من سورة سبأ

تتعرّض الآيات مورد البحث إلى موضوع التوحيد وصفات الله في نفس الوقت الذي تهيء أرضيّة لموضوع المعاد، لأنّ مشكلات (بحث المعاد) لا يمكن حلّها إلاّ عن طريق العلم اللامتناهي للباريّ عزّوجلّ، كما سنرى.

عدد الزوار: 24

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَـلِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة فِى السَّمَـوَتِ وَلاَ فِى الاَْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـب مَّبِين (3)لِّيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِى ءَايَـتِنَا مُعَـجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْز أَلِيمٌ(5) سورة سبأ.

تتعرّض الآيات مورد البحث إلى موضوع التوحيد وصفات الله في نفس الوقت الذي تهيء أرضيّة لموضوع المعاد، لأنّ مشكلات (بحث المعاد) لا يمكن حلّها إلاّ عن طريق العلم اللامتناهي للباريّ عزّوجلّ، كما سنرى.

لذا فإنّ الآيات مورد البحث تبدأ أوّلا بقوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة). فما هو إلاّ كذب وإفتراء، بل إنّ القيامة لا تأتي أحداً من الناس.

ويريدون بذلك الفكاك والتحرّر من قيود هذه الإعتقادات; الحساب والكتاب والعدل والجزاء، ليرتكبوا ما يحلوا لهم من الأعمال.

ولكنّ القرآن بناءً على وضوح أدلّة القيامة يخاطب الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)بصورة حاسمة وفي معرف بيان النتيجة، فيقول: (قل بلى وربّي لتأتينكم).

والتركيز على كلمة «ربّ» لأنّ القيامة في الأصل من شؤون الربوبية. فكيف يمكن أن يكون الله مالكاً ومربياً للبشر يقودهم في سيرهم التكاملي، ثمّ يتخلّى عنهم في منتصف الطريق لينتهي بالموت كلّ شيء، فتكون حياتهم بلا هدف وخلقهم هباءً وبلا معنى.

وقد ركّز القرآن في الآية السابعة من سورة التغابن أيضاً على هذا الوصف، فقال تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربّي لتبعثنّ ثمّ لتنبئنّ بما عملتم).

وبما أنّ أحد إشكالات الكافرين بالمعاد، هو شكّهم ـ من جانب ـ في إمكانية جمع وإعادة بناء أعضاء الإنسان الميّت بعد تبعثرها وتفسّخها في التراب. وكذلك ـ من جانب آخر ـ في إمكانية وجود من يمكنه النظر في جميع أعمال العباد التي عملوها في السرّ والعلن والظاهر والباطن، لذا فإنّ الله تعالى يضيف في تتمّة الآية الكريمة (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين)(1).

ولذا، فلا يغيب عن علمه تبعثر ذرّات جسم الإنسان في التراب، ولا إختلاطها بسائر الموجودات، ولا حتّى حلولها في أبدان اُناس آخرين عن طريق الغذاء، ولا يشكّل مشكلة أمام إعادة بنائه من جديد .. وأعمالهم في هذه الدنيا تبقى محفوظة أيضاً، وإن تغيّر شكلها، فهو سبحانه المحيط بها علماً.

وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيات الثالثة والرّابعة من سورة (ق) في قوله تعالى: (أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد، قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ).

ولكن ما هو المقصود من «الكتاب المبين»؟

أغلب المفسّرين قالوا بأنّه «اللوح المحفوظ» ولكن السؤال هو: ما هو اللوح المحفوظ؟!

وكما ذكرنا سابقاً فإنّ أقرب تفسير (للّوح المحفوظ)، هو «لوح العلم الإلهي اللامتناهي» نعم في ذلك اللوح ضُبط وقُيّد كلّ شيء، بدون أن يجد التغيير والتبديل طريقه إليه.

وعالم الوجود المترامي الأطراف، هو الآخر إنعكاس عن ذلك اللوح المحفوظ، بلحاظ أنّ كلّ ذرّات وجودنا وكلّ أقوالنا وأفعالنا، تبقى محفوظة فيه، وإن كانت الظواهر تتغيّر، لكنّها لا تخرج عن حدّها أبداً.

ثمّ يوضّح تعالى الهدف من قيام القيامة في آيتين، أو بتعبير آخر إعطاء الدليل على لزوم مثل ذلك العالم بعد عالمنا الحالي لمنكري القيامة، فيقول تعالى: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك لهم مغفرة ورزق كريم).

فإن لم يُجازِ المؤمنين بصالح عملهم ثواباً، أفلا يعني ذلك تعطيل أصل العدالة الذي هو أهم أصل من اُصول الخلقة؟ وهل يبقى معنى لعدالة الله بدون ذلك المفهوم؟! في الوقت الذي نرى أنّ أغلب هؤلاء الأفراد الصالحين، لا يتلقون جزاء أعمالهم الحسنة في هذه الدنيا أبداً، إذن لابدّ من عالم آخر لكي يتحقّق فيه هذا الأصل.

تقديم «المغفرة» على «الرزق الكريم» ربّما كان سببه: أنّ أشدّ ما يقلق المؤمنين هو الذنوب التي إرتكبوها، لذا فإنّ الآية تطمئنهم بعرض المغفرة عليهم أوّلا، فضلا عن أنّ من لم يغتسل بماء المغفرة الإلهية لن يكون أهلا (للرزق الكريم) والمقام
الكريم!

(الرزق الكريم) يشمل كلّ رزق ذي قيمة، ومفهوم ذلك واسع إلى درجة أنّه يشمل كلّ المواهب والعطايا الإلهية، ومنها ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وبتعبير آخر فإنّ «الجنّة» بكلّ نعمها المعنوية والماديّة جمعت في هذه الكلمة، والبعض فسّر «الكريم» بأمرين: الجيد والخالي من المنغّصات، ولكن يبدو أنّ مفهوم الكلمة أوسع من ذلك بكثير.

ثمّ تضيف الآية الكريمة التالية، موضّحة نوعاً آخر من العدالة فيما يخصّ عقاب المذنبين والمجرمين، فيقول تعالى: إنّ الذين كذّبوا آياتنا وسعوا في إنكارها وإبطالها وتصوّروا أنّهم يستطيعون الخلاص من دائرة قدرتنا ... (والذين سعوا في آياتنا معاجزين اُولئك لهم عذاب من رجز أليم).

فهناك كان الحديث عن «الرزق الكريم» وهنا عن «الرجز الأليم».

«الرِّجْز»: في الأصل بمعنى الإضطراب وعدم القدرة على حفظ التوازن، ومنه قيل «رَجَزَ البعيرُ رجزاً» فهو أرجز، وناقةٌ «رجزاءُ» إذا تقارب خطوها وإضطرب لضعف فيها. واُجبرت على تقصير خطواتها لحفظ توازنها، ثمّ اُطلقت الكلمة على كلّ ذنب ورجس. كذلك فإنّ إطلاق كلمة «الرَجَزْ» على المقاطع الشعرية الخاصّة بالنزال في الحرب، من باب قصر مقاطعها وتقاربها.

على كلّ حال فالمقصود من (الرجز) هنا، أسوأ أنواع العذاب ـ الذي يتأكّد بإرداف كلمة «الأليم» أيضاً وأنواع العقوبات البدنية والروحية الأليمة.

والتفت البعض إلى هذه النكتة، وهي أنّ القرآن الكريم حين ذكر نِعم أهل الجنّة لم يستعمل كلمة «من» ليدلّل على سعتها، بينما جاءت هذه الكلمة عند ذكر العذاب لتكون دليلا على محدوديته النسبية، ولتتضح رحمته تبارك وتعالى.
«سعوا»: من السعي، بمعنى كلّ جهد وجدٍّ في أمر، والمقصود منها هنا، الجدّ والجهد في تكذيب وإنكار آيات الحقّ وصدّ الناس عن طريق الله سبحانه وتعالى.

معاجزين: من المعاجزة، بمعنى معجّزين، أي مثبّطين، وفي مثل هذه الموارد تطلق على من يفرّ من شخص آخر بحيث لا يمكّنه من التسلّط عليه، وبديهي أنّ هذا الوصف يستخدم للمجرمين لتوهمّهم الذي يظهرونه عملياً بهذا الإتّجاه، وعملهم يشبه إلى حد كبير من يتصوّر أنّه يستطيع القيام بأيّة جناية يشاء، ثمّ يستطيع الفرار من سلطة القدرة الإلهيّة!!.

* سورة سبأ / تفسير الأمثل / اية الله مكارم الشيرازي.


1 ـ «يعزب»: من مادة «عزوب» وتعني المتباعد في طلب الكلأ عن أهله، يُقال عَزَبَ يعزُبُ ويعزِب ثمّ أطلق على كلّ غائب، يقال رجل عزبٌ، وامرأة عزبةٌ إذا غاب عنها زوجها.

2016-06-13