يتم التحميل...

حركة السفن في البحار آية إلهيّ

قرآنيات

رغم أنّ بعض المفسّرين أمثال القرطبي اعتبر الآية الاُولى من هذه الآيات من أعقد وأصعب آيات هذه السورة، إلاّ أنّه وبتدقيق النظر في هذه الآيات وربطها بالآيات السابقة،

عدد الزوار: 35

وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَـعاً إِلَى حِين (44) سورة يس.

رغم أنّ بعض المفسّرين أمثال القرطبي اعتبر الآية الاُولى من هذه الآيات من أعقد وأصعب آيات هذه السورة، إلاّ أنّه وبتدقيق النظر في هذه الآيات وربطها بالآيات السابقة، يتّضح أن ليس هناك تعقيد في هذه الآيات، لأنّ الآيات السابقة تحدّثت عن دلالة قدرة الباري عزّوجلّ في خلق الشمس والقمر والليل والنهار وكذلك الأرض وبركاتها، وفي هذه الآيات التي أمامنا يتحدّث الباري عزّوجلّ عن البحار وقسم من بركات ونعم ومواهب البحار، يعني حركة السفن التجارية والسياحية على سطحها.

علاوةً على أنّ حركة السفن في خضمّ المحيطات ليست بعيدة في الشبه عن حركة الكواكب السماوية في خضمّ المحيط الفضائي.

لذا فإنّ الآيات الكريمة تقول أوّلا: (وآية لهم أنّا حملنا ذرّيتهم في الفلك المشحون).

الضمير «لهم» لا يعود فقط على مشركي مكّة، بل على جميع العباد الذين أشارت لهم الآيات السابقة.

«ذرّية»: كما يقول الراغب في مفرداته، أصلها الصغار من الأولاد، وإن كان يقع على الصغار والكبار معاً عرفاً، ويستعمل للواحد والجمع.

وما تذكره الآية من حمل ذريّاتهم وليس هم ربّما لأنّ الأولاد هم أكثر حاجة لركوب مثل ذلك المركب السريع، بلحاظ أنّ الكبار أكثر إستعداداً للسير على سواحل البحار وطي الطريق من هناك!!

فضلا عن أنّ هذا التعبير أنسب لتحريك عواطفهم.

«مشحون» أي مملوء، إشارة إلى أنّ السفن لا تحملهم هم فقط، بل أموالهم وتجارتهم وأمتعتهم وما أهمّهم أيضاً.

وما قاله البعض من أن «الفلك» إشارة إلى سفينة نوح، و «ذريّة» بمعنى الآباء من مادّة «ذرأ» بمعنى خلق، فيبدو بعيداً، إلاّ إذا كان من قبيل ذكر المصداق البارز.

على كلّ حال فإنّ حركة السفن والبواخر التي هي من أهمّ وأضخم وسائل الحمل والنقل البشري، وما يمكنها إنجازه يعادل آلاف الأضعاف لما تستطيعه المركّبات الاُخرى، كلّ ذلك ناجم عن خصائص الماء ووزن الأجسام التي تصنع منها السفن، والطاقة التي تحرّكها، سواء كانت الريح أو البخار أو الطاقة النووية. وكلّ هذه القوى والطاقات التي سخّرها الله للإنسان، كلّ واحدة منها وكلّها معاً آية من آيات الله سبحانه وتعالى.

ولكي لا يتوهّم أنّ المركّب الذي أعطاه الله للإنسان هو السفينة فقط، تضيف الآية التالية قائلة: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون).

المراكب التي تسير على الأرض، أو في الهواء وتحمّل البشر وأثقالهم.

ومع أنّ البعض فسّر هذه الآية بخصوص «الجمل» الذي لقّب بـ «سفينة الصحراء»، والبعض الآخر ذهب إلى شمولية الآية لجميع الحيوانات، والبعض فسّرها بالطائرات والسفن الفضائية التي اخترعت في عصرنا الحالي تعبير «خلقنا» يشملها بلحاظ أنّ موادّها ووسائل صنعها خلقت مسبقاً) ولكن إطلاق تعبير الآية يعطي مفهوماً واسعاً يشمل جميع ما ذكر وكثيراً غيره.

في بعض آيات القرآن الكريم ورد مراراً الإقتران بين «الأنعام» و «الفلك» مثل قوله تعالى: (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) زخرف ـ 12، وكذلك قوله تعالى: (وعليها وعلى الفلك تحملون) المؤمن ـ 80.

ولكن هذه الآيات أيضاً لا تنافي عمومية مفهوم الآية مورد البحث.

الآية التالية ـ لأجل توضيح هذه النعمة العظيمة ـ تتعرّض لذكر الحالة الناشئة من تغيير هذه النعمة فتقول: (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون).

فنصدّر أمرنا لموجة عظيمة فتقلب سفنهم، أو نأمر دوّامة بحرية واحدة ببلعهم، أو يتقاذفهم الطوفان بموجة في كلّ إتّجاه بأمرنا، وإذا أردنا فنستطيع بسلبنا خاصّية الماء ونظام هبوب الريح وهدوء البحر وغير ذلك أن نجعل الإضطراب صفة عامّة تؤدّي إلى تدمير كلّ شيء، ولكنّنا نحفظ هذا النظام الموجود ليستفيدوا منه. وإذا وقعت بين الحين والحين حوادث من هذا القبيل فإنّ ذلك لينتبهوا إلى أهميّة هذه النعمة الغامرة.

«صريخ» من مادّة «صرخ» بمعنى الصياح. و «ينقذون» من مادّة «نقذ» بمعنى التخليص من ورطة.

وأخيراً تضيف الآية لتكمل الحديث فتقول: (إلاّ رحمة منّا ومتاعاً إلى حين).

نعم فهم لا يستطيعون النجاة بأيّة وسيلة إلاّ برحمتنا ولطفنا بهم.

«حين» بمعنى «وقت» وهي في الآية أعلاه إشارة إلى نهاية حياة الإنسان وحلول أجله، وذهب البعض إلى أنّها تعني نهاية العالم بأسره.

نعم، فالأشخاص الذين ركبوا السفن أيّاً كان نوعها وحجمها يدركون عمق معنى هذه الآية، فإنّ أعظم السفن في العالم تكون كالقشّة حيال الأمواج البحرية الهائلة أو الطوفانات المفجعة للمحيطات، ولولا شمول الرحمة الإلهية فلا سبيل إلى نجاة أحد منهم إطلاقاً.

يريد الله سبحانه وتعالى بذلك الخيط الرفيع بين الموت والحياة أن يظهر قدرته العظيمة للإنسان، فلعلّ الضالّين عن سبيل الحقّ يعودون إلى الحقّ ويتوجّهون إلى الله ويسلكون هذا الطريق.


* تفسير الأمثل _سورة يس / اية الله مكارم الشيرازي.

2016-06-13