يتم التحميل...

المجازُ العقليّ

البلاغة

المجازُ العَقليُّ أسلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ الُّلغَةِ العَرَبِيَّةِ، يُعَبِّرُ عَنْ سَعَةِ هَذِهِ الُّلغَةِ، وقُدرتِهَا عَلَى تَجَاوزِ حدودِ الحقيقةِ إِلَى الخَيَالِ. وقَدْ قَالَ فِيهِ عبدُ القاهِرِ الجرجانيّ

عدد الزوار: 16

المجازُ العقليّ1:

المجازُ العَقليُّ أسلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ الُّلغَةِ العَرَبِيَّةِ، يُعَبِّرُ عَنْ سَعَةِ هَذِهِ الُّلغَةِ، وقُدرتِهَا عَلَى تَجَاوزِ حدودِ الحقيقةِ إِلَى الخَيَالِ. وقَدْ قَالَ فِيهِ عبدُ القاهِرِ الجرجانيّ2: "هَذَا الضَّربُ مِنَ المَجَازِ عَلَى حدَّتِهِ، كَنْزٌ مِنْ كنُوزِ البَلاغَةِ، ومادةُ الشَّاعر المفلقِ، والكاتبِ البَليغِ فِي الإبداعِ والإحسَانِ والاتِّساعِ فِي طَريقِ البَيَانِ"3.

والمَجَازُ العقليُّ غير اللغويّ، لأن الأخير يُستعمل فيه اللفظ في غير ما وُضع له ويراد غير ما وُضع له، بينما يُستعمل اللفظ في المجاز العقليّ فيما وُضع له.

فلو قلنا "بنى وزير التعليم العالي جامعةٌ" استعملنا فعل بنى في معناه، وكذلك كلمة الوزير، وأردنا منها دلالتهما الموضوعة، ولكننا سلكنا مسلك مجاز آخر هو الموسوم بالمجاز العقلي والذي يكون فيه المجاز في إسناد وبناء الجامعة إلى الوزير، أي أنّنا ادّعينا في العقل أنّه الوزير، لأنّه الآمر بالبناء مسبِّبهُ هو الباني مع أنه ليس الباني حقيقة. وهذا يختلف عما لو استعملنا لفظ السبب في المُسَبّب وأردنا منه المُسَبِّب كما في المجاز اللغوي المرسل، حيث لا يعود الوزير مستعملاً في الموضوع له.

والعقل هو القرينة على هذا المجاز العقلي وهذا الادعاء والتنزيل، وهذا المجاز في الإسناد، لأن الوزير يستحيل في العادة أن يبنيَ جامعةً وحده، بل هو لا يشارك في بنائها في العادة إلا رمزياً بوضع حجر الأساس، بل رجاله من مهندسين وعُمال هم الذين قاموا بهذا العمل، وإسناد البناء إليه مجاز عقليّ وإسناد للفعل إلى غير صاحبه. ولِهَذَا النَّوعِ مِنَ المَجَازِ علاقاتٌ مختلفةٌ باختلافِ الإسنادِ سنوضِّحُهَا مِنْ خِلَالِ الأمثِلَةِ الآتيةِ:

1- علاقة السببية: يقولُ اللهُ سبحانَهُ حِكَايَةً عَنْ فِرعَونَ: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ4.

فِي هَذِهِ الآيةِ نجدُ يُشبه في تحليله المثل السابق، فالفعلُ "ابنِ" أسنِدَ إلَى غيرِ فاعِلِهِ الحقيقيّ، فإنَّ هَامَانَ - وهُوَ الوزيرُ والمستشارُ - لَا يَقومُ بِفعلِ البِنَاءِ بنفسِهِ، وإنَّمَا مَنْ يَقُومُ بالفعلِ هُمُ العمَّالُ والبنَّاؤونَ، وهُوَ مَنْ يُعطِي الأَمرَ، ولكنْ لمَّا كانَ هَذَا الوزيرُ سَبَباً فِي بِنَاءِ الصَّرحِ، أُسنِدَ الفعلُ إليهِ، فعلاقَةُ هَامَانَ بالبِنَاءِ علاقَةٌ سَبَبِيَّةٌ، ولأنَّ الفِعلَ - هنَا - أُسنِدَ إِلَى سَبَبِهِ، وَهَذَا الإِسنَادُ غيرُ حقيقيّ، لأنَّ الإسنَادَ الحقيقيّ هُوَ إسنَادُ الفِعْلِ إلَى فَاعِلِهِ الحقيقيّ، فالإسنادُ هَذَا مَجَازِيٌّ، ويُسَمَّى بـ "المجاز العقلي".

2- علاقة الفاعلية: يقولُ الشَّاعِرُ5:
سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلاً وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّدِ
فِي هَذَا البيتِ إسنادُ الإبداءِ إلَى الأيَّامِ، ونَحنُ نَعلمُ أنَّه لَا يُمكنُ للأيَّامِ أنْ تُبدِيَ وتُظهِرَ، وإنَّمَا هِيَ زمانٌ لِحُصولِ الإبْدَاءِ، وقَد أرادَ الشَّاعرُ حقيقةً أنْ يقولَ لمُخَاطَبِهِ: إنَّ حَوادِثَ الأيَّامِ ستُبدِي لَكَ، فإسنادُهُ الإبْدَاءَ إلَى الأيَّامِ، مجازٌ عقليٌّ، وبِمَا أنَّ الأيَّامَ جزءٌ مِنَ الزَّمَانِ، ومَحَلٌّ لِوقُوعِ الإبداءِ، تكونُ العلاقَةُ علاقَةً "زمانيّة".

ومثلُ هَذَا لَو قُلنَا: "نهارُ الزَّاهِدِ صائمٌ وليلُهُ قائِمٌ"، فإنَّ الصَّومَ أُسنِدَ إلَى النَّهارِ، والنّهارُ لَا يصومُ، وإنَّمَا هُوَ زمانٌ للصِّيامِ، وأُسنِدَ القِيَامُ إلَى الَّليلِ، والَّليلُ لَا يَقُومُ، وإنما يقامُ فِيهِ، ونُلاحِظُ فِي هَذَا المثالِ أنَّه لَا يُوجَدُ فعلٌ يُسنَدُ إليهِ وإنَّمَا اسمُ فاعلٍ، وهَذَا جائزٌ، لأنَّ اسمَ الفاعِلِ شبيهُ الفِعلِ فِي قُوّتِهِ وَكَذَلِكَ اسمُ المفعولِ والمَصْدَرِ.

3- علاقة المكانية: يقولُ الحَيصَ بِيص6:
مَلكْنا فكان العَفْوُ منَّا سَجيَّةً فلمَّا مَلَكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ7
لَقَدْ أُسْنِدَ سَيَلانُ الدمِ إلَى أبطحَ، أيْ إلَى غَيرِ فَاعِلِهِ لأنَّ الأبطَحَ مكانُ سَيَلانِ الدَّمِ وهُوَ لَا يَسِيلُ، وإنَّمَا يَسِيلُ مَا فيهِ وهُوَ الدَّمُ، ولمَّا كانَ الإسنادُ إلَى مَكانِ جَرَيانِ الدَّمِ صَارَ الإسنادُ مجَازِيَّا عَلاقَتَه "المكانيةُ".

4- علاقة المصدرية: يقولُ أبُو فِراسٍ الحَمْدَانِيُّ:
سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم وَفي اللَيلَةِ الظَّلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ
فقد أسندَ الجِدَّ إلى الجِدِّ، أي الاجتهادِ، وهو ليسَ بفاعلِ له، بل فاعلُه الجادُّ - فأصله جدَّ الجادُّ جدًّا، أي اجتهدَ اجتهاداً، فحذفَ الفاعلَ الأصليَّ وهو الجادُّ، وأسندَ الفعلَ إلى الجِدِّ وهو مصدرُ الفاعلِ الحقيقيّ، ولِهَذَا كانت علاقة الإسنادَ المجازيَّ هُنَا هي "المصدريةٌ".

5- علاقة الفاعلية: يقولُ اللهُ - تَعَالَى-: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورً8.
الحِجَابُ فِي أَصلِهِ سَاتِرٌ، وليسَ مَستُور، وهنا نقولُ: أُسنِدَ الوَصْفُ المبنيُّ للمَفعولِ إلَى الفَاعِلِ، وكان حقّه أن يُسْنَدَ الى المفعول: لأن اسم المعفول يطلب نائب فاعل أي: مفعولاً، لا فاعلاً، فإذا أُسند إلى الفاعل كانَ هَذَا مَجَازاً عَقليَّاً عَلاقَتُهُ "الفاعليَّةُ". ومثلُ الآيةِ المبارَكَةِ قولُهُ - تَعَالَى-: ﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّ9.

6- علاقة المفعولية: يقول الله -تعالى-: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنً10.
الحرمُ لَا يكونُ آمِنَ، لأنَّ الإحسَاسَ بالأمنِ مِنْ صفاتِ الأحياءِ، وإنَّمَا هُوَ مأمونٌ فيه، فاسمُ الفَاعِلِ - هنَا - أسنِدَ إلَى المفعولِ، وهَذَا مَجَازٌ عَقليٌّ عَلَاقَتُهُ "المفعوليَّةُ"11.

* كتاب البلاغة الميسّرة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- ويسمّيه بعض البلاغيين بالمجاز الحُكْمي او الاسناد المجازي.
2- عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، أبو بكر. 471 هـ - 1078 م واضع أصول البلاغة، كان من أئمة اللغة، من أهل جرجان (بين طبرستان وخراسان) له شعر رقيق. من كتبه (أسرار البلاغة- ط)، و(دلائل الإعجاز- ط)، و(الجمل- خ) في النحو، و(التتمة- خ) نحو، و(المغني) في شرح الإيضاح، ثلاثون جزءاً، اختصره في شرح آخر سماه (المقتصد- خ) الجزء الثاني منه، و(إعجاز القرآن- ط)، و(العمدة) في تصريف الأفعال، و(العوامل المائة- ط).
3- دلائل الاعجاز ص 228
4- سورة غافر، الآية: 36.
5- طُرَفَةٌ بن العبد بن سفيان بن سعد، أبو عمرو، البكري الوائلي. 86 - 60 ق. هـ/ 539 - 564 م شاعرٌ جاهليٌ من الطبقة الأولى، كان هجاءً غير فاحش القول، تفيض الحكمة على لسانه في أكثر شعره، ولد في بادية البحرين وتنقّل في بقاع نجد. اتصل بالملك عمرو بن هند فجعله في ندمائه، ثم أرسله بكتاب إلى المكعبر عامله على البحرين وعُمان يأمره فيه بقتله، لأبيات بلغ الملك أن طرفة هجاه بها، فقتله المكعبر شابّاً.
6- سعد بن محمد بن سعد بن الصيفي التميمي أبو الفوارس. 492 - 574 هـ / 1098 - 1178 م شاعر مشهور من أهل بغداد كان يلقب بأبي الفوارس نشأ فقيهاً وغلب عليه الأدب والشعر وكان يلبس زي أمراء البادية ويتقلد سيفاً ولا ينطق بغير العربية الفصحى.
وتوفي ببغداد عن 82عاماً. له (ديوان شعر -ط) الجزء الأول منه ببغداد ورسائل أورد ابن أبي أصيبعة نتفاً منه.
7- الابطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى.
8- سورة الإسراء، الآية: 45.
9- سورة مريم، الآية:61.
10- سورة القصص، الآية: 57.
11- الفعلُ المبنيُّ للفاعلِ واسمِ الفاعلِ إذَا أُسندا إلى المفعولِ فالعلاقةُ "المفعوليةُ"، والفعلُ المبنيُّ للمجهولِ واسمُ المفعولِ إذ أُسندا إلى الفاعلِ فالعلاقةُ الفاعليةُ، واسمُ المفعولِ المستعمَلُ في موضعِ اسمِ الفاعلِ مجازٌ، علاقتُه "المفعوليةُ"، واسمُ الفاعل المستعمل في موضع اسمِ المفعول ِمجازٌ، علاقتُه "الفاعليةُ".

2015-11-07