يتم التحميل...

الحقيقةُ والمجازُ - المجاز اللغوي

البلاغة

الحقيقةُ فِي الأصلِ: (فعيل) بمعنى فاعل من حقَّ الشيءُ إذا ثَبتَ، أو بمعنَى (مفعول) من قولِهم: حَقَّقْتُ الشَّيء، إذا أثبتّهُ.

عدد الزوار: 19

تعريفُ الحقيقةِ و المجازِ اللغوي1:

الحقيقةُ فِي الأصلِ: (فعيل) بمعنى فاعل من حقَّ الشيءُ إذا ثَبتَ، أو بمعنَى (مفعول) من قولِهم: حَقَّقْتُ الشَّيء، إذا أثبتّهُ.

وفِي الاصطلاحِ: "استعمالُ الَّلفظ فيمَا وُضِعَ لهُ، فِي اصطلاحِ التَّخاطُبِ"2.

والمجاز في الأصل: (مفعل) من جاز المكان يجوزه، إذا تعدّاه، نقل الى الكلمة الجائزة ـ المتعدية ـ معناه الأصلي، أو المجوز بها عن معناها الأصلي، فعلى الأول هي اسم فاعل، و على الثاني اسم مفعول.

وفي الاصطلاحِ: "استعمالُ الَّلَّفظ فِي غيرِ مَا وُضِعَ لَهُ، فِي اصطلاحِ التَّخاطُبِ، عَلَى وجَهِ يصحُّ، مَعْ قرينةٍ3 مَانِعةٍ مِن إرادةِ مَا وضعَ لَهُ"4.

والمجازُ مِنْ أحسنِ الوَسَائِلِ البيانيَّةِ الَّتي تَهدِي إليهَا الطبيعةُ، لإيضاحِ المَعْنَى، إذْ بِهِ يَخْرُجُ المَعْنَى متصِّفاً بصفةٍ حسّيَّةٍ تكادُ تعرضُهُ عَلَى عيانِ السَّـامِعِ لِهَذَا شغفتِ العَرَبُ بالمَجَازِ، وآثـرتْهُ عَلَى الحقيقةِ فِي الاستعمالِ، لمَيْلِهَا إلَى الاتِّساعِ فِي الكـلامِ، وإلَى الدَّلالةِ عَلَى كَثْـرةِ معاني الألفاظِ، ولِمَا فِيهِ مِنَ الدِّقَةِ فِي التَّعبيرِ، فيحصلُ للنَّفسِ بِهِ سرورٌ وأريحيَّةٌ5.

ثمّ إنّ المجازَ على قسمينِ:

لغويُّ: وهو استعمالُ اللفظِ فِي غيرِ مَا وُضعَ لهُ لعلاقةٍ، لمناسبةٍ بين المَعْنَى الحقيقيِّ والمعنى المجازيِّ - مع وجود قرينة مانعةٍ من إرادةِ المعنى الحقيقيِّ، وهي قد تكون لفظيّةً، وقد تكون حاليّةً، وكلّما أُطلقَ المجازُ، انصرفَ إلى هذا المجازِ، وهو المجازُ اللغويُّ. والمجازُ المرسلُ.

عقليٌّ: وهو يجري في الإسنادِ، بمعنى أن يكونَ الإسنادُ إلى غير من هوَ لهُ، نحو: ليل العابد قائم ونهاره صائم، إسناد الوصف وهو اسم الفاعل قائم وصائم الى فاعلهما المستتر مجاز عقلي بعلاته الزمانية، والقرينة واضحة فالليل لا يقوم والنهار لا يصوم.

وفي هذا الدرسِ سنتعرضُ للمجازِ بِمَا هُوَ مجازٌ بغضِّ النَّظر عَنْ تقسيماتِهِ باعتبارِ العلاقةِ الَّتي تكونُ إمَّا علاقةَ مشابهةٍ6 أو غيرَ مشابهةٍ7.

يقولُ ابنُ العميد8:
قَامَتْ تُظَلِّلُنِي مِنَ الشَّمْسِ نَفْسٌ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِي
قامَتْ تُظَلِّلُنِي ومِنْ عجَبٍ شَمْسٌ تُظَلِّلُنِي مِنَ الشَّمْسِ

مَا الَّذي نلاحظُهُ فِي هَذَينِ البيتينِ مِنَ الشِّعرِ؟ نلاحظُ أنَّ كلمةَ الشَّمسِ قد استُعمِلتْ فِي معنيين: أحدُهما المعنَى الحقيقيّ للشَّمسِ الَّتي نَعرفُهَا، وهِيَ الَّتي تظهرُ فِي المشرقِ صبْحاً وتختفِي عندَ الغروبِ مساءً، والثانِي إنسانٌ وَضّاءُ الوجهِ يشبِهُ الشَّمسَ في التلأْلؤِ، وهَذَا المَعنَى غيرُ حقيقيّ. وإِذَا تأمَّلنَا رأيْنَا صِلَةً وعلاقةً بين المعنَى الأصليِّ للشَّمسِ والمعنَى العارضِ الَّذي اسْتُعْمِلَتْ فيه. وهذه العلاقة هي المشابهةُ، لأَنَّ الشخصَ وضيءَ الوجهِ يُشْبِهُ الشَّمسَ فِي الإِشراقِ، ولا يمكنُ أنْ يلتبسَ علينا الأَمرُ فنَفْهَم منْ "شمس تظللني" المعنى الحقيقيّ للشَّمسِ، لأَنَّ الشمسَ الحقيقيّة لا تُظَلِّل، فكلمة "تظللني" - إذن - تمنعُ مِنْ إِرادةِ المَعنَى الحقيقيّ، ولِهَذَا تسمَّى قرينةً دالةً على أَنَّ المعنى المقصودَ هو المعنى الجديدُ العارضُ.

وقالَ أبو تمّام9: 10 11
وما ماتَ حتّى مات مَضْرِبُ سَيْفِهِ مِن الضَّرْبِ واعْتَلَّتْ عليه القَنا السُّمْرُ

الموتُ مِنْ شأنِ الأحياءِ، فلا يموتُ إلَّا مَنْ كانَ حياً. وهَذا حقيقيّ فِي لفظة "مات" الأولى ولكنَّ الشَّاعر يقولُ: إنَّ مضربَ السَّيفِ قَد مَاتَ، ومضربُ السَّيفِ جمادٌ لَا حياةَ فيهِ، فكيفَ يصيرُ ميتاً؟ ألَا نَرَى أنَّ استعمالَ لفظةِ "مات" الثانية فِي السَّيفِ هُوَ استعمالٌ فِي غيرِ مَا وضعَ لهُ لوجودِ علاقةٍ هِيَ المشابهةُ بَينَ اللفظتينِ حيثُ إنَّ مَا قصدَه الشَّاعرُ بموتِ السَّيفِ هُوَ انكسارُهُ وعدمُ النَّفعِ منهُ فَهُو كالميِّت، ولكنْ كيفَ عرفْنَا أنَّ اللفظَةَ استُعمِلَتْ في غيرِ معناهَا الحقيقيّ ومَا الَّذي دلَّنَا عَلَى ذَلكَ؟ إنَّها كلمةُ "مضربُ سيفه" فهي قرينةٌ تدلُّ على أنَّ المعنَى المرادَ في "مات" الثانية ليسَ المعنَى الحقيقيَ للموتِ وتُسمَّى هَذِهِ القرينةُ لفظيةً.

يقولُ المتنبِّي حينَمَا رَأَى مطراً يهطلُ على سيفِ الدولةِ12:
لِعَيني كُلَّ يَومٍ مِنكَ حَظٌّ تَحَيَّرُ مِنهُ في أَمرٍ عُجابِ13
حِمالَةُ ذا الحُسامِ عَلى حُسامٍ وَمَوقِعُ ذا السَحابِ عَلى سَحابِ14

نستطيعُ بعدَ الأمثلةِ الَّتي ذكرنَاهَا أنْ ندركَ في البيتِ الثانِي للمتنبّي أنَّ كلمةَ "حسام" الثانيةَ استُعملتْ في غيرِ معناهَا الحقيقيّ لعلاقةِ المشابهةِ بينَ سيفِ الدولةِ والحسامِ فِي تَحمُّلِ الأَخطارِ. إلَّا أنَّ الفارقَ أنَّه في الأمثلةِ السابقةِ كانتْ القرينةُ الدالّةُ على عدمِ إرادةِ المَعنَى الحقيقيّ لفظيةً إلَّا أنَّ القرينةَ هنا تُفهمُ مِنَ المقامِ، فهي حالِيّةٌ، وكذلكَ الحالُ في كلمةِ "سحاب" الأَخيرة فإِنَّها استُعملتْ لتدلَّ على سيفِ الدولةِ لعلاقةِ المشابهةِ بينه وبينَ السَّحابِ في الكرمِ، والقرينةُ حالِيَّةٌ أيضاً15.

ومما ذكرنا يتَّضحُ أنَّ الكلماتِ: شمسٌ، وماتَ، وحُسامٌ، وسحابٌ،استُعملت في غير معناها الحقيقيّ لعلاقةٍ وارتباطٍ بين المعنى الحقيقيّ والمعنى العارضِ. وتسمَّى كلُّ كلمة من هذه مجازاً لغويًّا.

* كتاب البلاغة الميسّرة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- في مقابل المجاز العقلي.
2- فاللفظ قبل الاستعمال، وبعد الوضع لا يتصف بالحقيقة والمجاز. وقولنا "فيما وضع له" مخرج للمجاز والغلط، وقولنا: "في اصطلاح التخاطب" مخرج لمثل الصلاة إذا استعملت عند أهل الشرع في الدعاء فإنها مجاز في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب، وإن كانت حقيقة باصطلاح تخاطب أهل اللغة.
3- القرينة الحالية تعرف من الأحوال المتعلقة بمقام الكلام، ولا تعرف من اللفظ المتكلَم به، أما القرينة اللفظية فلا تعرف إلا من اللفظ نفسه.
4- يفهم من هذا التعريف أن المجاز يتقوم بأمور ثلاثة:
أ- استعمال اللفظ في غير ما وضع له.
ب- وجود علاقة ومناسبة بين المعنى الموضوع له اللفظ، والمعنى المستعمل فيه. وفهم ذلك من قولنا: "على وجه يصح"، وبهذا الأمر يخرج الغلط عن كونه مجاز، لأنه استعمال في غير ما وضع له، بلا وجه يصح.
ج- القرينة الدالة على إرادة غير ما وضع له، والمانعة من إرادة ما وضع له.
5- الصور البيانية، ص 222.
6- وهو ما يسمى بالاستعارة.
7- وهو ما يسمى بالمجاز المرسل.
8- هو الوزير أبو الفضل محمد بن العميد نبغ في الأدب وعلوم الفلسفة والنجوم، وقد برز في الكتابة على أهل زمانه حتى قيل: "بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد" توفى سنة 360هـ.
9- حبيب بن أوس بن الحارث الطائي188 - 231 هـ / 803 - 845 م. أحد أمراء البيان، ولد بجاسم (من قرى حوران بسورية)، ورحل إلى مصر، واستقدمه المعتصم إلى بغداد، فأجازه وقدّمه على شعراء وقته، فأقام في العراق، ثم ولي بريد الموصل، فلم يتم سنتين حتى توفي بها. اختُلِفَ في التفضيل بينه وبين المتنبي والبحتريّ، له تصانيف، منها فحول الشعراء، وديوان الحماسة، ومختار أشعار القبائل...
10- مضرب السيف: حدّه، والقنا: الرماح، والسمر: الرماح أيضاً، أي لم يمت في ساحة الحرب حتى تَثَلّم سيفه وضعفت الرماح عن المقاومة.
11- يقول ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة: سمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلويّ البصريّ، يقول: كأن أبيات أبي تمّام في محمد بن حميد الطائي ما قيلت إلا في الحسين عليه السلام:
وقد كان فوتُ الموت سهلاً فردّه إليه الحِفَاظُ المُرُّ والخُلُقُ الوَعْرُ
ونفسٌ تعافُ الضيمَ حتى كأنه هو الكفرُ يوم الرَّوْعِ أو دونه الكفرُ
فأثبتَ في مستنقعِ الموت رِجله وقال لها: من تحت أخمَصك الحشر
تَرَدّى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليلُ إلا وهي من سُنْدسٍ خُضْرِ
12- علي بن عبد الله بن حَمْدان التغلبيّ الربعيّ، أبو الحسن، سيف الدولة الأمير، صاحب المتنبي وممدوحه. 303 - 356 هـ / 915 - 967 م، يقال: لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ العلم ونجوم الدهر! ولد في ميافارقين (بديار بكر)، ونشأ شجاعاً مهذباً عالي الهمة.وملك واسطاً وما جاورها، ومال إلى الشام فامتلك دمشق، وعاد إلى حلب فملكها سنة 333هـ، وتوفي فيها، ودفن في ميافارقين.
13- تَحَيَّرَ: أصلها تتحير حذفت منها إحدى التاءين. يقول كل يوم ترى عيني منك شيئاً عجيباً تتحير منه.
14- الحِمَالة التي يحمل بها السيف وهي المحمل - أيضاً - يقول سيف حمل سيفا وسحاب يمطر على سحاب هذا هو العجاب.
15- علي الجارم ومصطفى أمين، البلاغة الواضحة، ص (بتصرّف)

2015-11-07