يتم التحميل...

أقسامُ التشبيهِ

البلاغة

تعَرَفْنَا فِي الدَّرسِ السَّابقِ عَلَى مَعنَى البَيَانِ، والتّشبيهِ، وأنَّ التَّشبيهَ لهُ أركانٌ أربعةٌ، ونَريدُ فِي هَذَا الدَّرسِ أنْ نَتَعرَّفَ عَلَى أقسامِ التَّشبيهِ كَمَا ذكرَهَا علماءُ البَيَانِ، ولأنَّ أركانَ التَّشبيهِ ليستْ عَلَى درجةٍ واحدةٍ مِنَ الأهميةِ، فبعضُهَا ضروريٌّ لَا يَقُوم التَّشبيهُ إلَّا بهِ

عدد الزوار: 13

تعَرَفْنَا فِي الدَّرسِ السَّابقِ عَلَى مَعنَى البَيَانِ، والتّشبيهِ، وأنَّ التَّشبيهَ لهُ أركانٌ أربعةٌ، ونَريدُ فِي هَذَا الدَّرسِ أنْ نَتَعرَّفَ عَلَى أقسامِ التَّشبيهِ كَمَا ذكرَهَا علماءُ البَيَانِ، ولأنَّ أركانَ التَّشبيهِ ليستْ عَلَى درجةٍ واحدةٍ مِنَ الأهميةِ، فبعضُهَا ضروريٌّ لَا يَقُوم التَّشبيهُ إلَّا بهِ1، وبعضُهَا يمكنُ حذفُهُ والاستغناءُ عَنْ ذكرِهِ، كأداةِ التَّشبيهِ ووجهِ الشَّبهِ، ولأنَّ أمثلَةَ التَّشبيهِ جميعُهَا تَشتَركُ دائماً فِي وجودِ طَرفَي التَّشبيهِ الَّلذين لا يمكنُ حذفُهما في بابِ التَّشبيهِ، فسيكونُ التَمايزُ بَينَ أقسامِ التَّشبيهِ تَبعاً للأداةِ ووجهِ الشَّبهِ مِنْ ذكرٍ أو حذفٍ.

تقسِيمُ التَّشبيهِ باعتِبارِ أداتِهِ:
أولاً: نقرأُ قَوْلَه تَعالَى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ2.

فِي هذهِ الآيةِ المباركةِ عدةُ تشْبيهَاتٍ نَأخُذُ منْهَا "مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ" فَنَرَى أنَّ الله - تَعَالَى- قَدْ شبَّهَ نورَه بالمشكاةِ، والمشكاةُ كوةٌ غيرُ نافذةٍ، فيها يُوضَعُ المصباحُ، واستُعِيرتْ لصَدرِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، وشَبَّه اللطيفةَ القدسيةَ في صدرِهِ صلى الله عليه وآله وسلم بالمصباحِ، فقولُهُ: "كمشكاة فيها مصباح" أيْ كمصبَاحٍ فِي زجاجَةٍ فِي مِشْكاةٍ، وإذَا تَأمَّلنَا هَذَا التَّشبِيهَ، رأيْنَا أنَّ أداةَ التَّشبيهِ قَدْ أُرسِلَتْ فيه، وكلُّ تَشبيهٍ ذُكِرَتْ فيهِ الأداة سُمِّيَ "تشبيها مرسلاً".

ثانياً: نقرأُ قولَ الشاعرِ3: 4 5
انْتَ نجْمٌ في رِفْعةٍ وضِياءٍ تجْتَليك الْعُيُونُ شَرْقاً وغَرْبا

يُشبِّهُ الشاعرُ مَمْدوحَهُ بـ "النجمِ في الرفعةِ والضياءِ"، ولكنَّهُ لمْ يَذْكرْ أداةَ التَّشبيهِ، فكَانَ التَّشبيهُ أَوجزَ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِحذْفِ الأداةِ، وكانَ أيْضاً أبلغَ وأشدَّ وقْعَاً فِي النَّفسِ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا لإيهامِهِ بأنَّ المشبَّهَ عينُ المشبَّهِ بِهِ، وَمَا كانَ مِنَ التَّشبِيهِ خالياً مِنْ أداةِ التَّشبِيهِ يُطلقُ عًليه "التَّشبيه المؤكَّد"6.

ثالثاً: قالَ اللهُ - تَعَالَى-: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ7 وَقَالَ: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابً8.

يشبِّه اللهُ - تَعَالَى- فِي الآيةِ الأُولَى كلاًّ مِنَ الرَّجُلِ والمرأةِ بالِّلبَاسِ، أيْ المَسكنَ، أوْ مِنَ المُلابَسَةِ، وهِيَ الاختلاطُ والاجتِمَاعُ، ولمَّا كانَ الرجلُ والمرأةُ يَشتَمِلُ كلٌّ منْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، شُبِّهَ بالِّلباسِ، فالرجُلُ لِباسُ المرأةِ، والمرأةُ لبَاسُهُ. وفِي هَذَا التَّشبِيهِ نَجِدُ أنَّ أداةَ التَّشبِيهِ لَا وجودَ لَهَ، وكَذَلِكَ وجهَ الشَّبَهِ. وفِي الآيةِ الثانيةِ يقولُ: إنَّ الجبالَ أُزِيلتْ عَنْ أَماكِنِهَا فَكَانَتْ كالسَّرَابِ يُظَنُّ أنَّها جبالٌ ولَيْسَتْ كَذَلِكَ، ولكنَّنَا لمْ نرَ أثراً ظَاهِراً للأداةِ ووجهِ الشَّبهِ، بَلْ أُهملتِ الأَداةُ الَّتي تدلُّ على أَنَّ المشبَّه أَضعفُ في وجهِ الشَّبَهِ مِنَ المشبَّهِ بِهِ، وأَهملَ ذكرُ وجهِ الشّبهِ الَّذِي ينمُ عَنْ اشتراكِ الطَرَفَينِ فِي صِفَةٍ أوْ صفاتٍ دونَ غيرِهَا. ويسمَّى هَذَا النوعُ "التشبيهَ البليغَ"، وهُوَ مظهرٌ من مظاهرِ البَلاغَةِ، وميدانٌ فسيحٌ لتسابُقِ المُجِيدينَ مِنَ الشُّعراءِ والكتَّابِ"9. وسَببُ هَذِهِ التسميةِ أنَّ ذكرَ الطرفينِ فقط، أي "المشبَّهَ والمشبَّهَ بِهِ"، يوهمُ اتحادَهما، وعدمَ تفاضلهِما، فيَعْلو المشبَّهُ إِلَى مستَوى المشبَّهِ بهِ، وهَذِهِ هِيَ المبالغةُ في قوةِ التشبيهِ.

صورُ وقوعِ التشبيهِ البليغ:

يقعُ التشبيهُ البليغُ على الصورِ الآتيةِ:
1- أنَ يقعَ المشبَّهُ به خبراً، نحو: صدورُ الأحرارِ قبورُ الأسرارِ.
2- أنَ يقعَ مفعولاً ثانياً في بابِ علمتَ،نحو: علمتُ بذيءَ اللسانِ كلباً عقوراً.
3- أنَ يقعَ مصدراً مبيِّناً للنوعِ، كقوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ...10.
4- أنْ يقعَ حالاً، نحوُ: كرَّ عليَّ أسداً.
5- أنْ يقعَ مبيِّناً للمشبَّهِ، كقوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ11.
6- أنَ يقعَ مضافاً إلى المشبَّهِ به، نحوُ: لبسَ فلان ثوبَ العافيةِ.

فإنَّ "ثوبَ" مشبهٌ بهِ مضافٌ، و"العافيةَ" مشبهٌ مضافٌ إليهِ.

رابعاً: عَنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّهُ قالَ: "أهلُ بيتِي كَسَفِينةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ"12.

فِي هَذَا الحدِيثِ تشبيهٌ واضِحٌ، وهُوَ تشبيهُ أهلِ البيتِ عليهم السلام بسفينةِ نوحٍ، ولبَيَانِ هَذِهِ المماثلَةِ جَاءَ صلى الله عليه وآله وسلم بالكافِ، وبيَّن ايضاً أنَّ الصِّفَةَ المشتركةَ بَيْنَ الاثنينِ هِيَ النجاةُ فِي حَالِ الرُّكوبِ، والغرقُ فِي حالِ التَّخلُّفِ، يَعنِي أنَّ مَنْ رَكِبَ فِي سفينةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام وَسَارَ عَلَى نَهجِهم أمِنَ مِنَ الغَرَقِ، وكُتِبَتْ لهُ النَّجَاةُ، كحَالِ الَّذينَ كانُوا فِي زمَنِ النبيِّ نوحٍ عليه السلام فَمَنْ رَكِبَ فِي سفينتِهِ أمِنَ، ومَنْ تخلَّفَ عنْهَا أدرَكَهُ الغَرقُ. وقَد رأيْنَا هَذَا التَّشبِيهَ قَد بُيِّنَ وفُصِّلَ، ومَا ذَلِكَ إلَّا لِذكْرِ وجهِ الشَّبَهِ فِيهِ، ولِذلكَ سُمِّيَ "التَّشبيهَ المُفصَّلَ".

فالتَّشبيهُ المُفصَّلُ مَا ذُكِرَ فيهِ وجهُ الشَّبهِ أوْ مَا كانَ لازماً وتَابِعاً لهُ.

والأولُ: (أيْ مَا ذُكرَ فِيهِ وجهُ الشَّبهِ)، كالمثالِ السَّابِقِ.
والثاني: أيْ (ما كانَ لازماً وتابعاً لهُ)، كقولِهِم للكلامِ الفَصِيحِ: "هو كالعسلِ فِي الحلاوةِ". فوجهُ الشَّبهِ ليسَ الحلاوةَ، لعدمِ اشتراكِهِ فِي الطَّرَفَيْنِ، بلْ تابعُها ولازمُها وهوَ ميلُ الطَّبعِ.

خامساً: يقولُ اللهُ - تَعَالَى-: ﴿وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ13، وقالَ أيضاً: ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ14 و15.

فِي الآيةِ الأُولى يُشبِّهُ اللهُ - تَعَالَى- السفنَ فِي البَحْرِ بالجِبالِ الطِّوالِ فِي البرِّ، ولكنَّهُ لمْ يَذكُرْ وجْهَ الشَّبَهِ الَّذي هُوَ العظمةُ والارتفاع، وفي الآيةِ الثَّانيةِ يُشبِّهُ حالَ قومِ عادٍ بَعْدَ تَسخِيرِ الرِّياحِ العاتيةِ عَلَيهم بأصولِ النَّخل الَّتي قُلِعتْ فَصَارَتْ نَخِرةً مُتآكِلَةَ الأجوافِ، وهُنَا لمْ يُذكَرْ أيضاً وجهُ الشَّبهِ الَّذي هُوَ الجفافُ واليَبَاسُ والبِلَى، ويُسَمَّى هَذَا النَّوعُ مِنَ التَّشبِيهِ، وهُوَ الَّذي لمْ يُذْكَرْ فِيهِ وجهُ الشَّبهِ تَشبِيهاً مُجْمَلاً.

تنبيهٌ: بَعْدَ أنْ رَأيْنَا أنَّ اسمَ كلِّ تَشبِيهٍ إنَّمَا يُطلَقُ عَليهِ باعتِبَارِ مَا يُذْكَرُ أوْ يُحذَفُ، فإنَّنَا نَجِدُ أنَّ تشبيهاً واحداً يُحذَفُ منهُ شيءٌ ويُذكَرُ فيهِ شيءٌ، كمَا هُوَ الحَالُ فِي الأَمثلةِ السَّابقةِ، ولِذلكَ نُطلِقُ عَلَى التَّشبِيهِ الواحدِ اسمينِ فِي آنٍ واحدٍ، فَنَقُولُ: مرسلٌ مفصَّلٌ، إذَا مَا ذُكِرتِ الأداةُ ووجهُ الشَّبهِ، ومرسلٌ مجملٌ، إذَا ذُكِرَتِ الأداةُ وحُذِفَ وجهُ الشَّبَهِ، ومُؤكَّدٌ مفصَّلٌ، إذَا حُذِفَتْ الأداةُ وذُكِرَ وجهُ الشَّبَهِ، ولَا نَقُولُ: مؤكَّدٌ مجملٌ فِي التَّشبِيهِ الَّذي حُذِفَ منهُ الأَداةُ ووجهُ الشَّبهِ مع، لأنَّه اصطُلِحَ عَلَى تسميتِهِ "بليغاً".

* كتاب البلاغة الميسّرة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- إن حذف أي من المشبّه والمشبّه به يخرجنا إلى باب آخر من أبواب البيان هو (الاستعارة) كما سيأتي.
2- سورة النور، الآية: 35.
3- لم اعثر له على قائل.
4- تجتليك: تنظر اليك.
5- جواهر البلاغة.
6- ومن المؤكدِ ما أضيفَ فيه المشبَّهُ به إلى المشبَّه، كقول الشاعر:
وَالرِّيحُ تَعبَثُ بِالْغُصُونِ، وقَدْ جَرَى... ذَهَبُ الأَصيلِ عَلى لُجَيْنِ الْمَاءِ
أي أصيلٌ كالذهبِ على ماءِ كاللجَين.
7- سورة البقرة، الآية: 187.
8- سورة النبأ، الآية: 20.
9- علي الجارم ومصطفى أمين، البلاغة الواضحة، ص 25.
10- سورة النمل، الآية: 88.
11- سورة البقرة، الآية: 187.
12- محمد بن الحسن، الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج27، ص 34، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث، الناشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث بقم، دار مهر - قم، ط2، 1414 هـ، باب تحريم الحكم بغير الكتاب والسنة.
13- الجوار: السفن، الأعلام: جمع علم وهو الحبل الطويل على الأرض. سورة الرحمن، الآية: 24.
14- كأنهم أصول نخل نخرة.
15- سورة الحاقة، الآية: 7.

2015-11-07