يتم التحميل...

عواقب الفرار من الزحف-1

التربية الجهادية

لو فرضنا أن أحداً ما وقع في شرك هذه الموانع التي تصدّ عن ساحات الوغى، وبالتالي صار عرضة للحرمان من هذا التوفيق العظيم، في هذه الحالة قد تسوّل له نفسه بترك الجهاد والقعود مع زمرة القاعدين، هذا القعود والترك الذي يصطلح عليه في الإسلام بالفرار من الزحف.

عدد الزوار: 199

عواقب الفرار من الزحف-1

معنى الفرار من الزحف وضوابطه:

لو فرضنا أن أحداً ما وقع في شرك هذه الموانع التي تصدّ عن ساحات الوغى، وبالتالي صار عرضة للحرمان من هذا التوفيق العظيم، في هذه الحالة قد تسوّل له نفسه بترك الجهاد والقعود مع زمرة القاعدين، هذا القعود والترك الذي يصطلح عليه في الإسلام بالفرار من الزحف. "والفرار من الزحف هو الهروب من المعركة، وهو من أكبر الكبائر وإن لم يكن له داع شرعي"1. قال الله تعالى ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا لَقيتُمُ الَّذينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ2. وبيّن وليّ أمر المسلمين السيد علي الخامنئي دام ظلّه الضابطة الفقهية في الفرار من الزحف بالقول:

- "لا يجوز الفرار من جبهة القتال في أي حال من الأحوال"3.

- "لا يجوز الانسحاب من أرض المعركة على خلاف الأوامر الصادرة من القيادة، إلا في بعض الموارد الاستثنائية التي تقتضيها الضرورة وكان الانسحاب من أرض المعركة من صلاحيات الإخوة المجاهدين"4.

وللفرار من الزحف آثار سلبية وعواقب وخيمة جداً وردت في الآيات الكريمة والروايات الشريفة نذكر منها:


العذاب الأليم:

الفرار من الزحف من الكبائر التي وعد الله تعالى أصحابها سوء العاقبة في الدنيا والآخرة. في الدنيا عاقبة المتخلّفين عن ركب المجاهدين والشهداء الخزي والعار والفضيحة، وفي الآخرة العذاب الأليم ونار الجحيم. لأنهم خالفوا أمر الله ورسوله وركنوا إلى الملذّات الفانية والشهوات الزائلة. ولم يكتف الفارّون الذين وصفهم الحق تعالى بالمنافقين بالهروب والتنصّل من الواجب، بل عملوا على إعانة الأعداء من خلال بثّ اليأس والخوف في قلوب المؤمنين لمنعهم عن أداء واجبهم، علّهم يجدون بذلك من يشاركهم قعودهم وتخلّفهم فترتاح نفوسهم قليلاً من عذاب الوحدة الموحشة ونظرات الناس المؤلمة إليهم. وهو ما كان يصبّ في مصلحة العدو، حيث وجد له أعواناً من داخل صفوف المسلمين يثبّطون العزائم ويبثّون الشائعات المفرّقة والمشتّتة للصفوف، لذا كان عذابهم أليماً وعاقبتهم سيّئة جداً.

قال الله تعالى في كتابه العزيز ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى‏ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ5‏.

تستمرّ هذه السلسلة من الآيات في الحديث عن الأعمال الشيطانية للمنافقين، وتزيح الستار عنها الواحد تلو الآخر، وتحذّر المسلمين من الانخداع بريائهم أو الوقوع تحت تأثير كلماتهم المعسولة. وهذه الآيات نزلت في جماعة من المنافقين يبلغ عددهم ثمانين رجلاً، أمر النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لمّا رجع من غزوة تبوك أن لا يجالسهم أحد ولا يكلّمهم. فلمّا رأى هؤلاء هذه المقاطعة الاجتماعيّة الشديدة بدأوا يعتذرون عمّا بدر منهم، فنزلت هذه الآيات لتبيّن حال هؤلاء وحقيقتهم، وتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يقبل اعتذارهم ولا يصدّقهم، لأنّ الله تعالى قد فضح أمرهم وأخبر عن كذبهم ونفاقهم فيما يعتذرون منه، وأن الله ورسوله يشاهدان ما يعملون ولا يخفى عليهما شيء، وأنهم سوف يردّون إلى الله الذي يعلم الغيب والشهادة في يوم القيامة فيخبرهم بحقائق أعمالهم ونيّاتهم.

ثم تبيّن الآية الكريمة إيمان المنافقين الكاذب وتنبّه المسلمين إلى أن هؤلاء لن يتورّعوا عن اليمين الكاذبة لتغفروا لهم خطيئاتهم وتصفحوا عنهم وتعرضوا عما فعلوه، ثم تخاطب المؤمنين بلسان الحال: عليكم في هذه الحالة أن تعرضوا عنهم، ولا تعاتبوهم أو توبّخوهم لأنهم أرجاس لا ينفع فيهم التأنيب ولا يقبلون الطهارة. ومصيرهم النار لأنها المكان الطبيعي لهم الذي سوف يتكفّل بأمرهم، وكل ما سيلقونه هناك هو نتيجة ما كسبوه بأيديهم في الحياة الدنيا. ولشدّة نفاقهم فإنهم سيحلفون لكم لكي يجلبوا رضاكم بدل أن يكون همّهم كسب رضا الحق تعالى.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى مبيّناً بشكل صريح عاقبة من يتولّى عن الجهاد ﴿﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ... وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا6.


الاستبدال:

يحذّر الله تعالى أن من يرتدّ عن دينه والإيمان الصادق به ويكفر بتعاليمه وبأنبيائه ورسله، ولا يطيعه في أمره ولا يلتزم بأحكامه الجهادية وغيرها ولا يعمل بإرادته، بل يستغني ويتولّى معرضاً عن الدين الحنيف والملّة الحقّة، فسوف يستبدل الله به من هو أحقّ منه بهذه المكرمة.

إن الله يستبدل بهؤلاء من يحبّون الله ويحبّون أن يعبد في أرضه، ولا يرتدّون عن دينه، ولا يتخلّفون عن الجهاد والتضحية بكل ما يملكون في سبيله، بل يقبلون على الجهاد بصدر رحب وقلب مستبشر بلقاء الله ورضوانه، لا يخافون من لوم الناس والمنافقين عند أدائهم لواجباتهم والدفاع عن الحق.

إن هؤلاء المستبدل بهم على ثقة بالله وبدينه الحق. وعليه فإن المستبدَلين لن يضرّوا الله شيئاً بل هم المتضرّرون لأنهم حرموا من هذا الفضل العظيم والنعمة الكبرى. يقول عزّ وجلّ في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ7.


المقت الإلهي:

الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر، لما يورثه هذا الإيمان من صفة التقوى. فالمؤمن التقيّ على بصيرة من جهة وجوب الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه، فلا يتثاقل ولا يستأذن في القعود. أمّا المنافق الفاقد للإيمان والتقوى فقلبه مرتاب ومتردّد يبحث دائماً عن المعاذير للتخلّف والقعود عن الجهاد كما قال تعالى: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ8.

إنَّ عدم مساهمة مثل هؤلاء الأفراد في ساحة الجهاد ليس مدعاة للأسف، بل هو مدعاة للسرور، لأنّهم لن يكونوا ذوي نفع، بل سيكونون بنفاقهم ومعنويّاتهم المتزلزلة وانحرافهم الفكريّ والخلقيّ مصدراً للكثير من المشاكل. هذا مع فرض نية مشاركتهم، ولكنهم لم يوفقوا لمثل هذه النية ولو قرّروا الخروج لتأهّبوا واستعدّوا له وأعدّوا السلاح والمركب كما قال الله تعالى:

﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَعِدِينَ لَوْ خَرَجُواْ فِيكمُ مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكمُ‏ْ سَمَّاعُونَ لهَمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّلِمِينَ9.


نعم كره الله تعالى خروجهم مع المؤمنين ولم يوفّقهم لذلك لمعرفته بنفاقهم وبأنهم سيكونون عيوناً للمشركين على المسلمين، فضررهم أعظم من فائدتهم، فثبَّطهم (أي قلّل عزيمتهم على الخروج) لما علمه من فساد نيتهم نتيجة كفرهم  وتباطئهم عن المشاركة وميلهم للنميمة وكرههم للمؤمنين وزرع الشكّ والفتنة بين صفوف المقاتلين، وخصوصاً لدى ضعاف العقيدة والإيمان.

إنّ الآية في الحقيقة تعطي درساً مهمّاً جداً للمسلمين؛ بأن لا يكترثوا لكثرة المقاتلين أو قلّتهم وكمّيّتهم وعددهم، بل عليهم أن يفكّروا في اختيار المخلصين المؤمنين وإن كانوا قلّة ويعملوا من أجل تربية الجيل المخلص، إن هذا درس بالغ الأهمية لمسلمي الحاضر والمستقبل.


الفضيحة في الدنيا:

من أهمّ آثار الحرب تمييز المؤمنين عن المنافقين، فقبل معركة أحد مثلاً لم يكن المنافقون مكشوفين عند الناس، ولا متميّزين عن المؤمنين، فجاءت واقعة أحد لتكشف زيف إيمانهم وتفضح حقيقة نواياهم السيّئة. إن الله تعالى يريد أن يميّز الخبيث من الطيّب، والمؤمن من المنافق فأمر بالخروج مع الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لملاقاة المشركين في أحد، إلّا أن فئة من الذين خرجوا مع رسول عادوا أدراجهم أثناء الطريق، ولما سُئلوا عن سبب انكفائهم وقيل لهم أنه إن لم تريدوا القتال في سبيل الله فبالحدّ الأدنى دافعوا عن أنفسكم وحرمكم وأموالكم، إلا أن المنافقين تذرّعوا بأن الأمر بين المسلمين والمشركين لا يتعدّى المناورة وعرض العضلات، ولن يصل الأمر إلى حدّ الحرب والقتال لقلّة عدد المسلمين، وكان لسان حالهم في الجواب لو تأكّدنا من أن الحرب واقعة لا محالة لحاربنا معكم، وهذا الواقع للمنافقين يحكيه قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فىِ سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئذٍ أَقْرَبُ مِنهْمْ لِلْايمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فىِ قُلُوبهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بمِا يَكْتُمُونَ10.

إن المنافقين أرادوا أن يوحوا بجوابهم هذا، أن مجابهة المسلمين للمشركين ليست من نوع القتال والحرب في شي‏ء، وإنما هي عملية انتحار، لتفوّق العدوّ عدّة وعدداً. وأرادوا بقولهم هذا أن يخفوا نفاقهم، ولكن ما حصل فضَحهم، لأن كلامهم كان أقرب إلى نصرة الأعداء منه إلى نصرة المؤمنين، وإلى تثبيط العزائم عن الحرب مع الرسول، لذا كانوا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان لأنهم خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فضلاً عن أنّ كلامهم يُستشمّ منه الاستهزاء بالزحف والاستهتار بما يمضي إليه المسلمون، فانخذالهم عن القتال إمارة تؤذن بكفرهم وفساد باطنهم وقلوبهم. فهم في الواقع كانوا يظهرون الإيمان عبر ألسنتهم ويسرّون الكفر في قلوبهم، فسرّهم غير متطابق مع جهرهم والله تعالى يعلم ما يخفونه من كفر وما يبدونه من إيمان كاذب، لأنه عالم لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماء والأرض وهو بكلّ شيء محيط. إذاً، من عواقب التخلّف عن الجهاد وعدم المشاركة فيه هو الافتضاح في الدنيا قبل الآخرة.


الطرد والإبعاد:

يتحدّث القرآن الكريم عن المنافقين الذين يتذرّعون دائماً بالحجج والأعذار الواهية لأجل الفرار من ساحات القتال:

﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ11.

ويخاطب الله تعالى نبيّه إنك لو دعوتهم إلى عرض أيّ إلى غنيمة أو مال دنيويّ زائل، أو إلى سفر قصير هيّن قريب المسافة قليل الجهد لاتّبعوك دون تأخّر أو تردّد طمعاً في الكسب. ولكن صعب عليهم الأمر لما يحتاجه من تضحية بالنفس والمال، وبعدت عليهم المسافة لما فيها من مشقّة وتعب، فتشبّثوا بالباطل وراحوا يحلفون كذباً: "لو استطعنا لخرجنا معكم"!

وسيعتذرون عن خروجهم بعدم استطاعتهم، وسيقسمون الأيمان على عدم قدرتهم، ولكنهم يهلكونَ أَنفسهم ويخسرونها لما أضمروه حين أقسموا بالأيمان الكاذبة واعتذروا بالباطل الذي لا حقيقة له، واللَّه يعلم إنهم كاذبون وغير صادقين في اعتذارهم وفي أيمانهم.

وهذا هو حال المنافقين دائماً، ففي كلّ مجتمع فئة على غرار المنافقين من الكسالى والطامعين والانتهازيّين الذين ينتظرون لحظات الانتصار ليقحموا أنفسهم في الصفوف الأولى، ويصرخوا بأعلى الصوت أنّهم كانوا مع المجاهدين الأوائل والمخلصين البواسل، لينالوا ثمرات جهود الآخرين دون أن يبذلوا أيّ جهد يذكر!! والمطلوب من القادة والصفوة من النّاس أن يعرفوا هذه الفئة من بداية الأمر، وإن لم يكن لديهم قابليّة الإصلاح فينبغي إخراجهم وطردهم من صفوف المجاهدين.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ12.

في هذه الآية التي هي محلّ البحث إشارة إلى طريقة أخرى دقيقة وخطرة من طرق المنافقين، وهي أنّهم عندما يخالفون القانون الإسلامي، يقومون بأعمال مدمجة بالمراوغة والشيطنة فيحاولون من خلالها جبران ما صدر منهم، وتبرئة ساحتهم ممّا يستحقّون من العقوبة، كأن يطلبوا الإذن بالجهاد من جديد للإيحاء بأنهم مع المجاهدين، وبهذه الأعمال المتناقضة والمخالفة لمراد الحق وأوامره، فإنّهم يخفون وجوههم الحقيقيّة. لكن الله تعالى أظهر طردهم وإبعادهم عن رحمته وأمر نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يعطيهم الإذن ولا يسمح لهم بالخروج معه للقتال لأنّ أمرهم قد افتضح وحيلتهم هذه لن تنطلي على أحد ولن ينخدع بها أحد. فهم رضوا بالتخلّف عن الجهاد والقعود في المرّة الأولى ولو كانوا قد ندموا على تخلّفهم وتابوا منه وأرادوا الجهاد حقّاً في ميدان آخر لقبل الله تعالى منهم ذلك ولما ردعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إن طردهم وإبعادهم لم يقف عند حدّ حرمانهم من المشاركة في القتال وافتضاح أمرهم بين الناس، بل تعدّاه إلى أمرٍ أشدّ وأصعب، فصدر الأمر الإلهي صراحة بعدم الصلاة على أحد منهم إن مات، وعدم الوقوف على قبره للدعاء له والترحّم عليه، لكي يعلم المنافقون أنه لا مكان لهم في المجتمع الإسلامي، لأن حرمان أحدهم من هذه المراسم الخاصّة بالدفن يعني طرده من المجتمع الإسلامي، وإذا كان الطارد هو النّبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ الصدمة وأثرها على نفسيّة المنافقين ووجودهم سيكون شديداً جداً.


الحرمان من الهداية الإلهية:

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ13.

تخاطب الآية الكريمة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ليعنّف أولئك الذين لا يرغبون في جهاد المشركين بسبب تعلّقهم وحبّهم لأرحامهم وأموالهم ومساكنهم. لأن ترجيح مثل هذه الأمور على رضا اللّه تعالى والجهاد في سبيله، يعدّ نوعاً من العصيان والفسق البيّن. فمن تشبّث قلبه بالدنيا وزخرفها وزبرجها غير جدير بهداية اللّه كما يقول تعالى في الختام.

فهذه الآية ترسم بشكل واضح خطوط الإيمان الأصيل وتميّزها عن الإيمان المشوب بالشرك والنفاق. وتقول بشكلٍ صريح أن كلّ من يقدّم الحياة المادية ومتعلّقات هذه الحياة المادية من الأرحام والأقارب، والعشيرة، والمال، والاكتساب والتجارة، والمساكن، على الجهاد في سبيل الله، بمعنى أنها كانت أعزّ على قلبه وأغلى على نفسه من الله ورسوله وامتثال أمره بالجهاد في سبيله، ولم يكن مستعدّاً للتضحية بها من أجل الله ورسوله والجهاد، فإيمانه الواقعي لم يكتمل بعد، لأن حقيقة الإيمان وروحه وجوهره تتجلّى بالتضحية بمثل هذه الأمور من دون أدنى تردّد. ومن لا يرغب بالتضحية بها، فسوف يظلم نفسه ومجتمعه، لأن الأمّة التي تتلكّأ في اللحظات الحسّاسة من تأريخها المصيري، وفي المآزق الحاسمة، فلا يضحّي أبناؤها، فستواجه الهزيمة عاجلاً أو آجلاً، ومن ثمّ ستكون هذه الأمور المادية التي تعلّقت القلوب بها عرضة لخطر الضياع والتلف بيد الأعداء.

وفي ختام الآية تهديد صريح لأولئك الذين يقدّمون منافعهم المادية ويفضّلونها على رضا اللّه، ويطلب الحق منهم الانتظار ليروا عاقبة أفعالهم ﴿فَترَبَّصُواْ حَتىَ‏ يَأْتىِ‏َ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يهَْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، لأن كل من يخرج من زيّ العبودية لله تعالى والطاعة له فاسق عن أمر الله، ولا يستحقّ منه الهداية. وأي عاقبة أسوء من أن يحرم المرء من هداية الحق له؟ ولمّا كان هذا التهديد مجملاً "فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره" كان أثره أشدّ وحشة، وهذا التعبير يشبه قول القائل: إذا لم تفعل ما آمرك، فسأقوم بما ينبغي عليّ القيام به.


المفاهيم الرئيسية

1- يعتبر الفرار من الزحف من الكبائر التي وعد الله تعالى أصحابها سوء العاقبة في الدنيا والآخرة.

2- لقد حصل في صدر الإسلام أن تخلّى بعض الناس من المنافقين عن الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عن الإسلام، فنزلت آيات قرآنية عديدة تفضحهم وتلزم النبي والمسلمين بمقاطعتهم وعدم قبول ما يدّعونه من توبة وندم، وذلك عقاباً لهم وتأديباً لغيرهم ممن تسوّل له نفسه ترك الجهاد.

3- يحذّر الله تعالى من يرتدّ عن الدين والإيمان الصادق به، ولا يلتزم بالجهاد، إذ سوف يستبدل الله به من هو أحقّ منه بهذه المكرمة.

4- إنّ الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر، لما يورثه هذا الإيمان من صفة التقوى.

5- إن المنافق الفاقد للإيمان والتقوى قلبه مرتاب ومتردّد يبحث دائماً عن المعاذير للتخلّف والقعود عن الجهاد، قال تعالى: ﴿إنَّمَا يَسْتَأذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخر وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَترَدَّدُونَ.

6- من أهمّ آثار الحرب التَّمييز بين المؤمنين والمنافقين، فقبلَ معركة أحُد مثلاً لم يكن المنافقون مكشوفين عند الناس، ولا متميّزين عن المؤمنين، فجاءت واقعة أحد لتكشف زيف إيمانهم وتفضح حقيقة نواياهم السيّئة.

7- من عواقب الفرار من الزحف الحرمان من الهداية الإلهية، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، فترجيح المال والولد والزوجة على رضا اللّه تعالى والجهاد في سبيله، يعدّ نوعاً من العصيان والفسق البيّن، ومن يتشبّث قلبه بتلك الأمور هو غير جدير بهداية اللّه تعالى.

* كتاب التربية الجهادية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- معجم المصطلحات الفقهية، ص 380.
2- الأنفال،15.
3- من استفتاءات الإمام الخامنئي دام ظله، ج3،ص42،س3.
4- من استفتاءات الإمام الخامنئي دام ظله، ج3،ص53،س43.
5- التوبة، 94-95.
6- الفتح، 16-17.
7- المائدة، 54.
8- التوبة، 44-45.
9- التوبة، 46-47.
10- آل عمران، 167-168.
11- التوبة، 42.
12- التوبة، 83-84.
13- التوبة، 24.

2015-10-03