يتم التحميل...

معرفة الزمان وأهله

مواعظ من نهج البلاغة

عن أمير المؤمنين عليه السلام: "حسب المرء... من عرفانه، علمه بزمانه". بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 75، ص 80.

عدد الزوار: 61

عن أمير المؤمنين عليه السلام: "حسب المرء... من عرفانه، علمه بزمانه". بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 75، ص 80.

أهمّيّة الزمن
يقسم الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بالزمان، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ *إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر1. ﴿وَالضُّحَى2.

وفي قوله تعالى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَر3.

وما تلك الأقسام بالزمان إلّا للإشارة إلى أهميَّة الزمان. والزمان مؤلّف من ماض وحاضر ومستقبل، ومن الضروريّ للإنسان أن يعرف الماضي أي التاريخ الذي مضى على الناس أفراداً وجماعات؛ ليعتبر ويتّعظ، فيأخذ بحسنات الماضي ويترك سيئاته وضلاله وهفواته. يقول الإمام عليّ عليه السلام في وصيّته للإمام الحسن عليه السلام: " أي بُنيّ إنّي وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتّى عدت كأحدهم. بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله وتوخّيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر..."4.

معرفة الحاضر والمستقبل
ومن المهمّ للإنسان أيضاً أن يعرف حاضره أي عصره وزمانه الذي يعيش فيه، فلكلّ عصر أهله وخصائصه وضروراته ومتطلّباته وأولويّاته، وهي تنطلق من المتغيرات الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية الطارئة على مفاصل الحياة. فالمؤمن الواعي هو الذي يفهم أهل عصره وضروراته ومتطلّباته، ويدرك المشاكل والأولويّات..

أمّا أولئك الذين لا يدركون هذه المسائل، أو لا يتفاعلون معها بسبب عدم انتمائهم إلى عصرهم، فهم الهامشيون المنعزلون الذين يحسبون أنّهم يعيشون في صحراء منعزلة فلا يقدرون على التأثير ولا على المعالجة، بل يقفون دوماً متأسّفين ومتحسّرين وشاكين ومشتبهين ومستسلمين.

وهذا ما أشار إليه أمير كلّ زمان الإمام عليّ عليه السلام: "حسب المرء... من عرفانه، علمه بزمانه" وعنه عليه السلام: "أعرف الناس بالزمان، من لم يتعجّب من أحداثه"5، وعنه عليه السلام: "مَن أمنَ الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه"6. و في وصية أمير المؤمنين للحسن صلوات الله عليهما "يا بُنيّ إنّه لا بدّ للعاقل من أن ينظر في شأنه، فليحفظ لسانه، وليعرف أهل زمانه"7.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "العالم بزمانه، لا تهجم عليه اللوابس"8. واللوابس تعني الشبهات.

ومعرفة العصر الحاضر تفيد في قراءة المستقبل وفي صناعته، فإنّنا بصناعتنا للحاضر نصنع مستقبل أولادنا وأحفادنا.

من أسباب ضياع فلسطين أنّ أهل ذلك العصر لم يقرأوا حاضرهم بشكل صحيح، لذلك لم يصنعوا مستقبل أولادهم وأحفادهم بشكل صحيح.

فعلينا أن لا نضع الحقّ على الزمان في فشلنا وتراجعنا وانهزامنا فـ ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم9.

عن الريّان بن الصلت: أنشدني الرضا عليه السلام لعبد المطّلب:
يعيب الناس كلّهم زمانا***وما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا والعيب فينا***ولو نطق الزمان بنا هجانا
وإنّ الذئب يترك لحم ذئب***ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
لبسنا للخداع مسوك طيب***وويل للغريب إذا أتانا
10

علم الأنبياء والأئمّة بزمانهم
كان الأنبياء جميعهم يدركون متطلّبات عصورهم، فيقودون مجتمعاتهم على أساسه. وإن نسخ الأديان الماضية من قبل الأنبياء من أولي العزم أفضل دليل على إثبات دور الزمان في القيادة، حسب رؤية الأديان السماوية كلها.

إنّ معرفة العصر في الحقيقة أحد العناصر الأصلية للوعي السياسيّ والاجتماعيّ. وكلّما ازدادت معرفة القائد بشعبه وأدرك مطالبه وحاجاته المادية والمعنوية بنحو أدقّ وأحاط بنقاط قوّته وضعفه كان أنجح.

ولا جرم أنّ الأنبياء عليهم السلام جميعاً كانوا يتّسمون بهذه الصفة.

ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما كلّم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم العباد بكنه عقله قطّ. قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم"11.

وتدلّ دراسة سيرة النبيّ صلى الله عليه واله وسلم - من منظار معرفته بزمانه وإدراكه لمتطلّبات عصره - على أنّه نموذج بارز للقائد العارف بزمانه، يتلوه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام والأئمّة من بعده.

وفي عصرنا الحاضر الوليّ الفقيه هو من يتولّى قيادة الأمّة فهو العارف بزمانه فلذلك لا تهجم عليه اللوابس، فينبغي لنا إطاعته ففي طاعته هدي من الضلال وأمان من الفتنة ومن كيد الأعداء.

.... يقول الإمام الخمينيّ رضوان الله تعالى عليه في دور معرفة الزمان في هداية الناس وقيادتهم، وفي ضرورة الاطّلاع على متطلّبات العصر بوصفه شرطاً للاجتهاد:" الزمان والمكان عنصران حاسمان في الاجتهاد. والمسألة التي كان لها حكم في الماضي ربّما يكون لها حكم جديد في العلاقات التي تحكم الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية لنظام من الأنظمة. أي: إن المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تجعل الموضوع الأوّل الذي لم يختلف عمّا كان عليه في الماضي من حيث الظاهر موضوعاً جديداً يتطلّب حكماً جديداً لا محالة.

وينبغي للمجتهد أن يلمّ بقضايا عصره. ولا يستسيغ الناس والشباب بل حتّى العوامّ أن يقول المرجع والمجتهد: لا رأي لي في القضايا السياسية، فالاطّلاع على كيفية التعامل مع الاقتصاد العالميّ، ومعرفة ضروب السياسة والسياسيين ومعادلاتهم المفروضة، وإدراك الموقع الذي يحتلّه النظام الرأسماليّ والشيوعيّ في العالم، والتعرّف على نقاط قوّتهما وضعفهما إذ هما اللذان يحدّدان استراتيجية التسلّط على العالم، كلّ ذلك من صفات المجتهد الجامع
"12.

من أسباب نجاح غير المؤمنين
إنّ هناك أسباباً لتقدّم ونجاح وانتصار بعض الكفّار والفاسقين في الحياة الدنيا، وتأخّر بعض المؤمنين، ومن هذه الأسباب أنّ الطائفة الأولى رغم خلوّهم من عنصر الإيمان يتحلّون - أحياناً - ببعض نقاط القوّة الّتي يحقّقون في ظلّها ما يحقّقون من المكاسب، ويحرزون ما يحرزون من النجاحات، فيما تعاني الطائفة الثانية من نقاط ضعف توجب تأخّرهم وانحطاطهم. فنحن نعرف أشخاصاً - رغم انقطاعهم عن الله - يتّسمون بالجديّة الكبيرة في أعمالهم، ويتحلّون بالاستقامة والعزم، والتنسيق والتعاون فيما بينهم، والمعرفة بقضايا العصر ومتطلّباته، ومقتضياته ومستجدّاته، ومن الطبيعيّ أن يحقّق هؤلاء مكاسب كبيرة ويحرزوا انتصارات ونجاحات في حياتهم المادية، وما هم في هذا الأمر - في الحقيقة - إلّا مطبقين لتعاليم الدين وبرامجه من دون إسنادها إلى الدين وإعطائها صفته وصبغته.

وفي المقابل، هناك أشخاص متديّنون أوفياء للعقائد الدينية، لكنّهم بسبب غفلتهم عن تعاليم الدين الحيوية يعانون من الجبن والإحجام، ويفتقرون إلى الشهامة والاستقامة ويفقدون عنصر الثبات والاستمرار والاتّحاد والتعاون، وقراءة العصر والواقع، وطبيعيّ أن يصاب هذا الصنف من الناس بإخفاقات متلاحقة وهزائم متتابعة. ولكنّ هذه الهزائم والإخفاقات ليست أبداً بسبب إيمانهم بالله، بل هي بسبب ما بهم من نقاط الضعف، وما بأنفسهم من عوامل الهزيمة، وموجبات السقوط والإخفاق.

إنّهم يتصوّرون (وبالأحرى يظنّون) بأنّهم سيتنصرون بمجرّد إيمانهم بالله وانتسابهم إلى الدين في جميع المجالات، وينجحون في جميع المواقف، في حين جاء الدين بسلسلة من البرامج والمناهج العملية الحيوية للتقدّم والنجاح في الحياة، يستلزم تجاهلها الفشل والسقوط والهزيمة. إنّ لكلّ شيء سبباً، ولكلّ نجاح مفتاحه الخاص، ووسيلته الخاصة، وقد أتى الدين بكلّ ذلك، وبيّنه في تعاليمه وتوصياته،

فلا يمكن أن يتحقّق نجاح بغير هذه التعاليم وبغير هذه الوسائل، ومن هذه التعاليم المهمّة المعرفة بالزمان.
فالنجاح في الحياة والانتصار يقتضيان الوعي ولا يكفي الإيمان الساذج البسيط.

*مواعظ من نهج البلاغة , سلسلة الدروس الثقافية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1-العصر: 1 ـ 2 ـ 3.
2-الضحى: 1.
3-المدثر: 34.
4-نهج البلاغة، الخطبة 31.
5-عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص 126.
6-م. ن، ص 431.
7-بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج68، ص 281.
8-الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 27.
9-الرعد: 11.
10-بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 49، ص 111.
11-الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 23.
12-صحيفة النور، ج٢١، ص ٩٨، نداء الإمام إلى علماء البلاد ومراجع المسلمين بتاريخ ١٥ رجب ١٤٠٩ ه‍.

2014-09-01