يتم التحميل...

دوام البر وعدم نسيان الذنب

وصايا الأولياء

فيما جاء من وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما رواه الْقُطْبُ الرَّاوَنْدِيُّ فِي لُبِّ اللُّبَابِ، قَالَ: "الْبِرُّ لَا يَبْلَى وَالذَّنْبُ لَا يُنْسَى وَالدَّيَّانُ لَا يَفْنَى فَكُنْ كَمَا شِئْتَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ".

عدد الزوار: 33

فيما جاء من وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما رواه الْقُطْبُ الرَّاوَنْدِيُّ فِي لُبِّ اللُّبَابِ، قَالَ: "الْبِرُّ لَا يَبْلَى وَالذَّنْبُ لَا يُنْسَى وَالدَّيَّانُ لَا يَفْنَى فَكُنْ كَمَا شِئْتَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ"1.

في رحاب الوصية

في هذه الكلمات القليلة نجد أَنَّ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد جمع لنا مسار الإنسانية وخريطة الطريق التي لا بدّ أنْ يسير عليها كلّ آدميّ من زمن تكليفه وحتى يوم رحيله عن هذه الدنيا، ولكن ببيان لطيف ومقال جامع، فإنّه صلوات الله عليه وعلى آله قد أعطاه الله جوامع الكلم، ونفائس البيان، وأسرار البلاغة.

فرسم طريقين أساسين، أوّلهما طريق الخير والنور، وثانيهما طريق الشر والظلمة، ثمّ بيّن أَنَّ هذين الطريقين تحت المراقبة والنظر الإلهي الذي لا يخطئ، فعاملُ الخير عمله محفوظ، وعامل الشرّ عمله محسوب.

فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق وهو يعلم بما يصلحهم وما يفسدهم، وجعلهم ضمن نظامٍ متكاملٍ راعى فيه كلّ جوانب النجاح والصلاح، من التنظيم والتخطيط والإرشاد والتوجيه والمراقبة... وفي النهاية إمّا الفلاح وإما الخيبة، كما قال في محكم كتابه الكريم: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا2 وهذه الكلمات على الرغم من قلّتها ينطبق عليها مقولة: (خيرُ الكلام ما قلّ ودلّ)، إذ فيها إشارات إِلَى عدّة نقاط:

أوّلاً: ذكر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلمأَنَّ أعمال البرّ هي خير ما يقوم به بنو آدم.

ثانياً: إِنَّ عمل البرّ إذا أُريد به وجه الله، فسوف يكون محفوظاً عنده تعالى، لهذا قال: "لَا يَبْلَى"، ولا يخفى ما في هذا من التشويق والتحفيز لعامل البرّ، الأمر الَّذِي يدفعه إِلَى الاستمرار والمداومة عليه.

ثالثاً: التأكيد على أَنَّ كُلّ ما يقوم به الإنسان من مخالفات ومعاصي مسجّل ومحفوظ ولا يُنسى، فلا يحسبنّ أحدٌ أَنَّ الله غافلٌ عما يعمل العاملون.

رابعاً: التخيير في مرحلة العمل وعدم الإجبار على أحد الخيارين، فإنَّ الإنسان مخيَّر فيما يقوم به من عمل خير أو شر، فقد أعطانا الله العقل والشهوة، فمن غلب عقله على شهوته فقد أفلح ونجا، ومن غلبت شهوته على عقله فقد خاب وخسر، وهذا هو الامتحان والاختبار الحقيقي الذي يتميّز فيه المؤمن عن العاصي.

خامساً: هناك يومٌ معلومٌ لابدّ منه، فلا يظُنّنّ أحدٌ أنّه إذا استطاع أن يحتال أو يتجرّأ على أحكام الله ينجو ويفوز، بل هناك يومٌ توضع فيه الموازين القسط حيث لا يظلم فيه ربّك أحداً.

بعد هذه النظرة الإجمالية لا بدّ من الوقوف تفصيلاً على هذه النقاط، لنتعلّم من ملهم البشرية ورسول الإنسانية صلوات الله عليه وعلى آله.

مفهوم البرّ

البرّ هو معنى جامع لأعمال الخير والطاعة والإحسان والمفاهيم الحسنة التى يدعو إليها الإسلام، وقد استخدم القرآن الكريم هذه المفردة في عدّة مواضع، أهمّها:

الأول: بمعنى التقوى، كما في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ3.

وقد قال الشاعر:
لعمرك إِنَّ البرَّ منْ أعظمِ التُّقى***وإنَّ عقوقَ الوالدين عظيمُ

الثاني: بمعنى الإيمان: ومنه قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ...﴾4.

الثالث: بمعنى الإحسان، كما في قوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ5.

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم استعمال البرّ في المفهوم الجامع لمعاني الخير، كما في الموثق عن أبي عبد الله عليه السلام، قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فَوْقَ كُلِّ ذِي بِرٍّ بِرٌّ حَتَّى يُقْتَلَ الرَّجُلُ فِي سَبِيلِ الله فَإِذَا قُتِلَ فِي سَبِيلِ الله فَلَيْسَ فَوْقَه بِرٌّ"6.

البرُّ لا يبلى:

تحدّثت الرواية عن نقطةٍ مهمّة، وهي أَنَّ البرّ (لَا يَبْلَى)، أي: لا يفنى ولا يزول، وهذا من عظيم كرم الله سبحانه وتعالى وتفضّله علينا، فنحن نلاحظ أَنَّ كلّ ما عندنا هو من الله تعالى، وله الحكم والأمر، وقد أسبغ نعمه علينا ظاهرة وباطنة، ومع ذلك لو عملنا أدنى عمل فإنّه يعدنا بالثواب والعطاء الجزيل، والحال أَنَّه لا قيمة لأعمالنا إذا قايسناها مع نعم الله تبارك وتعالى، وقد ورد هذا المعنى في دعاء السحر الوارد عن الإِمام السجاد عليه السلام: "وَمَا قَدْرُ أَعْمَالِنَا فِي جَنْبِ نِعَمِكَ وَكَيْفَ نَسْتَكْثِرُ أَعْمَالًا نُقَابِلُ بِهَا كَرَمَكَ".

وبفضل هذا اللطف الإلهي على بني البشر أصبحت الحسنات مضاعفة والسيئات تسجّل كما هي، قال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ7، لأنّه عمل لله، وما كان لله ينمو ولا يفنى. وكما ذكر في القرآن الكريم: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ8.

وهناك الكثير الكثير من الآيات والأحاديث التي تدلّ على أَنَّ الأعمال الحسنة محفوظة عند الله تعالى، ويضاعفها لمن اتّقى.

الذنب لا ينسى

الطريق الَّذِي يقابل الطاعة والخير والعطاء هو طريق الذنوب والمعاصي والابتعاد عن الله تعالى، فإنّ الذنوب من موجبات سخط الله تعالى ورسوله والأئمة الميامين صلوات الله عليهم أجمعين، وهذا انحرافٌ عن الجادة وابتعاد عن الصراط، والذنوب أنواع وأشكال وألوان، فمنها الباطني ومنها الظاهري، ومنها الكبير ومنها الصغير، وكلُّها تعبيرٌ عن النكران للنعمة والدخول في سلك الجحود، وفي الحقيقة الذنوب من مهلكات الأمم والشعوب، قال الله تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا9. والكلام حول الذُّنوب طويل وعريض، ويكفينا أنْ نعرف أَنَّها تسوِّد قلب الإنسان في الدنيا وتسوّد وجهه في الآخرة، فقد ورد في الموثق عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام يَقُولُ: "إِذَا أَذْنَبَ الرَّجُلُ خَرَجَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِنْ تَابَ انْمَحَتْ وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ فَلَا يُفْلِحُ بَعْدَهَا أَبَداً"10.

والأنكى من هذا وأعظم أَنَّ هذه الذُّنوب لا تُنسى،كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (وَالذَّنْبُ لَا يُنْسَى)، ولا يخفى ما في هذه الفقرة من تهديد ووعيد للعاصين والخارجين عن حدود الله سبحانه وتعالى، فهو خطاب يعيد العقل إلى الصواب والرشد، ولا بدّ من التفكير ملياً في الأمر، لأنَّ الله سبحانه لا ينسى ما نقوم به، وقد وكّل ملكان عن اليمين وعن الشمال، قال عزّ شأنّه: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ11.

وقد ورد في الشعر المنسوب إِلَى مولانا زين العابدين عليه السلام:
لا تظلِمَنَّ إذا مَا كُنتَ مقتدراً***فالظلمُ يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبهٌ***يدعو عليك وعينُ الله لم تنم


وقال آخر:
النّملُ في الصخور الصمّ قدسه***والنحل يهتف حمداً في خلاياه
والناس يعصونه جهراً فيسترهم***والعبد ينسى وربّي ليس ينساه


الإنسان مخيّر في انتخاب الطريق

(فَكُنْ كَمَا شِئْتَ)
على الرغم من أَنَّ طريق الخير واضح النتائج لم يجبر الباري تبارك وتعالى عبيده على السلوك فيه، والانحراف عن طريق الشرّ، بل تركهم ولهم تمام الاختيار في انتخاب واختيار الطريق الذي يشاؤون، قال تبارك تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا * إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا12. وقال في آيات أَخرى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا13، فعندما يأخذ الإنسان طريق الصلاح والطاعة والفلاح ويفضّله على طريق الفساد والمعصية والخيبة فإنّما يدلُّ على أنّه إنسان نظر نظرة ثاقبة إلى المستقبل البعيد، الذي يكون فيه سعيداً إلى الأبد،وهذا يدلّل على أنّه إنسان طاهر النفس نقيّ الفؤاد،ذو إرادة صلبة وعزيمة قويّة.

إِنَّ للهِ عباداً فُطَنا***طلّقوا الدُّنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلمّا علِموا***َنَّها ليست لحيٍّ وطنا
جعلوها لجّةً واتخذوا***صالح الأعمال فيها سفنا


كما تدين تدان

لا يخفى ما في هذه الكلمة من التهديد والوعيد للعاصين، وفي الوقت ذاته لا تخلو من بشرى للمطيعين، فالنبيُّ الأعظم صلوات الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين يريد أنْ يقول لنا أَنَّ الجزاء من جنس العمل بقوله: "كَمَا تَدِينُ تُدَانُ"، أيْ:كما تعتقد أو تعمل تُجازى، فلو كنت تفعل الخير فسيكون جزاؤك الخير، وإنْ كنت تفعل الشرّ فسيكون جزاؤك الشر، قال تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا14، وقد قال أيضاً: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ15، فيا أيُّها الإنسان لا مفر من ديان الدين إِلَّا إليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، فتعال نفكّر قبل أنْ نختار، وإنْ كنّا قد سلكنا طريق الخطأ، فلنتب إلى الله الرحمن الرحيم الذي يقبل التوبة عن عباده ويبدّل سيئاتهم حسنات...

* كتاب وصايا الأولياء، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- الحلواني، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، ص16.
2- سورة الشمس، الآيات: 7 – 10.
3- سورة البقرة، الآية: 189.
4- سورة البقرة، الآية: 177.
5- سورة آل عمران، الآية: 92.
6- الشيخ الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص348، ح 4، تصحيح وتعليق على أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
7- سورة البقرة، الآية: 276.
8- سورة المزمل، الآية: 20.
9- سورة نوح، الآية: 25.
10- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص268.
11- سورة ق، الآيات: 17 - 19.
12- سورة الإنسان، الآيات: 3 - 5.
13- سورة الشمس، الآيات: 7 – 9.
14- سورة الكهف، الآية: 49.
15- سورة الزلزلة، الآيتان: 7 – 8.

2014-08-01