يتم التحميل...

العمر واغتنام اللحظة

مدرسة عاشوراء

هناك حقائق في العمر غير خافية على أحد، لكن يحسن لكلّ واحد منّا أن يبقى ذاكراً لها، فالعمر: يسير كالساعة الرمليّة، كلَّما سار قلَّ، لذا فأكبر عمر الإنسان ليس حين يموت، بل هو-كما يقول الإمام زين العابدين عليه السلام-: "أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يولد من أمّه"

عدد الزوار: 127

مرَّ في حديثنا عن أصحاب الإمام الحسين عليه السلام أنَّهم كانوا متنوّعين في أعمارهم.
• فمنهم شيوخ كبار متقدِّمون بالعمر.
• ومنهم شبان في ربيع العمر.
• ومنهم فتية ناشئة.
• ومنهم أطفال رُضَّع.

أمام هؤلاء الشهداء أودّ الوقوف عند موضوع العمر واغتنام الفرصة فيه.

حقائق في العمر

هناك حقائق في العمر غير خافية على أحد، لكن يحسن لكلّ واحد منّا أن يبقى ذاكراً لها، فالعمر:
1- يسير كالساعة الرمليّة، كلَّما سار قلَّ، لذا فأكبر عمر الإنسان ليس حين يموت، بل هو-كما يقول الإمام زين العابدين عليه السلام-: "أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يولد من أمّه"1.
2- يسير بسرعة، فعن الإمام علي عليه السلام: "ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيّام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر"2.
3- لا يشعر الإنسان بسرعته، بل هو قصير مهما طال، فقد روي أنّ جبرئيل عليه السلام قال لنوح عليه السلام: "يا أطول الأنبياء عمراً، كيف وجدت الدنيا؟ قال: كدار لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر"3.
4- إنَّ أكثر أوقات العمر لا يستفيد منها أكثر الناس.

قال الشاعر:
إذا عاشَ الفتى ستينَ عاماً فنصفُ العمر تمحقُه الليالي
ونصفُ النصفِ يذهبُ ليس يدري لغفلته يميـــــناً عن شمالِ
وباقي العمر أسقامٌ وشيبٌ وهـــــمٌّ بارتحـــــال وانتقالِ
فحبُّ المرء طول العمر جهلٌ وقسمتُه على هذا المثالِ


توجيهات مقابل الحقائق

1-الإمساك بزمام المبادرة
عن الإمام علي عليه السلام: "إنّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما"4.

2-اغتنام عناصر القوَّة
ورد أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي ذرّ (رض): "يا أبا ذرّ، اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"5.

3-ملء الوقت بالعمل الصالح
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "يفتح للعبد يوم القيامة على كلّ يوم من أيّام عمره أربع وعشرون خزانة، عدد ساعات الليل والنهار، فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسروراً، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وُزِّع على أهل النار، لأدهشهم عن الإحساس بألم النار، وهي الساعة التي أطاع فيها ربّه. ثم يفتح له خزانة أخرى، فيراها مظلمة منتنة مفزعة، فيناله منها عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قسم على أهل الجنَّة لنغَّص عليهم نعيمها، وهي الساعة التي عصى فيها ربّه. ثم يفتح له خزانة أخرى، فيراها خالية ليس فيها ما يسرّه ولا يسوؤه، وهي الساعة التي نام فيها، أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والأسف على فواتها حيث كان متمكِّناً من أنْ يملأها حسنات ما لا يوصف. ومن هذا قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 6"7.

4-المسارعة في عمل الصالحات
قال تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ 8، ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 9. فالعمر السريع يوجب سرعة الاستفادة منه. قال الشاعر:
مضى أمسُكَ الماضي شهيداً معدَّلاً***وأصبحتَ في يومٍ عليك شهيدُ
فإنْ كنتَ بالأمس اقترفتَ إساءة***فثنِّ بإحسانٍ، وأنت حميدُ
ولا تُرجِ فعلَ الخير يوماً إلى غدٍ***لعلَّ غداً يأتي وأنت فقيد


ورد أنَّ ملك الموت إذا ظهر للعبد أعلمه أنّه بقي من عمره ساعة، وأنّه لا يستأخر عنها، فيبدو للعبد من الأسف ما لو كانت له الدنيا كلُّها لخرج منها على أن يضمَّه إلى الساعة ساعة أُخرى، فيتدارك في تفريطه فيها، فلا يجد إليها سبيلاً، يقول لملك الموت: مهِّلني يوماً، يقول: ضيَّعت الأيام، فيقول العبد: مهّلني ساعة أتدارك فيها، فيقول: قد ضيّعت الساعات.

وورد عن الإمام علي عليه السلام: "أيُّها الناس، الآن الآن ما دام الوثاق مطلقاَ، والسراج منيراً، وباب التوبة مفتوحاً من قبل أن يجفَّ القلم، وتُطوى الصحف"10.

5-القيام بأحسن الأعمال
قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ 11.
العمل الحسن هو الذي يكون موافقاً للحكم الشرعي، ويؤتى به بإخلاص لله تعالى.
وأحسن الأعمال هو ما جمع فيه الإنسان بين توجُّهه لله تعالى، وخدمة الناس على قاعدة الحديث الشريف: "الخلق كلّهم عيال الله، فأحبّ خلقه إليه أنفعهم لعياله"12.

6-اغتنام اللحظة الوقتية
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "كنْ على عمرك أشحَّ منك على دِرْهَمِك ودينارك"13.
وقد يحقِّق الإنسان هذا الاغتنام من خلال تحويل كلّ عمله لله تعالى، فينام ويتناول الطعام ويمارس الرياضة بنيَّة التقوِّي على عبادة الله تعالى، والعمل في سبيله، وهكذا...

7-اغتنام اللحظة النوعية
عن النبيّ: "إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات، ألا فتعرَّضوا لها"14.
من هذه النفحات مناسبات زمنية كشهر رمضان، وموسم الحجّ، وأيام الجمعة، وعيد الغدير، ومنها فرص قد لا تتكرّر.

فلنعتبر من هذه القصّة:

عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان نزل على رجل بالطائف، قبل الإسلام، فلمَّا أن بعث الله محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس، قيل للرجل: أتدري من الذي أرسله الله عزَّ وجلَّ إلى الناس؟ قال: لا، قالوا له: هو محمّد بن عبد الله، يتيم أبي طالب، وهو الذي كان نزل بك بالطائف، يوم كذا وكذا فأكرمته. فقدم الرجل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلَّم عليه، وأسلم، ثم قال له: أتعرفني يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: ومن أنت؟ قال: أنا ربّ المنزل الذي نزلت به بالطائف في الجاهليّة، يوم كذا وكذا، فأكرمتُك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مرحباً بك، سَلْ حاجتك، فقال: أسألك مئتي شاة برعاتها، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما سأل، ثم قال لأصحابه: ما كان على هذا الرجل لو سألني سؤال عجوز بني إسرائيل لموسى عليه السلام بما سأل، فقالوا: وما سألت عجوز بني إسرائيل لموسى عليه السلام ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّ الله عزّ ذكره أوحى إلى موسى عليه السلام أن احمل عظام يوسف عليه السلام من مصر قبل أن تخرج منها إلى الأرض المقدّسة بالشام، فسأل موسى عليه السلام عن قبر يوسف عليه السلام فجاء شيخ فقال: إنْ كان أحد يعرف قبره ففلانة، فأرسل موسى عليه السلام إليها، فلمّا جاءته قال: تعلمين موضع قبر يوسف عليه السلام ؟ قالت: نعم. قال عليه السلام: فدلّيني عليه، ولك ما سألت. قالت: لا أدلّك عليه إلا بحكمي. قال عليه السلام: فالجنّة، قالت: لا إلا بحكمي عليك، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام: لا يكبر عليك أن تجعل لها حكمها، فقال لها موسى عليه السلام: فلك حكمك قالت: فإنّ حكمي أن أكون معك في درجتك التي تكون فيها يوم القيامة في الجنّة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما كان على هذا لو سألني ما سألت عجوز بني إسرائيل"15.

عاشوراء واغتنام اللحظة

وعاشوراء مدرسة عظيمة في اغتنام اللحظة التي نقلت بعض من فيها من قعر جهنَّم إلى "عشّاقٍ، شهداء، لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من بعدهم".

فالحرّ بن يزيد الرياحي هو الذي حاصر الإمام الحسين عليه السلام وأحضره إلى كربلاء، فهو الموطِّىء، والمهيئ لمذبحة كربلاء، لكنه اغتنم اللحظة حينما واجه الموقف الصعب. ذهب إلى "عمر بن سعد" وسأله: أمقاتل أنت هذا الرجل؟،أي الحسين عليه السلام.

فأجابه "عمر": أي والله، قتالاً أيسره أن تطيح الأيدي، وتتقطّع الرؤوس، وتتطاير الأكفّ.

هنا اشتدّ الصراع في داخل "الحُرّ" وظلَّ يُفكّر في مصيره. وفيما هو يُفكّر أصابته رعشة فارتعد، ممّا أثار دهشة أحد رفاقه، فقال له: إنّ أمرك لعجيب، فوالله لو سُئلت عن أشجع أهل الكوفة أو العراق لما عَدوْتُك، فماذا أصابك؟

فأجابه: إنّي مُخيّرٌ بين الجنّة والنار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً أبداً، وإن قُطِّعتُ ومُزِّقتُ وأُحرقتُ.

بعد ذلك ذهب "الحُرّ" إلى خيمة الإمام الحسين عليه السلام، وجاء منادياً: "اللهمَّ إليك تبتُ فتب عليَّ، لقد أرعبتُ قُلوب أوليائك وأولاد نبيّك.."

وعندما وقف أمام خيمة الإمام كان رأسه منحنياً على سرج فرسه، فقال للإمام: "أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك الطريق، سيّدي ومولاي، جئتك تائباً إلى الله ممّا كانت منّي، فهل ترى لي من توبة؟ فقال له الإمام: نعم، يتوب الله عليك، فأنت الحرّ في الدنيا، وأنت الحرّ في الآخرة إن شاء الله"16.
 

* وأتممناها بعشر، سماحة الشيخ أكرم بركات.


1 الصدر، محمد مهدي، أخلاق أهل البيت،(لا،ط)، (لا،ن)، (لا،ت)، ص 269.
2 نهج البلاغة، ج2، ص 128.
3 الري شهري، محمد، ميزان الحكمة، ج2، ص 919.
4 المصدر السابق، ج3، 2113.
5 الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج1، ص 86.
6 سورة التغابن، الآية 9.
7 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج7، ص262.
8 سورة آل عمران، الآية: 133.
9 سورة البقرة، الآية: 148.
10 الميرجهاني، حسن، مستدرك نهج البلاغة، (لا،ط)، (لا،ن)، 1388هـ، ج2، ص 117.
11 سورة الملك، الآية 2.
12 الحلي، الرسالة السعدية، ط1، قم، 1410هـ، ص 160.
13 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 74، ص 76.
14 المصدر السابق، ج 68، ص 221.
15 الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج8، ص55.
16 انظر: المقرَّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين عليه السلام، ص‏236.

2013-11-18