يتم التحميل...

لمحة عن حياة الإمام عليه السلام

الهوية والسيرة

هو الإمام محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، خامس أئمّة أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً. ولد عليه السلام في المدينة المنوّرة، غرّة رجب...

عدد الزوار: 16

 

هو الإمام محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، خامس أئمّة أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.

ولادته وشهادته:
ولد عليه السلام في المدينة المنوّرة، غرّة رجب، أو الثالث من صفر، سنة 57 للهجرة1 ، قبل وقعة الطفّ بأربع سنين. ومضى عليه السلام بالمدينة يوم الاثنين سابع ذي الحجّة سنة 114 للهجرة، وروي سنة 2 116، وقيل سنة 117 عن عمر 58 سنة3 ، وقيل غير ذلك، ودفن بالبقيع في القبر الذي دفن فيه أبوه عليّ بن الحسين عليه السلام4 .

كنيته وألقابه:
أمّا كنيته: فأبو جعفر.
ولقبه: باقر العلم، والشاكر لله، والهادي، والأمين، والشبيه لأنّه كان يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 5 .

وأشهر ألقابه هو الباقر، وقد ذكره أئمّة اللغة في كتبهم، ففي لسان العرب: التبقّر: التوسّع في العلم والمال، وكان يقال لمحمّد بن عليّ بن الحسين بن علي: الباقر رضوان الله عليهم، لأنّه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه وتبقّر في العلم، وأصل البقر: الشقّ والفتح والتوسعة، بقرت الشيء بقراً: فتحته ووسّعته6 .

وقد لقّبه به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يولد، وأخبر به جابر بن عبد الله الأنصاريّ، وروي عنه أنّه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يوشك أن تبقى حتّى تلقى ولداً لي من الحسين يقال له: محمّد يبقر علم الدين بقراً، فإذا لقيته فأقرئه منّي السلام"7 .

وعن الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام قال: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ذات يوم لجابر بن عبد الله الأنصاريّ: يا جابر إنّك ستبقى حتّى تلقى ولدي محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب المعروف في التوراة بالباقر فإذا لقيته فاقرئه منّي السلام. فدخل جابر إلى عليّ بن الحسين عليه السلام فوجد محمّد بن عليّ عليه السلام عنده غلاماً فقال له: يا غلام أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبر فأدبر. فقال جابر: شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وربّ الكعبة، ثمّ أقبل على عليّ بن الحسين عليه السلام فقال له: من هذا؟ قال: هذا ابني وصاحب الأمر بعدي:

محمّد الباقر، فقام جابر فوقع على قدميه يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسك الفداء يا بن رسول الله، اقبل سلام أبيك، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ عليك السلام، قال: فدمعت عينا أبي جعفر عليه السلام ثمّ قال: يا جابر على أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السلام ما دامت السماوات والأرض وعليك- يا جابر- بما بلّغت السلام" 8 .

وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام قال:"إنّ جابر بن عبد الله كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان رجلاً منقطعاً إلينا أهل البيت، وكان يقعد في مسجد الرسول معتجّر 9 بعمامة، وكان يقول: يا باقر يا باقر، فكان أهل المدينة يقولون: جابر يهجر، فكان يقول: لا والله لا أهجر ولكنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنّك ستدرك رجلاً منّي اسمه اسمي وشمائله شمائلي يبقر العلم بقر، فذلك الذي دعاني إلى ما أقول، قال: فبينما جابر ذات يوم يتردّد في بعض طرق المدينة إذ مرَّ محمّد بن عليّ عليه السلام فلمّا نظر إليه قال: يا غلام أقبل، فأقبل، ثمّ قال: أدبر، فأدبر، فقال: شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي نفس جابر بيده، ما اسمك يا غلام؟ فقال: أنا محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فقبَّل رأسه ثمّ قال: بأبي أنت وأمّي، أبوك رسول الله يقرئك السلام فقال: وعلى رسول الله صلّى الله عليه وآله السلام.. فرجع محمّد إلى أبيه وهو ذعر فأخبره بالخبر فقال: يا بنيّ قد فعلها جابر؟ قال: نعم، قال: يا بنيّ الزم بيتك، قال: فكان فكان جابر يأتيه طرفي الن هار فكان أهل المدينة يقولون: واعجباً لجابر يأتي هذا الغلام طرفي النهار، وهو آخر 10 من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! فلم يلبث أن مضى عليّ بن الحسين عليه السلام، فكان محمّد بن عليّ عليه السلام يأتيه على الكرامة لصحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فجلس الباقر يحدّثهم عن الله فقال أهل المدينة: ما رأينا أحداً قطّ أجرأ من ذا! فلمّا رأى ما يقولون حدّثهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أهل المدينة: ما رأينا قطّ أحداً أكذب من هذا يحدّث عمّن لم يره! فلمّا رأى ما يقولون حدّثهم عن جابر بن عبد الله فصدّقوه، وكان- والله- جابر يأتيه فيتعلّم منه" 11 .

والدته الصِّدِّيقة:
أمّ عبد الله بنت الحسن بن عليّ بن أبي طالب، فهو هاشميّ من هاشميَّين، علويّ من علويَّين، وفاطميّ من فاطميّين، لأنّه أوّل من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين عليه السلام12.

وعن الباقر عليه السلام قال: "كانت أمّي قاعدة عند جدار فتصدّع الجدار وسمعنا هدّة شديدة، فقالت بيدها: لا وحقِّ المصطفى ما أذن الله لك في السقوط، فبقي معلّقاً في الجوّ حتّى جازته، فتصدّق أبي عنها بمائة دينار".

وذكر أبو عبد الله عليه السلام جدّته أمّ أبيه يوماً فقال: "كانت صدّيقة، لم تدرك في آل الحسن امرأة مثلها" 13.

مع أبيه زين العابدين عليه السلام:
عن الزهريّ قال: دخلت على عليّ بن الحسين عليه السلام في المرض الذي توفّي فيه...ثمّ دخل عليه محمّد ابنه فحدّثه طويلاً بالسرّ فسمعته يقول فيما يقول: "عليك بحسن الخلق" قلت: يا ابن رسول الله إن كان من أمر الله ما لا بدّ لنا منه- ووقع في نفسي أنّه قد نعى نفسه- فإلى من يُختلف بعدك؟ قال :"يا أبا عبد الله إلى ابني هذا" - وأشار إلى محمّد ابنه-" إنّه وصيّي ووارثي وعيبة علمي، معدن العلم، وباقر العلم"، قلت: يا ابن رسول الله ما معنى باقر العلم؟ قال: "سوف يختلف إليه خُلّاص شيعتي، ويبقر العلم عليهم بقراً" ، قال: ثمّ أرسل محمّداً ابنه في حاجة له إلى السوق، فلمّا جاء محمّد قلت: يا ابن رسول الله هلّا أوصيت إلى أكبر أولادك؟ قال: "يا أبا عبد الله ليست الإمامة بالصغر والكبر، هكذا عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا وجدناه مكتوباً في اللوح والصحيفة"، قلت: يا ابن رسول الله فكم عهد إليكم نبيّكم أن يكون الأوصياء من بعده؟ قال: "وجدنا في الصحيفة واللوح اثني عشر أسامي مكتوبة بإمامتهم وأسامي آبائهم وأمّهاتهم" ثمّ قال: "يخرج من صلب محمّد ابني سبعة من الأوصياء فيهم المهديّ صلوات الله عليهم" 14.

فضائله ومناقبه وبعض أحواله:
كان أصدق الناس لهجة وأحسنهم بهجة.. وكان أقلّ أهل بيته مالاً وأعظمهم مؤونة وكان يتصدّق كلّ جمعة بدينار، وكان إذا أحزنه أمر جمع النساء والصبيان ثمّ دعا فأمّنوا.
وكان كثير الذِكر كان يمشي وأنّه ليذكر الله، ويأكل الطعام وأنّه ليذكر الله، ولقد كان يحدّث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله، وكان يجمع ولده فيأمرهم بالذكر حتّى تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منهم، ومن كان لا يقرأ منهم أمره بالذكر15.

وعن أبي عبد الله جعفر بن محمّد صلى الله عليه وآله وسلم قال:"إنّ محمّد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أنّ مثل عليّ بن الحسين يدع خلفاً- لفضل عليّ بن الحسين- حتّى رأيت ابنه محمّد بن عليّ فأردت أن أعظه فوعظني.

فقال له أصحابه: بأيّ شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة، فلقيت محمّد بن عليّ- وكان رجلاً بديناً- وهو متّكئ على غلامين له أسودين-أو موليين له- فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! أشهد لأعظنّه؟ فدنوت منه فسلّمت عليه، فسلّم عليّ ببَهَرٍ وقد تصبَّب عرقاً، فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحال في طلب الدنيا! أشهد لأعظنّه؟ فدنوت منه فسلّمت عليه، فسلّم عليّ ببَهَر 16وقد تصبَّب عرقاً، فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحال في طلب الدنيا! لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال؟! قال: "فخلّى عن الغلامين من يده، ثمّ تساند" وقال: " لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله، أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنّما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله. فقلت: يرحمك الله، أردت أن أعظك فوعظتني " 17 .

وكان عليه السلام ، ظاهر الجود في الخاصّة والعامّة، مشهور الكرم في الكافّة، معروفاً بالفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسّط حاله:
فعن الحسن بن كثير قال: شكوت إلى أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام الحاجة وجفاء الإخوان، فقال: " بئس الأخ أخ يرعاك غنيّاً ويقطعك فقير " ، ثمّ أمر غلامه فأخرج كيساً فيه سبعمائة درهم، وقال: " استنفق هذه فإذا نفدت فأعلمني " .

وعن عمرو بن دينار وعبد الله بن عبيد بن عمير أنّهما قالا: ما لقينا أبا جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام إلّا وحمل إلينا النفقة والصلة والكسوة، ويقول: " هذه معدّة لكم قبل أن تلقوني " .

وعن سليمان بن قرم قال: كان أبو جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام يجيزنا بالخمسمائة درهم إلى الستمائة إلى الألف درهم، وكان لا يملّ من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمّليه وراجيه.

وروي عنه عن آبائه عليه وعليهم السلام:"أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: أشدّ الأعمال ثلاثة: مواساة الإخوان في المال، وإنصاف الناس من نفسك، وذكر الله على كلّ حال".

وروي عنه عليه السلام أنّه سئل عن الحديث يرسله ولا يسنده فقال: "إذا حدّثتُ الحديث فلم أسنده فسندي فيه أبي عن جدّي عن أبيه عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل عليه السلام عن الله عزّ وجلّ".

وكان عليه وآبائه السلام يقول: "بليّة الناس علينا عظيمة، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا". وكان عليه السلام يقول: "ما ينقم الناس منّا؟! نحن أهل بيت الرحمة، وشجرة النبوّة، ومعدن الحكمة، وموضع الملائكة، ومهبط الوحي" 18.

وعن محمّد بن سليمان، عن أبيه قال: كان رجل من أهل الشام يختلف إلى أبي جعفر عليه السلام، وكان مركزه بالمدينة، يختلف إلى مجلس أبي جعفر عليه السلام يقول له: يا محمّد ألا ترى أنّي إنّما أغشى مجلسك حياء منّي لك، ولا أقول: إنّ في الأرض أحداً أبغض إليّ منكم أهل البيت، وأعلم أنّ طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم، ولكن أراك رجلاً فصيح، لك أدب وحسن لفظ، وإنّما الاختلاف إليك لحسن أدبك، وكان أبو جعفر عليه السلام يقول له خيراً ويقول: "لن تخفى على الله خافية ".

فلم يلبث الشامي إلّا قليلاً حتّى مرض واشتدّ وجعه، فلمّا ثقل دعا وليّه، وقال له: إذا أنت مددت عليّ الثوب فأتِ محمّد بن عليّ عليه السلام (وسله أن يصلّي علّي) 19 ، وأعلمه أنّي أنا الذي أمرتك بذلك.

قال: فلمّا أن كان في نصف الليل ظنّوا أنّه قد برد وسجّوه، فلمّا أن أصبح الناس خرج وليّه إلى ال مسجد، فلمّا أن صلّى محمّد بن عليّ عليه السلام وتورّك- وكان إذا صلّى عقّب في مجلسه- قال له: يا أبا جعفر إنّ فلاناً الشاميّ قد هلك وهو يسألك أن تُصلّي عليه، فقال أبو جعفر: "كل إنّ بلاد الشام بلاد صِرّ20وبلاد الحجاز بلاد حرّ ولهبها21 شديد، فانطلق فل ا تعجلنّ على صاحبك حتّى آتيكم"، ثمّ قام من مجلسه فأخذ وضوءاً ثمّ عاد فصلّى ركعتين، ثمّ مدّ يده تلقاء وجهه ما شاء الله، ثمّ خرّ ساجداً حتّى طلعت الشمس.

ثمّ نهض عليه السلام فانتهى إلى منزل الشاميّ فدخل عليه فدعاه فأجابه، ثمّ أجلسه فسنّده، ودعا له بسويق22 فسقاه، فقال لأهله: "املأوا جوفه وبرّدوا صدره بالطعام البارد"، ثمّ انصرف فلم يلبث إلّا قليلاً حتّى عوفي الشاميّ، فأتى أبا جعفر عليه السلام، فقال: أخلني، فأخلاه، فقال: أشهد أنّك حجّة الله على خلقه، وبابه الذي يؤتى منه، فمن أتى من غيرك خاب وخسر وضلّ ضلالاً بعيداً.

قال له أبو جعفر: "وما بدا لك"؟ قال: أشهد أنّي عهدت بروحي وعاينت بعيني، فلم يتفاجأني إلّا ومنادٍ ينادي، أسمعه بأذني ينادي وما أنا بالنّائم: ردّوا عليه روحه، فقد سألنا ذلك محمّد بن عليّ.

فقال له أبو جعفر:"أما علمت أنّ الله يحبّ العبد ويبغض عمله، ويبغض العبد ويحبّ عمله"؟ قال: فصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر عليه السلام23.

وعن الحكم بن عتيبة قال: بينا أنا مع أبي جعفرعليه السلام والبيت غاصّ بأهله إذ أقبل شيخ يتوكّأ على عنزة24 له حتّى وقف على باب البيت فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثمّ سكت، فقال أبو جعفرعليه السلام:"وعليك السلام ورحمة الله وبركاته"، ثمّ أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت عليه السلام، وقال: السلام عليكم، ثمّ سكت حتّى أجابه القوم جميعاً وردّوا عليه السلام، ثمّ أقبل بوجهه على أبي جعفرعليه السلام ثمّ قال: يا ابن رسول الله أدنني منك جعلني الله فداك، فوالله إنّي لأحبّكم وأحبّ من يحبّكم، ووالله ما أحبّكم وأحبّ من يحبّكم لطمع في دني، (والله) إنّي لأبغض عدوّكم وأبرأ منه، ووالله ما أبغضه وأبرأ منه لوترٍ كان بيني وبينه، والله إنّي لأحلّ حلالكم وأحرّم حرامكم وأنتظر أمركم، فهل ترجو لي جعلني الله فداك؟ فقال أبو جعفرعليه السلام:"إليّ إليّ" حتّى أقعده إلى جنبه، ثمّ قال:"أيّها الشيخ إنّ أبي عليّ بن الحسين عليه السلام أتاه ر جل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه، فقال له أبي عليه السلام: إن تمت ترد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عليّ والحسن والحسين وعليّ بن الحسينعليه السلام، وتقرّ عيني، ويثلج قلبي، ويبرد فؤادي، وأستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين، لو قد بلغت نفسي إلى ههن، وإن أعش أرَ ما يقرّ الله به عيني فأكون معكم في السنام الأعلى؟!! ثمّ أقبل الشيخ ينتحب، ينشج 25 ها ها ها حتّى لصق بالأرض وأقبل أهل البيت ينتحبون وينشجون لما يرون من حال الشيخ، وأقبل أبو جعفرعليه السلام يمسح بإصبعه الدموع من حماليق 26 عينيه وينفضها، ثمّ رفع الشيخ رأسه فقال لأبي جعفرعليه السلام: يا ابن رسول الله ناولني يدك جعلني الله فداك، فناوله يده فقبّلها ووضعها على عينيه وخدّه، ثمّ حسر عن بطنه وصدره فوضع يده على بطنه وصدره، ثمّ قام فقال: السلام عليكم، وأقبل أبو جعفرعليه السلام ينظر في قفاه وهو مدبر، ثمّ أقبل بوجهه على القوم فقال: "من أحبّ أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة فلينظر إلى هذا".

فقال الحكم بن عتيبة: لم أر مأتماً قطّ يشبه ذلك المجلس 27.

وعن أبي حمزة الثماليّ قال: كنت جالساً في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبل رجل فسلّم فقال: من أنت يا عبد الله؟ قلت: رجل من أهل الكوفة، فقلت: ما حاجتك؟ فقال لي: أتعرف أبا جعفر محمّد بن عليّعليه السلام؟ فقلت: نعم، فما حاجتك إليه؟ قال: هيّأت له أربعين مسألة أسأله عنه، فما كان من حقٍّ أخذته، وما كان من باطلٍ تركته، قال أبو حمزة: فقلت له: هل تعرف ما بين الحقّ والباطل؟ قال: نعم، فقلت له: فما حاجتك إليه إذا كنت تعرف ما بين الحقّ والباطل؟ فقال لي: يا أهل الكوفة أنتم قوم ما تطاقون، إذا رأيت أبا جعفرعليه السلام فأخبرني، فما انقطع كلامي معه حتّى أقبل أبو جعفرعليه السلام وحوله أهل خراسان وغيرهم يسألونه عن مناسك الحجّ، فمضى حتّى جلس مجلسه وجلس الرجل قريباً منه، قال أبو حمزة: فجلست حيث أسمع الكلام وحوله عالم من الناس، فلمّا قضى حوائجهم وانصرفوا التفتّ إلى الرجل، فقال له:"من أنت"؟ قال: أنا قتادة بن دعامة البصريّ، فقال له أبو جعفرعليه السلام:"أنت فقيه أهل البصرة"؟ قال: نعم، فقال له أبو جعفرعليه السلام:"ويحك يا قتادة! إنّ الله جلّ وعزّ خلق خلقاً من خلقه فجعلهم حججاً على خلقه، فهم أوتاد في أرضه، قوّام بأمره، نجباء في علمه، اصطفاهم قبل خلقه أظلّة عن يمين عرشه"، قال: فسكت قتادة طويل، ثمّ قال: أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدّام ابن عبّاس، فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك، قال له أبو جعفرعليه السلام:"ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فأنت ثمّ ونحن أولئك"، فقال له قتادة: "صدقت والله جعلني الله فداك، والله ما هي بيوت حجارة ولا طين.." 28.

وعن أفلح مولى أبي جعفرعليه السلام قال: خرجت مع محمّد بن عليّ حاجّاً، فلمّا دخل المسجد نظر إلى البيت فبكى حتّى علا صوته، فقلت: بأبي أنت وأمّي إنّ الناس ينظرون إليك فلو رفعت بصوتك قليلاً، فقال لي:"ويحك يا أفلح ولم لا أبكي لعلّ الله تعالى أن ينظر إليّ منه برحمة فأفوز بها عنده غداً"، قال: ثمّ طاف بالبيت، ثمّ جاء حتّى ركع عند المقام، فرفع رأسه من سجوده فإذا موضع سجوده مبتلّ من دموعه، وكان إذا ضحك قال:"أللهم لا تمقتني" 29 .

* باقر العلوم، سلسلة مجالس العترة، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 210، الشهيد الأوّل: الدروس ج 2 ص 12.
2- الشهيد الأوّل: الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة ج 2 ص 12، وانظر: المجلسيّ: بحار الأنوار ج 46 ص 217 عن مصباح الكفعميّ في الجدول. وقيل في شهادته عليه السلام غير ذلك، فقد ذكر النيسابوريّ في روضة الواعظين ج 1 ص 207 أنّ شهادته في ذي الحجّة، ويقال في شهر ربيع الأوّل، ويقال في شهر ربيع الآخر، وفي مسند الإمام الباقر عليه السلام ج 1 ص 149 عن ابن خلكان أنّ شهادته في شهر ربيع الأول، وقيل في الثالث والعشرين من صفر.
3- اليعقوبيّ: تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص 320، ولاحظ الأربليّ: كشف الغمّة في معرفة الأئمّةR ج 2 ص 332.
4- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 469.
5- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 210.
6- ابن منظور: لسان العرب ج 4 ص 74 مادة بقر.
7- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 159.
8- الصدوق: الأماليّ ص 434 435.
9- الاعتجار: هو أن يلفّ العمامة على رأسه ويردّ طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئاً تحت ذقنه.
10- لعلّ الراوي أراد أنّه من آخر من بقي من الصحابة، فإنّهم ذكروا أنّ آخر من توفي من الصحابة هو أبو الطفيل عامر بن وائلة بن عبد الله بن عمر الليثيّ الكنانيّ الذي بقي إلى سنة 100 للهجرة.
11- القطب الراونديّ: الخرائج والجرائح ج 1 ص 278.
12- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 208.
13- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 469.
14- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 46 ص 232 233.
15- الأمين السيّد محسن: المجالس السنيّة ج 5 ص 440.
16- البَهَر: تتابع النفس.
17- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 161.
18- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 166 168.
19- هذه الزيادة من البحار.
20- الصِرّ: البرد الشديد.
21- في المصدر: ولحمه، وما في المتن أخذناه من البحار.
22- السويق: دقيق مقلوٌّ يعمل من الحنطة أو الشعير.
23- الطوسيّ: الأماليّ ص 410، عنه: المجلسيّ: بحار الأنوار ج 46 ص 233.
24- العَنَزَة بالتحريك أطول من العصا وأقصر من الرمح في رأسها حديد.
25- النحب والنحيب والانتحاب: البكاء بصوت طويل. والنشج: صوت معه توجّع وبكاء كما يردّد الصبيّ بكاءه في صدره.
26- الحماليق: جمع حملاق (بالكسر والفتح) وحملوق كعصفور، من العين باطن أجفانها الذي يسوّده الكحل، أو هو ما غطّته الأجفان من بياض المقلة.
27- الكليني: الكافي ج 8 ص 76.
28- الكلينيّ: الكافي ج 6 ص 256.
29- لشافعيّ كمال الدين محمّد بن طلحة: مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ج 2 ص 104.

2013-04-01