يتم التحميل...

صحائف الأعمال

يوم القيامة

نَشر الصحف هو أحد الحوادث المهمَّة التي تحدث في يوم القيامة، وفيه تتطاير الكتب‌، وَتَطَايُرُ الكتبِ‌ يعني:‌ فتح‌ صحائف‌ الأعمال‌ ونشرها، فحينها ينشغل فيها الإنسان عن أهله وأقاربه وأحبابه وأصدقائه، يقول الله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ...

عدد الزوار: 130

تمهيد
نَشر الصحف هو أحد الحوادث المهمَّة التي تحدث في يوم القيامة، وفيه تتطاير الكتب‌، وَتَطَايُرُ الكتبِ‌ يعني:‌ فتح‌ صحائف‌ الأعمال‌ ونشرها، فحينها ينشغل فيها الإنسان عن أهله وأقاربه وأحبابه وأصدقائه، يقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(عبس:34-37).

ويخبر الله تعالى في القرآن الكريم عن تطاير الصحف ونشرها بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ(التكوير:10).

وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا(الانشقاق:7-12).

وقال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(الإسراء:‌13-14).

وقد ورد في‌ تفسير الآيتين
﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ...(الإسراء:13) مَعْنَاهُ: وَأَلْزَمْنَا كُلَّ إِنْسَانٍ عَمَلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فِي‌ عُنُقِهِ كَالطَّوْقِ لاَ يُفَارِقُهُ وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْعَمَلِ: طَائِرٌ عَلَى‌ عَادَةِ العَرَبِ فِي‌ قَوْلِهِمْ: جَرَى طَائِرُهُ بِكَذَا. مجمع‌ البيان‌.

موقف نشر الكتب في الروايات
جاءت الروايات بمشاهد تفصيلية تُصَوِّر ما يجري عند نشر صحائف الأعمال، وما يكون من حوار بين العبد المنشور صحيفته وربِّه، ومن هذه الروايات ما رواه عليُّ بن أبي حمزة سالم البطائني قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

"إنَّ الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يحاسب المؤمن أعطاه كتابه بيمينه وحاسبه فيما بينه وبينه، فيقول: عبدي فعلتَ كذا وكذا، وعملتَ كذا وكذا؟
فيقول: نعم يا ربِّ قد فعلتُ ذلك.
فيقول: قد غفرتُها لك، وأبدلتُها حسنات.
فيقول الناس: سبحان الله، أما كان لهذا العبد سيِّئةٌ واحدة؟!!
وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا(الانشقاق:7-9).
قلت: أيّ أهل؟
قال عليه السلام: أهله في الدنيا هم أهله في الجنة إن كانوا مؤمنين.
قال عليه السلام: وإذا أراد بعبد شراً حاسبه على رؤوس الناس وبكته1، وأعطاه كتابه بشماله. وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا(الانشقاق:10-13).
قلت: أيّ أهل؟، قال عليه السلام: أهله في الدنيا.
قلت قوله: ﴿إنََّه ظنَّ أن لن يحور، قال عليه السلام: ظنَّ أنََّه لن يرجع"2.

صفة صحيفة الأعمال
للمتأمل في ما ورد من الروايات والآيات القرآنية الكريمة أن يلاحظ عدة صفات أساسية لهذه الصحف التي ستنشر منها:

1- الدقة في الإحصاء
وهذا الكتاب الذي يتلقاه الإنسان كتاب دقيق، وفيه إحصاءٌ شامل متكامل لكلِّ ما صدر عنه، قال تعالى ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ(القمر:52-53).

وسبب الدقّة‌ في‌ التدوين‌، هو أنَّ الله‌ تعالى قد أوكل ملائكة تحصي على الناس جميع‌ الأعمال‌ الظاهريّة‌ والباطنيّة، فعن أمير المؤمنين‌ ومولى الموحدين عليه السلام في دعاء كميل بن زياد: "وَكُلَّ سَيِّئَةٍ أَمَرْتَ بِإِثْبَاتِهَا الكِرَامَ الكَاتِبِينَ الَّذِينَ وَكَّلْتَهُمْ بِحِفْظِ مَا يَكُونُ مِنِّي‌ وَجَعَلْتَهُمْ شُهُوداً عَلَي‌َّ مَعَ جَوَارِحِي‌"3. وليس هذا فحسب، بل إنَّ الله تعالى هو الرقيب من ورائهم. "وَكُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَي‌َّ مِنْ وَرَائِهِمْ وَالشَّاهِدَ لِمَا خَفِي‌َ عَنْهُمْ".

ويقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(المجادلة‌:‌ 6)، فهو الذي لا يشغله شيء عن شيء، ويسمع الأنين والشكوى ويعلم السرَّ وأخفى.

وعن الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام قال: "ونستغفره مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه، علم غير قاصر وكتاب غير مغادر"4.

2- الحجة القاطعة
إنَّ حجة الكتاب قاطعة، بحيث لا يرتاب فيها قارئه، ولو كان هو المجرم نفسه، وكيف لا وفيه معاينة نفس العمل وبه الجزاء، قال تعالى: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(التحريم:7).

3- شموله للحسنات وللسيئات

تدوَّن في الكتاب كلُّ أعمال الإنسان، سواء كانت حسنة أم قبيحة، فليس الكتاب إلا مجرد إحصاء لأعمال الإنسان كما قال تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(الجاثية: 29.).

فالذي‌ بني‌ مسجداً سيدوَّن في كتابه بناء مسجد، وتسجَّل له الحسنات طالما هناك من يصلي في المسجد، وكذلك هو حال من يدون كتابا‌ً، أو يشيّد‌ جسراً لعبور الناس‌، وهذا ما يعبَّر عنه بالصدقات الجارية، وقد جاء في‌ الرواية‌ عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ عَنْ ثَلاَثٍ، وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَصَدَقَةٌ جَارِيَةٌ"5.

وتدوَّن‌ في‌ صحيفة‌ العمل‌ أعمال‌ كثيرة‌ لم‌ يقم‌ بها بنفسه‌، وهي‌ الأعمال‌ التي‌ يقوم‌ بها الناس‌ إثر ترغيبه‌ إيّاهم‌ في‌ القيام‌ بها.

عن‌ الإمام‌ محمّد الباقر عليه السلام في‌ تفسير الآية‌ الشريفة‌: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ(القيامة‌:‌13)، قال عليه السلام‌: "بِمَا قَدَّمَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَمَا أَخَّرَ فِيمَا سَنَّ مِنْ سُنَّةٍ لِيُسْتَنَّ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنْ كَانَ شَرَّاً كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِهِمْ وَلاَ يُنْقِصُ مِنْ وِزْرِهِمْ شَيْئاً، وَإِنْ كَانَ خَيْراً كَانَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ وَلاَ يُنْقِصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً"6.

كيف يرى الإنسان عمله؟
عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: "إذا كان يوم القيامة دُفع إلى الإنسان كتابه، ثمّ قيل له: اقرأه. قيل: فيعرف ما فيه؟، فقال عليه السلام: إنََّه يذكره، فما من لحظة ولا كلمة ولا نقلِِ قدم ولا شيء فعله إلا ذكره، كأنَّه فعله تلك الساعة، فلذلك قالوا: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا(الكهف:49)7.

أخذ الكتب باليمين أو بالشمال
أشار القرآن الكريم إلى أنَّ الناس يأخذون كتبهم التي هي صحائف أعمالهم يوم القيامة، فبين آخذ كتابه باليمين، وآخذ كتابه بالشمال من وراء ظهره.  قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيه * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيه * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه * يَالَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(الحاقة:19-33).

وقال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ(الانشقاق:7- 14).

فإذا أخذ الإنسان كتابه بيمينه، فإنَّه يكون من الفالحين، وفي هذه اللحظة يبلغ أعلى درجات السعادة، وكأنَّه يريد أن يعلم كلُّ الحاضرين في الموقف بهذا الفوز، ويصف لنا القرآن الكريم هذه الحالة: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(الحاقة:19-22).

وأما من يأخذه بشماله فهو من الخاسرين، ويكون في هذه اللحظة أسوء لحظة يمر بها، ويتمنى أن لا يعطَ الكتاب ليصاب بهذا الخزي الكبير، يقول تعالى في محكم آياته واصفاً حالته: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـاَبُه وبِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَـا لَيْتَنِي‌ لَمْ أُوتَ كِتَـابِيَهْ * ولَمْ اَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَـا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَآ أَغْنَي عَنِّي‌ مَالِيَه‌ * هَلَكَ عَنِّي‌ سُلْطَـانِيَه(الحاقّة:25-29).

وبما أنَّ اليمين‌ تعني‌ في‌ العربيّة‌ التفاؤل‌ بأُمور الخير والسعادة‌ والعافية‌ والرحمة‌ والبركة‌، وأنَّ الشمال‌ تعني‌ التشاؤم‌ بالمصائب‌ والذلِّ والهوان‌، فقد كُنِّي‌ عن‌ السعادة‌ والشقاء بجهتَي‌ اليمين‌ والشمال‌، فصارت‌ كتبهم‌ تصلهم‌ من‌ جهة‌ السعادة‌ والرحمة‌ والعافية‌ والسلامة‌، أو من‌ جهة‌ الشقاء والذلِّ والنكبة‌.

وقد اعتبرت‌ طائفة‌ كبيرة‌ من‌ المحدِّثين‌ والمفسِّرين‌ اليمين‌ والشمال‌ في‌ هذه‌ الآيات‌ بمعني‌ اليد اليمني‌ واليد اليسري‌، وقالوا بأنَّ المراد هو أنَّ أهل‌ الجنّة‌ يُعطون‌ كتبهم‌ في‌ أيمانهم‌، وأهل‌ النَّار يُعطَوْن‌ كتبهم‌ في‌ شمائلهم‌.

أخذ الكتب وراء الظهر
قال تعالى مبينا ذلك ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا(الإنشقاق:10-13).

فإنَّ المجرمين عندما يُعطَوْن كتبهم بشمائلهم، فإنَّهم ولشدة حيائهم من أنفسهم ومما في هذه الكتب من قبيح الأعمال، يجعلون أيديهم وراء ظهورهم حتى تقلَّ رؤية الجمع لهذا السند، سند الجريمة والفضيحة، أو لأنَّ أيدي الشمال مـغـلـولـة وراء ظهورهم فكما أنَّهم جعلوا كتاب اللّه وراء ظهورهم في الحياة الدنيا فهنا تجعل كتب أعمالهم وراء ظهورهم...

كتب في عليِّين وأخرى في سجِّين
ذكرت الآيات في سورة المطففين كتاب أعمال الفجار: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ(المطففين:7-9).

وبعد عدة آيات من نفس السورة ذكرت كتاب أعمال الأبرار: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ(المطففين:18-21).

والمقصود بـ سِجِّين: كـتاب جامع تجمع فيه كتب أعمال جميعِ الفجَّار، فإنَّ هذا الكتاب كمثل السجلِِّ العام الذي يسجَّل فيه حساب جميع الدائنين والمدينين.

أمـا (عِلِّيِّين) فبحسب قول بعض المفسِّرين إنَّ المراد بعليِّين أعلى أماكن الجنة أو أعلى مكان في السماء، والمعنى أنَّ عليِّين كذلك يعني: السجل الكبير الذي تجمع فيه كـتـب أعمال الأبرار والـصَّالحين وهو سجل عالي المرتبة والمقام.

هو موقف لا يذكر فيه أحدٌ أحداً
فهو موقف لشدَّة وقعه على النفوس، وما يصاب به المرء من الإنشغال بنفسه وعمله، وما سيئول إليه أمره، ينسى كلَّ من كان يهتمُّ لأمره في الدنيا، جاء في النبوي: "أمَّا في ثلاثة مواطن فلا يذكرُ أحدٌ أحداً: عند الميزان، حتى يعلم أيخفُّ ميزانه أم يثقل؟، وعند الكتاب حين يقال: ﴿... هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ﴾(الحاقة:19)، حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره؟ وعند الصراط إذا وضع بين ظهراني جهنم، حافتاه كلاليب كثيرة وحسك كثيرة، يحبس الله بها من يشاء من خلقه حتى يعلم أينجو أم لا"8.

حبّ أهل البيت عليهم السلام نافع في ذلك الموقف
وحبُّ أهل البيت عليهم السلام يظهر أثره في الآخرة في مواطن الخوف والفزع الأكبر، ففي الرواية عن جابر عن الرسول المصطفى الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من رزقه اللّـه، حبَّ الأئمة من أهل بيتي، فقد أصاب خير الدنيا والآخرة.. فلا يشكّنَّ أحدٌ أنَّه في الجنة، فإنَّ في حبِّ أهل بيتي، عشرين خصلة: عشرٌ منها في الدنيا، وعشرٌ في الآخرة، أما التي في الدنيا فالزهد، والحرص على العمل، والورع في الدين، والرغبة في العبادة، والتوبة قبل الموت، والنشاط في قيام الليل، واليأس مما في أيدي الناس، والحفظ لأمر اللّـه ونهيه عزَّ وجلَّ، والتاسعة بغض الدنيا، والعاشرة السخاء، وأمَّا في الآخرة: فلا يُنشر له ديوان، ولا يُنصب له ميزان، ويُعطى كتابه بيمينه، ويُكتب له براءة من النار، ويبيض وجهه، ويُكسى من حلل الجنة، ويشفع في مائةٍ من أهل بيته، وينظر اللّـه عزّ وجلّ إليه بالرَّحمة، ويُتوَّج من تيجان الجنة، والعاشرة يدخل الجنَّة بغير حساب، فطوبى لمحبِّ أهل بيتي"9.

وعن الإمام الرضا عليه السلام : "مَن زارني على بعد داري أتيته يوم القيامة في ثلاثِ مواطن حتّى أخلَّصه من أهوالها:إذا تطايرت الكتب يميناً وشمالاً، وعند الصراط، وعند الميزان"10.

كتاب للأمم أيضاً

وفي يوم القيامة تُنشَر صحف الأعمال، فيخرج الله سبحانه لكلّ اُمّةٍ كتاباً ينطق بجميع أقوالهم وحقائق أفعالهم، قال تعالى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(الجاثية:28-29).

أشعار الحكمة
ليس الغريب غريب الشام واليمن        إنَّ الغريب غريب اللحد والكفنِ
سفري بعيـدٌ وزادي لن يبلغنّي           وقوَّتي ضعفت والموت يطلبني
ولي بقايا ذنوبٍ لست أعرفها            الله يعلمها فـي السـر والعلـنِ
ما أحلمَ الله عني حيثُ أمهلني            وقد تماديتُ في ذنبي ويسترني
تمرُّ ساعات أيامـي بلا نـدمٍ               ولا بكـاءٍ ولا خـوفٍ ولا حـزنِ
أنا الذي يغلقُ الأبـوابَ مجتهداً           علـى المعاصي وعينُ الله تنظرني
دعني أنوحُ على نفسي وأندبُهـا         وأقطع الدهر بالتفكيرِ والحـزن
كأنني بين تلك الأهل منطـرحٌ            علـى الفـراش وأيديهم تقلّبنـِي
واستخرج الروح مني في تغرغُرها      وصار ريقي مريراً حين غرغَرني
واشتدَّ نزعي وصارَ الموتُ يجذبها       من كل عرقٍ بلا رفق ولا هونِ
وسل روحي وظل الجسم منطرحاً         بيـن الأهالـي وأيديهـم تقلبني
وأضجعوني على الألواحِ منطرحاً        وقام في الحال منهم من يغسّلني
وألبسونـي ثيابـاً لا كمام لهـا             وصار زادي حنوطاً حين حنطني
وحملونـي على الأكتافِ أربعة           من الرجال وخلفي من يشيعني
وقدمّوني إلى المحرابِ وانصرفوا       خلف الإمام وصلّى ثـمَّ ودّعني
صلّوا عليّ صلاةً لا ركوع لهـا          ولا سجودا ً لعل اللـه يرحمنـي
وأنزلوني إلى قبري على مهلٍ          وقـدّمـوا واحـداً منهم يلحِّدني
وهالني إذ رأت عيناي إذ نظرت        من هول مطلّـع إذ كان أغفلني


قصة للعبرة
كان عليُّ بن الحسين عليه السلام إذا أذنب العبد والأمَة يكتب عنده: أذنَبَ فُلانٌ، أذنَبَت فلانة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه، فيجتمع عليهم الأدب، حتّى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله، ثمَّ أظهر الكتاب، ثمَّ قال يا فلان فعلت كذا وكذا، ولم أُؤدّبك أتذكر ذلك؟
فيقول: بلى يا بن رسول الله. حتّى يأتي على آخرهم..
ثمّ يقوم وسطهم، ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم، وقولوا: يا عليُّ بن الحسين إنَّ ربَّك قد أحصى عليك كلَّ ما عملت، كما أحصيت علينا كلَّ ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحقّ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً مما أتيت إلاَّ أحصاها، وتجد كلما عملتَ لديه حاضراً، كما وجدنا كلما عملنا لديك حاضراً، فاعفُ عنَّا تجده عفوّاً، وبك رحيماً، ولك غفوراً، ولا يظلم ربُّك أحداً، كما لديك كتاب ينطق علينا بالحقّ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة مما أتيناها إلاّ أحصاها، فاذكر يا عليُّ بن الحسين ذُلَّ مقامك بين يَدي ربّك الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال حبّةٍ من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعفُ واصفَح يعفُ عنك المليك ويصفح، فإنََّه يقول: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(النور:22).
قال: وهو ينادي بذلك على نفسه، ويلقِّنهم، وهم ينادون معه، وهو واقفٌ بينهم يبكي وينوح ويقول: ربّ إنَّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا فقد ظلمنا أنفسنا، فنحن قد عفونا عمّن ظلمنا كما أمرت، فاعف عنَّا فإنّك أولى بذلك منَّا ومن المأمورين، وأمرتنا أنْ لا نَرُدّ سائِلاً عن أبوابنا وقد أتيناك سؤّالاً ومساكين، وقد أنخنا بفنائِك وبِبَابك نَطلُب نَائِلك ومعرُوفَك وعطاءَك فامنن بذلك علينا ولا تخيِّبنَا، فإنََّك أولى بذلك مِنَّا ومِنَ المأمورين،إلهي كرمتُ فأكرمني إذ كنت من سؤّالك، وجُدتُ بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم.
ثمّ يقبل عليهم، فيقول: قد عفوتُ عنكم، فهل عفوتم عني، ومما كان مني إليكم من سوء ملكة، فإنني مليك سوء لئيم ظالم مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضل؟
فيقول: قد عفونا عنك يا سيدنا، وما أسأت.
فيقول لهم: قولوا: اللهمّ اعف عن عليِّ بن الحسين كما عفا عنَّا، واعتقه من النار كما اعتق رقابنا من الرق..

* رحلة الآخرة, إعداد ونشر جمعية المعارف الثقافية, ط1, تشرين الأول 2008م, ص 67-79.


1- غلبه بالحجة.
2- المجلسي  محمد باقر  بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة  ج7، ص325.
3- القمي  عباس  مفاتيح الجنان.
4- نهج البلاغة: خطبة 114.
5- النمازي  علي  مستدرك سفينة البحار  مؤسسة النشر الإسلامي ج9، ص469.
6- القمي  علي بن إبراهيم  تفسير القمي  منشورات مكتبة الهدى ج2، ص397.
7- المجلسي  محمد باقر  بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة  ج7، ص315.
8- المتقي الهندي  كنز العمال  مؤسسة الرسالة  بيروت  لبنان  ج14، ص382.
9- المجلسي  محمد باقر  بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة  ج27، ص163.
10- المجلسي  محمد باقر  بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة  ج99، ص34.
2009-08-05