يتم التحميل...

الميزان

يوم القيامة

سنتحدث في هذا الدرس عن الميزان في اللغة والاصطلاح، وأدلَّة إثبات الميزان من كتاب الله تعالى، والروايات الشريفة، وصفة الميزان، وما يوزن فيه، والردُّ على من ينكره، ومرجِّحات الميزان، ومتى تنصب الموازين؟، ولمن تنصب؟ وكيفية الوزن...

عدد الزوار: 133

تمهيد
سنتحدث في هذا الدرس عن الميزان في اللغة والاصطلاح، وأدلَّة إثبات الميزان من كتاب الله تعالى، والروايات الشريفة، وصفة الميزان، وما يوزن فيه، والردُّ على من ينكره، ومرجِّحات الميزان، ومتى تنصب الموازين؟، ولمن تنصب؟ وكيفية الوزن.

هذه الأسئلة سنحاول أن نسلِّط الضوء عليها، سائلين الله تعالى أن يجعلنا ممن ثقل ميزانهم بالحسنات والأجر، إنَّه لطيفٌ رحيم.

المقصود من الميزان
الميزان في اللغة اسم آلة يوزن بها الشيء، والمراد به في الآيات عبارة عمّا يعرف به مقادير الأعمال، وليس علينا البحث عن كيفيَّته، بل نؤمن به ونفوِّض كيفيَّته إلى الله تعالى.

يقول صدر المتألهين: "إنَّ حقيقة الميزان ليس يجب أن يكون البتة مما له شكل مخصوص، أو صورة جسمانية، فإنَّ حقيقة معناه وروحه وسّره، هو ما يقاس ويوزن به الشيء، والشيء أعمُّ من أن يكون جسمانياً أو غير جسماني، فكما أنَّ القبَّان، وذا الكفتين وغيرهما ميزان للأثقال،... فكذلك علم المنطق ميزان للفكر في العلوم النظرية، وعلم النحو ميزان للإعراب والبناء، والعروض ميزان للشعر، والحسّ ميزان لبعض المدركات، والعقل الكامل ميزان لجميع الأشياء، وبالجملة ميزان كل شيء يكون من جنسه، فالموازين مختلفة، والميزان المذكور في القرآن ينبغي أن يحمل على أشرف الموازين، وهو ميزان يوم الحساب، كما دلَّ عليه قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(الأنبياء:47). وهو ميزان العلوم، وميزان الأعمال القلبية، الناشئة من الأعمال البدنية"1.

"وإذا كان البشر قد اخترعوا موازين للأعراض كالحرِّ والبرد، أفي عجز الخالق البارئ القادر على كل شيء، عن وضع ميزانٍ للأعمال النفسانية والبدنية، المعبَّر عنها بالحسنات والسيئات بما أحدثته في الأنفس من الأخلاق والصفات"2.

ميزان أم موازين؟
يلاحَظ ورود الميزان في القرآن الكريم بصيغة الجمع، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ(القارعة:6-11)، فما هو المراد من هذا الجمع؟

المـوازيـن: جـمع ميزان، وهو الوسيلة لقياس الأشياء، وهذا التعبير يدل على أنَّ في ذلك اليوم لا يوجد مـيـزان واحـد للأعمال، بل هناك عدة موازين، وقد يكون المراد من تعدد الموازين أن يكون لكل إنسان، أو لكلِّ أمَّةٍ، أو عملٍ، ميزاناً، فالصلاة مثلاً توزن بميزان، وكذلك الصيام والحجُّ والجهاد، أي لكلِِّ واحدٍ منها ميزان خاص.

وقد قال بعض المفسرين: إنَّ السبب في ذكر الله تعالى الميزان بصيغة الجمع، هو أنَّ لكلِّ نوع من أنواع الطاعات ميزاناً، فيقام لكل منها هناك ميزان، فالله سبحانه يخبر عن أنَّه وضع لكلِّ شيء ميزاناً يقدّر به، من غير فرق بين أن يكون جسماً أو قولاً أو فعلاً أو عقيدة، فلكلِّ شيءٍ ميزانٌ يميّز به الحقّ من الباطل، والصدق من الكذب، والعدل من الظلم، والرذيلة من الفضيلة.

وقـيـل: إنَّ الـمـيزان هو واحد لا أكثر، والدليل على هذا القول بعض الروايات في هذا المجال، وما صيغة الجمع (موازين) إلا لبيان عظمة الميزان.

الإختلاف في تحديد معنى الميزان
وأصل الميزان لا خلاف فيه، لكن وقع الاختلاف في مفهومه ومعناه على أقوال، أهمها:

أوّلاً: إنَّ في القيامة موازين كموازين الدنيا، لكلِّ ميزان لسان وكفَّتان، تُوزَن به أعمال العباد من الحسنات والسيئات، أخذاً بظاهر اللَّفظ، واختلفوا في الموزون هل هو الأعمال، أو صحائف الأعمال.

ثانياً: الميزان كناية عن العدل في الآخرة، وأنَّه لا ظلم فيها على أحدٍ، ووضع الموازين هو وضع العدل، وثقلها رجحان الأعمال بكونها حسنات، وخفّتها مرجوحيَّتها بكونها سيئات، وجـاء فـي حـديـث عـن الإمام الـصـادق عليه السلام: أنَّهُ سئل عنِ الميزان، فقال: "الميزان العدل"3.

ثالثاً: الميزان: هو الحساب، وثقل الميزان وخفَّته، كناية عن قلّة الحساب وكثرته، لما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: " ومعنى قوله:﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(الأعراف:8)،﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(الأعراف:9)، فهو قلَّة الحساب وكثرته، والناس يومئذ على طبقات ومنازل، فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً، ومنهم الَّذين يدخلون الجنَّة بغير حساب، لأنَّهم لم يتلبسوا من أمر الدنيا بشيء، وإنَّما الحساب هناك على من تلبَّس بها ههنا، ومنهم من يحاسب على النقير والقطمير، ويصير إلى عذاب السَّعير، ومنهم أئمة الكفر وقادة الضلالة، فأولئك لا يقيم لهم يوم القيامة وزناً، ولا يعبأ بهم، لأنَّهم لم يعبأوا بأمره ونهيه، ويوم القيامة هم في جهنَّم خالدون، تلفح وجوههم النَّار، وهم فيها كالحون"4.

رابعاً: الموازين: الأنبياء، والأوصياء، لما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(الأنبياء:47) قال: "الموازين: هم الأنبياء والأوصياء"5.

كيف يكون الجمع بين كل هذه الأحاديث والأقوال؟  فقد ورد في بعضها: إنَّ الميزان بمعنى الوجود المقدَّس للأئمة المعصومين صلى الله عليه وسلم، ففي الزيارة نزور أمير المؤمنين عليه السلام قائلين: "السلام على يعسوب الإيمان وميزان الأعمال، وسيف ذي الجلال"6.

إنَّ تفسير الميزان بالعدل، أو بالنبي، أو بالقرآن، كلّها تفاسير بالمصداق، فليس للميزان إلاّ معنى واحد هو: ما يوزن به الشيء، وهو يختلف حسب اختلاف الموزون.

وعلى ضوء هذا، فالقرآن الكريم ميزان، كما أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ميزان، والإمام المعصوم عليه السلام ميزان،ويـعـتـقد بعض المحققين أنَّ الأئمة المعصومين عليهم السلام وأولياء اللّه بمنزلة كفة الميزان الأولى، وأعمال الإنسان وعقائده ونياته بمنزلة الكفة الأخرى، فيوازن بينهما يوم القيامة.

فتقام الموازنة بين الناس من جهة، وأولياء اللّه من جهة أخرى، فكلَّما كانت أعمالنا وعقائدنا شبيهة ومقاربة لأولياء اللّه، فسيكون ميزان عملنا ثقيلاً، وهذا ما يتناسب مع قوله تعالى: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(الأعراف:9)، ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(الأعراف:8).

الميزان الدنيوي للإيمان
وقد جعل الله تعالى لتشخيص الإنسان صحة عقائده وأخلاقه وأعماله موازين، كالكتاب والسنّة والعقل، فقد روي أنَّ الإمام الباقر عليه السلام قال لبعض أصحابه:" إعرض نفسك على ما في كتاب الله، فإن كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبه، خائفاً من تخويفه، فاثبت وأبشر، فإنَّه لا يضرُّك ما قيل فيك، وإن كنت مبائناً للقرآن، فماذا الّذي يغرُّك من نفسك "7.

لمن تنصب الموازين؟
إنَّ نصب الموازين ليست مسألةً عامة لكل الناس على حدٍّ سواء، بل هي للمسلمين فقط، فلا يقام للكافرين والمشركين وزن يوم القيامة، بل تبطل أعمالهم، ويحشرون إلى جهنّم زمراً. قال تعالى: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلأ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً(الكهف:105).

وعن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: "اعلموا عباد الله أنَّ أهل الشرك لا تُنصَب لهم الموازين، ولا تُنشَر لهم الدواوين، وإنَّما يحشرون إلى جهنَّم زمراً، وإنَّما نَصْبُ الموازين، ونَشْرُ الدواوين، لأهل الإسلام، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يحبَّ زهرة الدنيا وعاجلها لأحدٍ من أوليائه، ولم يرغِّبهم فيها، وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها، وإنَّما خلق الدنيا وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيُّهم أحسنُ عملاً لآخرته، وأيم الله لقد ضرب لكم فيه الأمثال، وصرَّف الآيات لقومٍ يعقلون، ولا قوّة إلا بالله... "8.

ما هي الأعمال الثقيلة في الميزان؟
يـلاحـظ في الروايات تعابير مختلفة حول الأعمال الثقيلة في الميزان، ومن جملة هذه الأعمال:

1- الشهادة بوحدانية اللّه ونبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
فقد جـاء فـي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام في باب الشهادة بوحدانية اللّه ونبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قـال:"نحمده بالحمد الذي ارتضاه من خلقه، وأوجب قبوله على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله، شهادتان ترفعان القول وتضاعفان العمل، خفَّ ميزان ترفعان منه، وثقل ميزان توضعان فيه، وبهما الفوز بالجنَّة والنَّجاة من النار"9.

2- ذكر الله تعالى
ورد في بعض الروايات أنَّ بعض الأذكار مثل: الحمد للّه، وسبحان اللّه، واللّه أكبر، وكذلك لا إله إلا اللّه، تملأ ميزان العمل يوم القيامة.

ويـسـتفاد من الأحاديث السابقة، وكثير من الأحاديث الأخرى، بأنَّ العمل قد يكون صغيراً، ولكن له أهمية كبيرة، يجعل ميزان العمل ثـقـيـلاً، ويـملأ كفَّتيه، بحيث إنَّ تمرة واحدة تنفق بإخلاص لوجه اللّه تعالى، وابتغاء مرضاته، تملأ كفَّة ميزان العدل الإلهي، الَّذي يملأ ما بين المشرق والمغرب.

ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تصدَّقوا ولو بصاعٍ من تمر، ولو ببعض صاع، ولو بقبضة، ولو ببعض قبضة، ولو بتمرة، ولو بشقِّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة لينة، فإنَّ أحدكم لاقِ الله فقائل له: ألم أفعل بك ؟ ألم أجعلك سميعاً بصيراً ؟ ألم أجعل لك مالاً وولداً ؟ فيقول: بلى، فيقول الله تبارك وتعالى: فانظر ما قدمت لنفسك، قال: فينظر قدَّامه وخلفه، وعن يمينه وعن شماله، فلا يجد شيئاً يقي به وجهه من النار"10.

فانظر إلى شق التمرة وأثره يوم القيامة، وما ينميه من الأجر الجزيل عند الله تعالى على ما تراه من قله هذا العمل، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "...حتى أنَّ الرجل ليتصدق بالتمرة أو بشقِّ تمرة فاربيها له كما يربي الرجل فلوه وفصيله"11.

3- الصلاة على محمد وآل محمد
عن الإمام محمّد الباقر أو الإمام الصادق عليه السلام: "ما في الميزان شيءٌ أثقل من الصلاة على محمد وآل محمد، وإنَّ الرجل لتوضع أعماله في الميزان فتميل به، فيخرج صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه فيضعها في ميزانه فيرجح به"12.

4- حبُّ النبي وآله
ومن المواطن التي تظهر فيها آثار مودَّتهم صلى الله عليه وآله وسلم، هي الميزان يوم القيامة، ففي الحديث عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وسلم:"حبِّي وحبُّ أهل بيتي نافع في سبعة مواطن أهوالهنَّ عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط"13.

5- حسن الخلق
ففي الرواية عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وسلم:"ما من شئ أثقل في الميزان من خلق حسن"14.

6- مداد العلماء
إنَّ مداد العلماء لما فيها من صلاح للأمة، ولما لها من أثركبير في إيمان الناس، كانت أثقل من كثير من الأعمال التي لا يستقل بما فيها من المثوبة والجزاء، ومن ذلك دماء الشهداء على منزلة وعظمة تلك الدماء،فعن الإمام الصادق عليه السلام:"إذا كان يوم القيامة جمع الله عزَّ وجلَّ الناس في صعيد واحد، وضعت الموازين، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء"15.

أشعار الحكمة
النفسُ تبكي على الدنيا وقد علمت         أنَّ السعادة فيها ترك ما فيها
لا دارَ للمرءِ بعد الموت يسكُنها            إلا التي كانَ قبل الموتِ بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنُها               وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعُها              دورنا لخراب الدهر نبنيها
أين الملوك التي كانت مسلطنَةً            حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
كم من مدائنَ في الآفاق قد بنيت          أمست خراباً وأفنى الموتُ أهليها
لا تركَنَنَّ إلى الدنيا وما فيها               فالموت لا شك يُفنينا ويُفنيها
لكلِّ نفس وإن كانت على وجلٍ            من المَنِيَّةِ آمالٌ تقوِّيها
المرء يبسطها والدهر يقبضُها           والنفس تنشرها والموت يطويها

* رحلة الآخرة, إعداد ونشر جمعية المعارف الثقافية, ط1, تشرين الأول 2008م, ص 81-91.


1- الأسفار، ج9 ص 299.
2- المنار، ج 8، ص 323.
3- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 20 ص 411.
4- المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة - ج 90 ص 105.
5- المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة - ج 7 ص 243.
6- الميرزا النوري - مستدرك الوسائل - مؤسسة آل البيت عليه السلام لإحياء التراث - بيروت - لبنان - ج 10 ص 222.
7- المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة - ج 75 ص 163.
8- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 8 ص 75.
9- م. ن. ج 8 ص 19.
10- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 4 ص 4.
11- م. ن. ج 4 ص 47.
12- م. ن. ج 2 ص 494.
13- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 1 ص 518.
14- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 1 ص 799.
15- المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة - ج 2 ص 14.
2009-08-05